بيتٌ من الشّعْر، قاله "الأعشى" في معلقته الشهيرة "وَدّعْ هُريْرةَ انّ الرَّكْبَ مُرتَحِلُ"، يُعَدُّ من أبيات الحكمة ومن الأمثال المشهورة والمتداولة على ألسنة المثقفين، والتي يُستشهَدُ بها عادة، عند التّهَكُّم على من يُقدِمُ على مبارزة من هو ليس على مَقاسِه، وعند تَعْيير كل من يدفعه الصّلَفُ والغرور إلى استفزاز من هو أقوى منه : 

                 كَناطِحٍ صَخْرَةً يَوْماً لِيَفْلِقَها *** فَلَمْ يَضِرّْها وأوْهَى قَرْنَه الوَعِلُ

الصورة مأساويّة رغم "كاريكاتوريّتها"، والمشهد شاذّ رغم واقعيّته، والوَعْلُ أو الوَعِلُ هو تَيْسُ الجَبَل: ذَكَرُ الأَرْوَى، وهو نوع من المَعْزِ الجبَلي، له قرْنَان قويّان مُنحَنيان كالسَيفَيْن، والمعنى: أن الرجل الذي يكلّف نفسه مالا سبيل له إليه، وما لا طاقة له به ولا مطمع له فيه، هو كالوَعْل الذي ينطح الصخرة بقرنيْه ليُضْعفها؛ ليفتّتها، فلا يؤثّر فيها شيئا، مهما طال نَطحُه، بل لا يزيد الغَبيُّ على أن يَضُرّ قرنيْه ويؤذيهما، بل قد يُكسرهماويَخسَرهما.  

هذا البيت الشعري الشاهد، أراه ينطبق تماما على توصيف "الحالة اليساريّة " في تونس ..هذا اليسار الذي جهّز قرونه حَصْرًيا لنطح "المقدّس" من الإسلام، ظنًّاً منه أنه سيفلقه بنطحه المأجور وأنه بإمكانه أن "يُغطّي ضَوْءَ الشمس بغِرْبَال،" كما يقول مثلنا الشعبي .

إن مَن تتصَدّعُ من تلاوته، الجبالُ الرواسي، خِشيةً وخشوعًا وتقديسًا وتوقيرًا، ليس بإمكان مثقفين، هُزالَى فكريًّا، أُميّين أخلاقيًّا، مغمورين اجتماعيًّا، قد غَرّهُم أنهم قد هضموا بعض النفايات الثقافية وشفطوا بعض العصارات الفكرية الصّدئة، وسُمِحَ لهم بالظهور في قنوات مشبوهة، أن يخدشوه أويؤثّروا فيه بتعليق أو تعقيب أو رأي،أو طعن، لأن قرونَهم الثقافية والأكاديمية والإعلامية التي ينطحونه بها ويبارزونه بها ، ليست أكثرَ من "سَعْفَة طريّة" يحفرون بها على "القرانيت الأصم".  

 ولكنه الغباء المُؤَدْلج والحقد الأعمى، وتسلّق الشهرة على سُلّم الكذب والافتراء، إن العواءَ والنُّباحَ على السّحاب المتعالي في سمائه، لا يؤذي الغمَام مهْما تكرّر واشتدّ ولا يوقف سيره ولا يستطيع عَصْرَ مائه، ولا يجني منه نابحُه إلا بحّةً في الصّوت وإرهاقا في الحَلْق وإهدارًا للوقت.  

والمشهد الإعلامي عندنا للأسف قد فتح المجال – مَجانًا- ، لكل عاوٍ ونابح و ناطح، ولكل فاحش متفحّش، بذيء اللسان، مريض القلب، ولكل متطاول خبيث، للتنافس على الكيد المستمر والممنهج، جهرةً للإسلام،هذا العملاق الذي أرّق خصومه وهزم مناوئيه ودحرج كل من وقف في طريقه، حائلا دون تمدّده وانتشاره لأنه قَدَرُ الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده.

 

ففي كل مرة، نفاجأ بوُجوهٍ ثقافية وأكاديمية: مراهقة ،مغمورة، ومنسية،عليها غبَرة، ترهقها قتَرة، تتطوّع برفع صوتها، للطعن والتجريح والتشكيك والتهكم على دين هذا الشعب المسلم تحت مسميات مغشوشة قرفنا من سماعها "حرية التعبير وحرية الرأي" التي هي كلمة حقٌ يراد بها باطل، والتي هي من مكتسبات الثورة ومن ثمرات نضال الأحرار.

والغريب أن ضجيجهم وصخبهم، يَحضرُ ويغيبُ، ينخفضُ ويرتفعُ، حسب أجندة معينة فكلما اتجهت نيّة المصلحين والغيارى على الثورة إلى تفعيل مشروع يخدم أهداف الثورة ويساهم في صلاح وإصلاح العباد والبلاد، إلا وترى " تُيوسَنا المثقفة" ترفع قُرونها "السَّعَفيّة" وتبرزُ كما وصفها الشاعر: "كَالهِرِّ يَحْكي اِنْتِفاخًا صَوْلَةَ الأسَدِ" ، وتشرع في النّطْح الغَبيّ، لاحتكار الفُرْجَة واِلْهاء الرأي العام .. وهكذا يُهدَرُ وقت الوطن ويُعطّل جهد الوطنيين.

فإذا كان الصّخرُ أو الصَّفْوان بتعبير القرآن، يُؤْلِمُ قَرْنَ ناطحِه، فان الإسلام قاهرٌ لخصومه، يزداد قوة وجاذبية وانتشارا كلما حاصره الحاقدون، وبارزه المنافقون، ونفخ لإطفاء نوره بأفواههم، مرضى القلوب، ومُعاقيّ العقول.

فمتى يعود الرّشْد الى"التّيوس الوطنية" فتحفظ قُرونَها وتنسحب من مربّع المبارزة، وتلتقط من أرشيف سلفها الهالك الدرسَ والعبرة؟