كل عام يطرح نفس الموضوع، ويظل كل صاحب رأي على رأيه، لكن تزداد حدة الموضوع عندما يكون هناك انقسام طائفي في أي بلد، ويتناسى من كانوا بالأمس يهنئون المسيحيين سواء من بعض فصائل التيار الإسلامي الذي كان يفعلها، أو من تيارات أخرى لكنها اقتربت بحكم السياسة، وكانت تحرم ثم اقتربت من ذلك بعد ثورة يناير، ومنهم من بقي على رأيه بالمنع. وكنت قد نشرت تغريدة على تويتر، بينت أن هناك نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية يجيز ذلك، وسوف أتناول أولا الموقف الشرعي الذي أومن به، وتعلمته من أساتذتي، في قضية تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، ثم أعرج بموقف ابن تيمية من القضية.

بداية نوضح أننا نتكلم هنا عن غير مسلم ليس محاربا لنا، ودولته بيننا وبينها عهد وميثاق، حتى لو كانت كنيسته ورؤسائها ضدنا، فهو كمسيحي موقفه مختلف، هذا ما نتكلم عنه، عن مواطن يعيش بيننا، أو عن مواطنين في بلادهم غير مسلمين نحن نقيم في بلدانهم، أو حملنا جنسية بلادهم، ما حكم تهنئتهم بأعيادهم؟

موقفنا من تهنئة غير المسلمين بأعيادهم

هذه قضية اختلف فيها قديما، واختلف فيها حديثا، بين من يحرم ومن يجيز، وإن كنا مع الفريق الذي يجيز ذلك، وهذا لاعتبارات عدة:

1ـ أن الإسلام فرق بين فريقين من غير المسلمين،

بين المحارب، وبين المسالم، فقال عن المسالم: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة: 8، والبر: جماع لكل الخير، والقسط: أعلى درجات العدل. ومن البر: تهنئته بعيده، وفرحه، وتعزيته في أحزانه.

2ـ أجاز الإسلام للمسلم أن يتزوج بغير المسلم الكتابية،

وهذه علاقة تقتضي علاقات أخرى في دائرة الأسرة، وقد قال القرآن الكريم عن هذه العلاقة: (لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) الروم: 21، فمطلوب مني: أن أود امرأتي غير المسلمة وأحبها، حتى لو عاشت معي إلى أن تموت غير مسلمة. وبناء على ذلك: فماذا سيفعل الزوج المسلم بزوجته يوم عيدها، وقد عادت من الكنيسة وصلت العيد، وعادت؟ هل مطلوب منها أن يقابلها بوجه عابس، مقطب الجبين، يلعن لها دينها الذي يقول: إن الله ثالث ثلاثة؟! هل من مقتضيات الرحمة والمودة في يوم عيدها أن يحرمها من فستان العيد؟ أو من (العيدية) المال الذي تنتظره كل زوجة في يوم العيد مثل الأطفال؟! أليس واجبا عليه النفقة في هذا اليوم وقبله وبعده؟ هل يأثم الزوج المسلم على مذهب من يحرم ذلك إذا قام بواجبه كزوج بشراء متطلبات العيد للزوجة في عيدها؟ أم أنه سيعتبر عيده كمسلم هو عيدها فقط؟! لو كان هذا الأمر مقصودا في الإسلام فهو إكراه على الدين، وقال تعالى: (لا إكراه في الدين) البقرة: 256.

3ـ وللزوجة أسرة من أبوين وإخوة،

وهم أجداد أبنائك وأخوالهم وخالاتهم،من الزوجة غير المسلمة، فما المطلوب من أبنائك المسلمين، عندما يلقون أهل أمهم المسيحية يوم عيدهم؟ هل يقابلونهم باللعنات، أم بالتجاهل؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم للسيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق، وكانت أمها مشركة، فقالت: يا رسول الله إن أمي تأتيني وهي راغبة (وهي على الشرك) أفأصلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: صليها. وقال شراح الحديث: راغبة، أي راغبة عن الإسلام، وليست راغبة في الإسلام، وإلا فلن تسأله عن صلة أمها لو كانت ترغب في الإسلام، أم أن المسلم مطالب بمقاطعتهم في هذا اليوم؟!.

لماذا كانت حكمة الإسلام إذن من حله الزواج بالمسيحية واليهودية، ويكون لأبنائك أخوال غير مسلمين، إذا كانت العلاقة ستكون علاقة قطيعة؟!

