لا شك أن التربية على النهج السليم والخلق العظيم، وإلتزام قيمه وتمثل مبادئه حسا ومعنا، تحتاج إلى القدوة المثالية، إذ هي الشيء الكفيل بضمان الطريق السليم إلى مستقبل زاهر وزاخر يحفظ عقول الناشئة وقيمهم ودينهم، فتهذب الأفراد وترقى بهم، كما تجعل المجتمع وحدة مترابطة عقائدياً ووجدانيا وإجتماعياً.                             
 وإن النأيَ عن إتخاذ القدوة المثالية ونبذها وراء الظهور لسبيل جعل المجتمعات الإسلامية تعاني اليوم من التخبط والتذبذب في إختيار المنهج الذي يصلح للتربية بعدما تركت منهجها، فتراها تارة تسلك هذا المنهج وتارة ذاك المنهج، وكلما رأت مجتمعًا متفوقًا ويبني حضارة انبهروا به وأخذوا منه وعنه، وحدوا حدوه وسلكوا مسلكه، متناسين مناهجهم السامية وقيمهم الفطرية النابعة من كتاب الله وسنة نبيه، التي راعت جميع جوانب الإنسانية بكل ما تحمل الكلمة من معنى في كل مستوياتها، حيث لم تغفل جانبا إلا وأولته حقه ومستحقه فأقامت حضارة راقية بشقيها المعنوي والحسي. 
 

ولذا كان المنهجُ الرباني في إصلاح البشريَّةِ جمعاء – أفرادا ومجتمعات- وهدايتها إلى طريقِ الحق المبين والخلق العظيم، معتمدا على وجود القُدْوَةِ المثالية التي تترجم تعاليم الإسلام ومبادئ الشريعة إلى سلوك عمليٍّ واقعي على مرءى من البشر قاطبة.
 

وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوةَ التي تترجم المنهج الإسلامي إلى صورة مشاهدة وحقيقة مرئية، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ (الأحزاب: 21)، ولما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - عن خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم – قالت: كان خُلُقُهُ القُرآنَ. 
ومن خلال هذا الطرح سنحاول تسليط الضوء على أهمية القدوة وحاجتنا الملحة لها في التربية، إنطلاقا من بيان: مفهوم القدوة وأهميتها في التربية، ومرورا بالقدوة في الكتاب والسنة، ثم النموذج المثالي والأكمل الذي لا يسع الأمة سبيل للعدول عنه.

مفهوم القدوة:

إن الحديث عن مفهوم القدوة إبتداء يدفعنا للحديث عنها من حيث اللغة، إذ الألفاظ والحروف اللغوية قوالب للمعاني الإصطلاحية .
فمن حيث اللغة: القُدوة والقِدوة تقرأ بالضم والكسر وهي تعني من يقتدي به الإنسان ويستن بسنته، فيقال: فلان قدوة يُقتدى به، والقدوة: المثال الذي يتشبه به غيره، فيعمل مثل ما يعمل، ويحذو حذوه في كل صغيرة وكبيرة .
 والقدوة مثل الأسوة، ويقال : تأسيت به إذا إقتديت به، وإتبعته في جميع أفعاله وأقواله، ويعني الإقتداء في كلام العرب بالرجل، إتباع أثره والأخذ بهديه، فيقال : " فلان يقدو فلاناً " إذا نحا نحوه وسار على دربه واتبع أثره.   
 قال ابن فارس رحمه الله: قدو: القاف والدال والحرف المعتل: أصل صحيح يدلُّ على إقتباس بالشيء وإهتداء، ومُقادَرة في الشيء حتى يأتي به مساريًا لغيره. من ذلك قولهم: فلان قُدوةٌ ( بضم القاف وكسرها ): يقتدى به . ويقولون: إن القَدْوَ : الأَصل الذي تتشعب منه الفروع وقال إبن منظور - رحمه الله - : "والقُدْوَةُ والقِدْوةُ : الأُسوةُ . يقال : فلانٌ قُدوة يُقتدَى به".   
نخلص مما تقدم أن القدوة تعني كل ما يتخذه الإنسان مثالاً حياً يهتدي به في سائر أحواله عقيدة وسلوكا.
إصطلاحًا: القدوة هي مثال من الكمال النسبي المطلوب، يثير في الوجدان الإعجاب فتتأثر به تأثراً عميقاً من حيث الحس والمعنى، فتنجذب إليه بصورة تولد في الإنسان القناعة التامة به، والإخلاص الكامل له، فيصبح الإمتثال والإقتداء جبلة وسجية لا ينأ عنه الإنسان أبدا.
المصطلحات المقاربة:
 الأسوة: قال إبن منظور - رحمه الله - : (( الأُسوةُ والإسوةُ : القدوة ، ويقال : إئتسي به، أي : إقتدِ به، وكن مثله . قال الليث - رحمه الله -: فلان يأتسي بفلانٍ أي يرضى لنفسه ما رضيهُ ويقتدي به فالأسوة هي القدوة سواء بسواء .
القدوة في القرآن الكريم: يعتمد القرآن الكريم أسلوب التربية بالقدوة حينما أمر الله سبحانه نبيه بالإقتداء بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين، فقال تعالى : ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾ (الأنعام:90)، بمعنى أيها الرسول إتبع ملة هؤلاء الأنبياء الأخيار، وقد إمتثل فاهتدى بهدي الرسل من قبله وجمع كل كمال فيهم فإجتمعت لديه فضائل وخصائص فاق بها جميع العالمين.
وأكد على أسلوب التربية بالقدوة في أكثر من موضع، فطلب من المؤمنين إتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة، وطالب المؤمنين بطاعته وإتباعه الإتباع المطلق ، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب:21).
كما حذر القرآن الكريم في ثناياه على من يحيد عن المنهج العظيم وبيان حسرت من يعدل عنه إلى غيره، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي إتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ (الفرقان: 27-28).  

