بالرّغم من التطوّر العلمي الدقيق والثورة المعرفية الهائلة للإنسان إلا أنّه لا يزال عاجزًا عن كشف أسرار العقل والقلب، ولا تزال جدلية المفاضلة بينهما قائمة، فيعتقد البعض - مثلاً - أنّ المرأة أكثرُ عاطفية من الرّجل وكأنّه وصفٌ مذموم، وأنّ الرّجل أكثر عقلانيةً من المرأة وكأنّه وصفٌ محمود، بعيدًا عن الفلسفة الإسلامية في تكاملية العلاقة بين الجنسين، ومعرفة حدود الوصل أو الفصل بين العقل والقلب، فكم من نقاشاتٍ عقيمةٍ أُثيرت في الصّراع بينهما وأيهما أولى وأيّهما قد حاز الشرَفَ.                    
وبينما يرى علماء السّلوك والتربية الرّوحية أنّ الرّوح هي مصدر الفاعلية لكلٍّ من العقل والقلب، فهي التي تشرق بتجلّياتها وأسرارها العلوية على خلايا الجسد فتنبعث الحياة، وتشرق على حجيرات الدّماغ فينبعث العقل والإدراك، وتشرق على عضلة القلب فتنبعث العواطف والأحاسيس وكأنّ العقل محلّه الدّماغ وليس القلب.

إلاّ أنّ التصوّر القرآني في مساحاته التعبيرية الواسعة عن العقل والقلب يثبت نوعًا من العلاقة التلازمية والاقتران النّسبي بينهما، فهو يجعل القلب مركز الفهم والفقه في قوله تعالى: "لهم قلوبٌ لا يفقهون بها.." (الأعراف:179)، ويجعله وسيلة التعقّل والإدراك في قوله تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها.."(الحج:46)، ويجعله أهلاً لتحمّل مسؤولية الفعل المنسوب إليه في قوله تعالى: "ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.."(البقرة:283)، ويجعله مركزًا لتشرّب معاني الاعتقاد من الإيمان أو الكفر في قوله تعالى: "إلا مَن أُكرِه وقلبُه مطمئنٌ بالإيمان." (النحل:106)، ويجعله موطن المشاعر والأحاسيس في قوله تعالى: "وألّف بين قلوبهم، لو أنفقت ما الأرض جميعًا ما ألّفت بين قلوبهم.."(الأنفال:63).      

ولذلك لا نستغرب مَن ينسب إلى القلب جميع الوظائف العقلية، فهو مركز العاطفة والتفكير والعقل والذّاكرة، للعلاقة القويّة بين ما يفهمه الإنسان وما يشعر به.  

وتُطلق على القلب بعض المعاني اللطيفة، مثل الرّوح في قوله تعالى:" وبلغت القلوب الحناجر." (الأحزاب:10)، والعلم والعقل مثل قوله تعالى: "إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب."(ق:37). وليس غريبًا أن تكون هذه اللّطيفة الإلهية هي مدار صلاح الإنسان كلّه، مصداقًا للحديث النبوي الشريف:  ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلُحت صلُح الجسد كلّه، وإذا فسُدت فسُد الجسد كله، ألا وهي القلب."، للدلالة على محوريته في حركة الإنسان، ومركزيته في التأثير على عقله وسلوكه، وأنّه المحرّك لجوارحه والمتحكّم في أداءاتها.                                                                                                         

وهو ما يؤيّد السّبب العلمي في أنّ اليقين العقلي ليس حافزًا وحيدًا للسلوك، وأنّه ليس مؤثّرًا قويًّا في النّهوض بالعمل، فكثيرون هم الذين آمنت عقولُهم ولم تؤمن جوارحُهم فلم يستقم سلوكُهم، كما قال تعالى: "وجحدوا بها واستيقنتها أنفُسُهم ظلمًا وعُلوًّا."(النحل:14)، بل تزاحمها قوّةٌ عاطفية قلبية بأنواعها الثلاثة وهي: القوّة الدّافعة كالحبّ، والقوّة الرّادعة كالخوف، والقوّة الممجّدة كالإعجاب. ولذلك قد تستسلم هذه القوّة العقلية أمام طغيان العواطف والأهواء القلبية فتكون تابعةً لها.                              

