إن كان سرُّ العمارة في الحضارة فإنّ سرّ الحضارة يكمن في ازدهار المدنية وبناء الثقافة، فكان لصانعي التمدن وزارعي الثقافة كبيرُ فضلٍ في بنائها و تعميرها كدنيا ..

أرضٌ جدباء جئنا إليها لنزرع الخيرَ والشجر ونُعَبِّدَ الطُرُقَ والقوانين فيربح مَنْ عمّر ويُنسى من يَنسَى وبين هذا وذاك نجد من يُشارُ إليهم بالبنان بأنّهم معمرين ونجد منهم مَنْ هوَ مجهولُ الجهد في الأرض ومعروف الاسم في قائمة المعمّرين .. فمن هم جنود عمارة الأرض المجهولون؟

نجد منهم من تمثلوا في رجالٍ تركوا دفء منازلهم وضَحكات عائلاتهم لأجل حراستنا من المتفلتين والسارقين الناهبين، وحمايتنا من قليلي العقل الذين يتخذون من إخوتهم البشر أعداءً لهم .. هُم من راقبوا الكاميرات وحرسوا الأبواب .. 

نجدهم في عُمّالٍ ينحنون بظهورهم للأرض فترتقي أرواحهم في درجات العُلا؛ يحملون الأوساخ لأجل مدينةٍ أجمل وأكثر صحة.. عمال النظافة الذين لولاهم لما اكتملت صورة المدنية..

جنودٌ سَهِروا الليالي في تعلم العلوم وما ذلك إلا لأجل إيجاد تقنيةٍ جديدة تيسر حياة القادمين في مختلف المجالات، أطرافٌ صناعية وأجهزة قياس صحية منزلية وأجهزة علاج ضخمة؛ جميعها تكونت من قِطَعٍ صغيرة اكتملت بواسطتها المهمة الكبيرة ..

جنودٌ لا تنجح الفعاليات إلا بهم .. دائماً ما نرى الفعاليات ويذهلنا المتحدثون وأصحابُ الإنجازِ. المحاضرات العلمية وإنتاجها العالي، متحدثو منصات تيدكس، المحاضرون في اللقاءات، فجميعهم يقفون موقف المعمرين مَجزيين خيراً لتوصيل جهودهم لكنّ المنصات والتقديم للفعاليات وضبط القاعات لا يتمّ إلا بمتطوعينّ ومرتبينَ أكِفاء بذلوا الجهد لإخراج العمل المرتب!

وآخرين مهمين نجدهم في البرامج الوثائقية عالية الدقة، المسلسلات التاريخية المشوقة، والفن السينمائي الهادف بكل أنواعه.. فدائماً ما يتركز اهتمامنا على البطل أو المحور لكننا نغض الطرف كثيراً عن ما وراء الكواليس، عن أفرادٍ يسهرون لإنجاح العمل وتقديمه بالشكل المتميز النهائي؛ بدءاً من النص الدقيق للبرنامج أو المسلسل، انتقالاً إلى التسجيل والإعداد مروراً بالضيافة والديكور، ختاماً بالفعالية ومنظمي الساحة.. كاتبي النصوص والمحررين، المصورين والفريق العامل أجمع.

إنّ للأعمال الكبيرة ركائزَ مهمة لا ترتفع إلا بها .. جنود عُظماء حفظوا للحضارة ثقافتها؛ مُعلمو الناس الخير، أصدقاء الشباب و بوصلةُ جواهرهم لفعل الطاعات والتسابق للخيرات ونيل الأجر.. من زرعوا حُبّ الكتاب بالصدور و لقّنوا التلاميذ آيات الذِكر و علم الحديث .. 

ختاماً والختام بالخير؛ ننتقلُ إلى جنودٍ عمروا الإنسان الذي يعمر الأرض، قوّموا الأساس فقام البُنيان، أضافوا البناء القويم ماءً لرملِ الإنسان، هم من علّموا "ابن القيّم" وأسسوا "محمد الفاتح" و حفظوا على هذا الدين طريقهُ. 

عرفوا موضع الإعمار وأحسنوا البنيان فنالوا بناء الأوطان وغرس الأجيال؛ هُنّ الأُمهات، ضلعُ آدم الذي يستقيم ليُقَوِمه وينحني ليحميه .. فبارك الله بهنّ وأعانهُنّ ..

 

وهذه نهايةُ بعضٍ من كثير، فلننظر قليلاً حولنا لنجد مِن هؤلاء الجنود أمثلة أخرى. فسلامٌ لكل الساهرين على إعمار الأرض بتسليط الضوء على رموز الأمة أو بناء رموزها متناسين أنفسهم و فائزين بأعظم كنزٍ هو صدق نواياهم.. وسلامٌ وأمنياتُ توفيقٍ لكل من يحملُ بداخله همّ الأمة.