4ـ مجموع الأدلة والنصوص التى أمرت بالإحسان إلى غير المسلمين المسالمين في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، تشكل مبدأ كليا عاما لا يصح تخصيصه، أو تقييده بنص جزئي خاص، فضلا عن أن يخصص بقول لأحد العلماء قديما أو حديثا.

5ـ لا بد من إخراج المسألة من دائرة العقيدة التي يحكم فيها بالكفر والإيمان، فالصواب أنها من مسائل الفروع التى يحكم فيها بالحل أو الحرمة، وهي مسائل يجرى فيها الخلاف وأنه معتبر، ولا يجوز فيها الإنكار على من تبنى رأيا منها.

6ـ لو كانت تهنئتنا لهم بأعيادهم يعتبر نوعا من الرضا بعقيدتهم لكانت تهنئتهم لنا فى أعيادنا رضا منهم بعقيدتنا، ومعنى ذلك: أنهم صاروا مسلمين؟!!

7ـ قوة وحجية الاجتهاد الجماعي اليوم أهم وأولى من أقوال الفقهاء بصفتهم الفردية، وقد أصدرت هيئات علمية فتاوى تجيز التهنئة بأعياد غير المسلمين في الغرب وغيره، مثل: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وغيره.

موقف ابن تيمية

أما ما ذكره ابن تيمية فقد أشار إليه الشيخ عبد الله بن بيه، ونقله عنه الدكتور خالد حنفي إشارة، وبحثت عنه فوجدته كالتالي: 

قال المرداوي الحنبلي: (وفى تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان. وأطلقهما في (الهداية)، و(المذهب)، و(مسبوك الذهب)، و (المستوعب)، و(الخلاصة)، و(الكافي)، و(المغنى)، و(الشرح)، و(المحرر)، و(النظم)، و(شرح ابن منجى)؛ إحداهما، يحرم. وهو المذهب. صححه في (التصحيح). وجزم به في (الوجيز). وقدمه في (الفروع). والرواية الثانية، لا يحرم، فيكره. وقدمه في (الرعايتين)، و (الحاويين)، في باب الجنائز، ولم يذكر رواية التحريم. وذكر في (الرعايتين)، و(الحاويين) رواية بعدم الكراهة، فيباح. 

وجزم به ابن عبدوس فى (تذكرته). وعنه، يجوز لمصلحة راجحة، كرجاء إسلام. اختاره الشيخ تقى الدين) انظر: الإنصاف للمرداوي (4/234). ونقله غيره من الحنابلة عن ابن تيمية كذلك. وفي عبارة: (وعيادتهم) قال العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود: والعيادة نظير المعايدة. انظر: الفتاوى لابن محمود ص: 551.

وقال ابن تيمية: (لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا. واحتج بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) الفرقان: 72، قال: الشعانين وأعيادهم، فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره، نص عليه أحمد في رواية مهنا، وقال: إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم، فأما ما يباع في الأسواق من المأكل فلا، وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم). انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص: 201. فنرى كلام ابن تيمية هنا عن شهود الأعياد، ودخول الكنائس، فليركز من يقرأ جيدا.

تأملات وتحليلات في موقف ابن تيمية والفقهاء

وقد تبين من الأمر عدة أمور مهمة يجب التفكير فيها بإنصاف وحيدة، من خلال كلام ابن تيمية، والردود على كلامي عنه، ومن النقول التي ينقلها البعض في موضوع تهنئة غير المسلمين، ما يلي:

أولا: لم يرد نص صحيح صريح في جواز أو تحريم التهنئة للمسيحي بعيده. فكلا الطرفين يستشهد بنصوص عامة، تقترب أو تبتعد عن الموضوع، كل بقدر قوة تنظيره وتدليله للموضوع، ومدى استيعابه للنصوص، وإسقاطها على الوقائع.

ثانيا: أن كثيرا منهم ليس ملما بفقه ابن تيمية، بل راحوا يعتمدون على جوجل، وربما على الموسوعة الشاملة، دون اطلاع كامل على تراث الرجل، وفهم خلفيات الفقه، والتباساته، فراح بعضهم يناظر وكأن من ينقل عن ابن تيمية وابن القيم جهلاء، وهم فقط العلماء به.