القدوة في السنة النبوية المطهرة:

لقد أكدت السنة النبوية المطهرة مبدأ القدوة في التربية وجعلته أصلا تتفرع من خلاله الدعوة إلى الإقتداء بكل من دعا الناس إلى الخير والصلاح والهدى الذي جاء به النبي الكريم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:

أوصى صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، حيث بينت السنة النبوية في أكثر من حديث آثار هذا الاتباع الحميدة والطيبة على الفرد المسلم في حياته التربوية، حيث يدركها ويلمسها في ذاته عندما يقتدي بصالح فيتأثر به، ويظهر ذلك في سلوكه الحياتي وفكره ومنهجه، وقد قيل الصاحب ساحب، وهي أيضا سبب فعّال –القدوة الحسنة- في مصير الإنسان وسعادته الدنيوية والأخروية، فإن الإنسان يتأثر بقدوته ويصطبغ بصبغتة فكراً ومعتقداً وسلوكاً، وقد برهن على ذلك أيضا العقل والواقع والتجربة.

أهمية القدوة في التربية:

لقد أولت تعاليم الإسلام جانب القدوة إهتماماً كبيراً حيث لم يقف الأمر عند إنزال الكتاب على الرسل الكرام والحديث عن قصصهم وعرض سيرتهم، وذكر ما أمروا به وما نهوا عنه، بل جاء الأمر بإتباعهم والإقتداء بهم، في سائر أحوالهم، فقال تعالى : ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ﴾(الأنعام:90). 
نوضح أهمية القدوة من خلال ما يلي:

  1. إن القدوة المثالية تثير في نفوس الآخرين الإعجاب والمحبة التي تتهيج معها دوافع الإتباع والتنافس المحمود، فيتولد لديهم حوافز قوية لأن يتمثلوا أخلاقها السامية وقيمها الراقية. 
  2. القدوة الصالحة المتحلية بالقيم والمثل العليا الحميدة، تعطي للناس قناعة بأن بلوغ هذا المستوى الرفيع من الأمور الممكنة غير مستحيل. وأنها في متناول الإنسان كيف ما كان دون ميز أو حيف.
  3. إن واقع الناس اليوم يشكو القصور والإنحراف والضعفَ والهوانَ رغم إنتشار العلم، ما لم يقم بذلك علماء وقادة عالمون مخلصون يصنعون من أنفسهم قدوات في مجتمعاتهم، يترجمون ذلك العلم إلى واقع عملي يفهمه الجميع، وهذا يُسهّل في إيصال المعاني الأخلاقية ويحدث التغيير المنشود إلى الأفضل .
  4. أهمية القدوة الحسنة في الحياة حيث توفِّر الكثير من الوقت والجهد على الوالدين في تربية أبنائهم، ومحاولة غرس السلوكيات الجيدة فيهم. فعندما يختار الطفل القدوة الجيدة فإنه يقلِّدها في سلوكياتها. إنتاج أفراد يتسمون بالسلوكيات والصفات الجيّدة مثل المثابرة على العمل والنجاح بعيداً عن الصفات السلبية وغير الجيدة. بناء مجتمع متماسك وقوي يستطيع مواجهة التهديدات الخارجية.
  5. إن غياب القدوة الصالحة من المجتمع عامل رئيس في إنتشار المنكرات وإستفحالها وتفشي الجهل بين الناس، ومن هنا تكمن أهمية القدوة الصالحة، فكلما إزدادت القدوات إنتشر العلم وإختفت المنكرات ، لذلك فنحن نحتاج إلى قدوات يدعون الناس بأفعالهم لا بأقوالهم، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصَّف: 2-3) .
  6. لا ينكر أحد ما للمدرس القدوة من الأثر الكبير في الرقي وإصلاح المجتمع الإنساني علمياً وخلقياً وأدبياً وصحياً وإجتماعياً، لأن أثر المدرس الصالح يظهر على نفوس تلاميذه فيغرس فيهم الفضائل والأخلاق الحسنة وما يراه خيراً للأمة والوطن .
القدوة المطلقة والمثالية محمد صلى الله عليه وسلم:

أما الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو القدوة ذات الكمال المطلق، حيث كانت حياته مثار إعجاب الجميع مما جعلهم يتأثرون به.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة للناس جميعاً في جميع جوانب الحياة، فإذا تفكر الإنسان في أحوال القادة والمصلحين والسياسيين فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة بقيادته وصلاحه، و أروع الأمثلة في هجرته إلى المدينة وإقامته للدولة والمسجد، وتأليفه بين الأوس والخزرج وفي سائر غزواته .