وقد أثبتت الاكتشافات العلمية الحديثة أنّ القلب هو مَن يقود العقل، إذ أنّ تغيّر معدّل ضربات القلب لدى الإنسان يؤثّر على مدى حكمته وعقلانية تصرفاته، وهي تشتغل جنبًا إلى جنبٍ مع عملية التفكير.                                                                                                       

كما يؤكد العلماء أنّ كلَّ خليةٍ من خلايا القلب تشكّل مستودعًا للمعلومات والذّكريات، وهو ما جعلهم يتحدثون عن ذاكرة القلب، وأنّ له أداءً مذهلاً في الوظائف التنفيذية للعقل مثل الذّاكرة.وبينما كان يعتقد البعض أنّ الدّماغ هو الذي ينظّم نبضات القلب، إلاّ أنّ العلماء اكتشفوا عند زراعة القلب أنّ نبضه ووظيفته مستقلة عن عمل الدّماغ، والأكثر من ذلك أنّ القلب هو مَن يوجّه الدّماغ عبر الاتصال به من خلال شبكةٍ معقدةٍ من الأعصاب، وأنّ هناك رسائلَ مشتركةً بينهما على شكل إشارات كهربائية يتم من خلالها إرسال المعلومات إلى الدّماغ، وهي التي تلعب دورًا مهمًّا في الفهم والإدراك، وأنهما يعملان بتناسقٍ عجيب وتناغمٍ مبدع، وأنّ أيَّ خللٍ في هذا التناغم يحدث اضطراباتٍ في وظائف الجسم.                                                                                                                          

كلُّ هذا يقودنا إلى الحديث عن أسرار العلاقة تلازمية بين العقل والقلب في جدلية المعرفة، ومنها:                        

بين صفاء القلب وأسرار المعرفة

الأصل في القلب - بالمفهوم المعنوي وليس بالمعنى العضلي - هو الصّفاء على الفطرة التي خُلق عليها، ولكنّ الابتلاء بالدنيا ومعالجة الإنسان للأيام، واحتكاكه بالحياة يجعله عرضةً لتعكّر هذا الصّفو والتلبّس بالكَدَر، وقد جاء التصوير النبوي الشريف لعمق هذه المعاني في قوله عن حُذَيْفَة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا."
فقد ربط بين صفاء القلب وبين المعرفة، وهو الصّفاء الذي يُكسب الإنسان قوّة الرّؤية القلبية بالبصيرة، فكما ترى العين حقائق الأشياء المادية بانعكاس الضّوء عليها يرى القلب حقائق الأشياء المعنوية بانعكاس النّور الإلهي عليها، وقد أثبت القرآن الكريم للقلب الرّؤية والعمى في مثل قوله تعالى: "..فإنّها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور."(الحج:46).
وإذا كان الناس يشتركون في إشراقة الرّوح على خلايا الدّماغ فينبعث الإدراك فإنّهم يختلفون في التجلّيات الإلهية على القلب فتنشأ المعرفة، وبقدر صفاء القلب بالتزكية يكون العطاء الرّباني بالفهم، وبقدر الاستعداد البشري بالأسباب يكون الإمداد الإلهي بالحكمة، "ومَن يُؤتَ الحكمة فقد أُوتي خيرًا كثيرًا"(البقرة:269).                                                                                      

بين حياة القلب ونور المعرفة

للقلب حياةٌ وموت، والقرآن الكريم يصحّح ويدقّق المفاهيم المتعلقة بهما، فيقول مثلاً: "أومَن كان ميّتًا فأحييناه، وجعلنا له نورًا يمشي به في النّاس."(الأنعام:122)، والمقصود بالحياة هنا: حياة القلب بالإيمان والقرآن (النّور الإلهي)، وهو مصدر المعرفة والتلقّي، وقد لخّص الإمام عبد الله بن المبارك المسألة في قوله:                                                    
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوب **** وقد يورث الذلَّ إدمانُها.                                                      
وتركُ الذنوب حياةُ القلـوبِ **** وخيرٌ لنفسكَ عصيــانُها.                                                              
وربط الإمام الشّافعي بين علّة القلب بالمعصية وبين خدش المعرفة بها، فقال:                                  
 شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي *** فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي.                                                  
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نـــــــــورٌ *** وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي.                                                                  

بين عاطفة القلب ورُشد العقل

فأكبر قوّة يتمتّع بها الإنسان هي قوة التحكّم في الذّات، وأعظم ما يجب أن يتحكّم فيه هي العواطف والانفعالات، وهي التي عبّر عنها البيان النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلّم: "ليس القويُّ بالصّرعة، ولكنّ القويَّ الذي يملك نفسه عند الغضب."، ومَن أنعم الله عليه بالتحكّم فيها فقد حاز الرّشد والعقل والمعرفة، قال تعالى: ".. وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ."(الحجرات:07).

كلُّ هذا يدفعنا إلى الحديث بعمق بين العلاقة التلازمية بين القلب والعقل في حقل المعرفة.