ثالثا: بعضهم راحوا يكذبون النقول، ويدافعون عن ابن تيمية، مما يعني أهمية الأمر بالنسبة لهم: أهمية ابن تيمية أكثر من النص، ولو ثبت لهم أن ابن تيمية قال ما نقل عنه بيقين، ستراهم يقولون لك بعد ذلك: ابن تيمية ليس حجة! وهو كلام صحيح، لكن متى يستدعى ابن تيمية بنصوصه، ومتى يترك كلامه؟ وما موقع ابن تيمية بنصوصه من نصوص الشرع؟ وما موقعه من غيره من الفقهاء الكبار، وما موقعه من مذهبه أصلا مذهب الإمام أحمد؟!!

رابعا: تظل النقول عن العلماء وجهة نظر وفقه مبنية على أمور مهمة مقدرة في وقتها، فقد بناها من بناها على أنها تعني الرضا باعتقاده، أو المشاركة، ومعلوم أن الحكم يدور مع علته وجودا وانتفاء، فعلة الحكم: الرضا بعقيدة المسيحي، وقد انتفت العلة، فهل يظل الحكم بالمنع مع انتفاء العلة؟!! هذا هو الواجب نقاشه.

خامسا: أراد البعض أن يصرف كلام ابن تيمية وغيره ممن يجيز، أنه قصد بذلك المناسبات الاجتماعية عند غير المسلم، مثل: الزواج، والولادة، والعودة من السفر، وعيادة المريض فقط، وسأنزل معهم للنقاش عند هذا الأمر، وهل هذه أمور اجتماعية لا علاقة لها بدين المسيحي؟! إن الزواج الذي أجاز الفقهاء أن تهنئه به، بالنسبة لك كمسلم زواج غير شرعي، والزواج عند المسيحيين سر كنسي، وأمر لاهوتي، ولا يتم إلا في الكنائس، وبصيغة دينية بحتة.

والولادة، التي أجاز الفقهاء تهنئتهم به، المولود بعد ولادته، يعمد في الكنيسة، ويدق له الصليب على يده، بتفاصيل معلومة للجميع. والسفر الذي يهنأ المسيحي بالعودة منه، قد يكون منه سفر ديني، كأن يقدس، بأن يسافر للقدس، ويحج حج المسيحيين، فكيف ستهنئه بعودته من سفر هو جزء من دينه، أو كان في زيارة لدير لمريم العذراء، وهو أمر يخالف دينك، والتعزية بالموت، جائزة عند عدد من الفقهاء، والموت كذلك له مراسم دينية، فليس مطلوبا منك الحضور، مطلوب منك التعزية، فمراسم التعميد للطفل، ومراسم الحج الديني للمسافر، ومراسم الموت ليس لنا حضورها، وكذلك العيد كقداس، لكن ما يتبع ذلك من أمور اجتماعية منفصلة تماما عن الاعتقاد، فهي مجال النقاش، وهو ما أجازه عدد من الفقهاء، لانفصالها في مخيالهم الفقهي. فكل عيد في كل الديانات فيه شق ديني، وفيه شق اجتماعي، حتى أعياد المسلمين، الشق الديني فقط فيه هو صلاة العيد، والشق الآخر من حيث التهنئة وإدخال السرور على الناس، هو شق اجتماعي، وهو ما علينا أن نفهمه ونفرق فيه بين ما يعتقده غير المسلم، وبين ما نشترك معه فيه من أمور إنسانية واجتماعية تنفصل تماما عن اعتقاده، وموقفنا من هذا الاعتقاد.

سادسا: هناك من يجمدون على كلام الفقهاء دون التأمل في خلفياته، وخلفية القول عندهم أنهم تكلموا عن شهود الأعياد، وهو حضور القداس في الكنيسة، وهو أمر ديني كما أشرت، لكن مشاركة المسيحي بالتهنئة هو أمر اجتماعي من العادات، وليس أمرا دينيا يخص دينه، فهو عندما تقول له: كل سنة وأنت طيب، أو أي صيغة تهنئة من باب عادات الناس، فهي لا تدخل في باب الرضا الديني، أو القناعة الدينية بدينه. وبعض خلفيات من فرقوا أو منعوا، بعضهم فقهاء نشأت نظرتهم نتيجة ممارسات لغير مسلمين في زمانهم، جعلت العلاقة متوترة، وهذه تحتاج لدراسة منفصلة عن نظرة الفقهاء لغير المسلمين، وفقه المواطنة، ولماذا كانت بهذا الشكل، وهل هي الأصل في العلاقة، أم أنها أمر طارئ لظرف طارئ؟!