وإذا بحث الناس في ميادين التربية وجدوا رسول الله يتربع على عروش المربين، "إذ نجد أن أفضل ممثل لصفة "الرب" لله تعالى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أي هو من يتمثل هذا الإسم من أسماء الله الحسنى حتى بين سائر الأنبياء، لأنه كان صاحب فطرة سليمة ومتميزة، ولاشك أن الصحابة الذين تلقوا التربية عنه مباشرة وإقتدوا به كانوا من أفضل الناس بعد الأنبياء. فليس من الإمكان رؤية أو تنشئة نماذج مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين" إذ هو المربي الكريم والقائد العظيم والمعلم الحليم الذي ربى أصحابه الكرام على الفضيلة والقيم العليا النبيلة وصدق الشاعر إذ قال : 

أتطلبونَ منَ المختَار معجزَة يَكفيه شعب من الصحراء أحيَاه

ولقد إعتلى صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب الأخلاق والعلم، لأنه تربية رب العالمين ليكون السراج المنير والمثل الأعلى والقدوة العظمى للإنسانية جمعاء، أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكان قرآناً نابضاً حياً متحركاً، وحينما سُئلت عائشة عن أخلاقه أجابت : كان خلقه القرآن. 
وكان صلى الله عليه وسلم في كل شيء وكأنه معجزة خالدة، وقدوة مطلقة، فإذا نظرت إلى عبادته وجدته رجل عبادة إذ كان أقرب الخلق لله تعالى، وإذا وقفنا على العلم نجد "أن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم للساحة العلمية وما أَكْسبه للعلم يعد من مظاهر رسالته العالمية الشاملة"، حيث كان أفقه الناس وأعلمهم على الإطلاق، يحث الناس على العلم والتعلم و يحضهم على إكتسابه، وإذا جاهد وحمل السلاح قلت: إنه رجل حرب وجهاد تكفي قيادته للجنود الغازية في سبيل الله، أنها تفوق عشرات القواد، "وهكذا هم المقربون و المحبوبين عند الله تعالى أقوياء في الروح وفي الجسد، أي أقوياء في أبدانهم وقلوبهم.
وهكذا يتبين لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول لنا صوموا لكي تضعفوا، واضعفوا لكي تكونوا أقرب إلى الله وتحصلوا رضاه، بل يحارب هذه الرهبانية بقوانين الفطرة الإلهية ويوجهنا إلى هذه القوانين".
 أما في حياته الزوجية كان رئيس عائلة بل أسعد عائلة في تاريخ الدنيا كلها، تشمل تسع نسوة يعدل بينهن ويعاملهن أكرم معاملة، وليس هناك مثيل للقيمة التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة لا من قبل ولا من بعد، يلاطفهم ويكرمهم ويستشيرهم ويأخذ رأيهم ويحسن معاملتهم. 

أما الحديث عن دعوته فكان واعظاً ومرشداً أميناً، يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان متحلياً بمحاسن الأخلاق، وهي التي جعلت منه أكبر قدوة للبشرية في تاريخها الطويل، بل كان صلى الله عليه وسلم مربياً وهادياً بسلوكه الشخصي قبل أن يكون بالكلام. 

لهذا أمر الله المؤمنين بإتباع الرسول وطاعته، وجعل هذا من مؤشرات الحب في الله، قال تعالى : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران:31). وغيرها من المواقف والأحداث في سيرته العطرة التي تبين أنه صلى الله عليه وسلم سيد العظماء وخير الحكماء والعلماء. وعليه فنحن أمام تميز وإمتياز إختص الله به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون القدوة المثالية حيث لا نظير له.

الخاتمة:
 

   إن التربية بالقدوة والتمسك من أفضل الأساليب التربوية على الإطلاق وأكثرها إنتشاراً قديماً وحديثاً. فهي تعمل على تهذيب الأفراد وإصلاحهم كما تجعل من المجتمع وحدة مترابطة عقائدياً ووجدانيا وإجتماعياً، وتعمق مفهوم الأخوة الإيمانية، وتستوعب حقوق الأخوة الإنسانية، كما تجعل من الأمة كيانا متضامناً ذا قوة وتأثير وفاعلية إلى الأفضل في حياة الفرد والمجتمع، إذ هي صرح شامخ لوحدة الأمة وتماسكها وخاصة أمام التحديات والصعاب والتغيرات وكل المستجدات التي يشهدها العالم قاطبة، والأمة الإسلامية خاصة تقف وقفة المطمئن لوعد الله لها بالنصر والتمكين والاستخلاف.