وأنا أتجول في أروقة معرض الكتاب الدولي في بغداد المعمورة بتاريخ 9/12/2020 وإذا بعنوان لامعٍ يُتَوِّج رفوف دار نشر عربية معروفة، عنوانٍ لكتاب يختطفه البصر سريعًا فيشدّني نحوه شدًّا، فبعض ما تلمحه الأبصار من عبارات أو صور أو مشاهد تسري نماذجه موثقةً إلى مستودع القلب والروح معًا، وعلى عجل! وكلما زادت تلك النماذج المُبصَرة شاعرية كان أثرها على القلب أبلغ، وشحذها للهِمم نحوها أعظم، اقتربتُ منه قليلًا، وإذا هو كتاب يحمل عنوانا ساحرا، يلامس شغاف القلوب ويستهويها! "العربية والحياة –بصائر لسانية-" لأستاذنا الجليل يوسف العيساوي.  

بعض ما تقرؤه أو تسمعه أو تشاهده لا تشعر بأنه مجرد علوم محضة تختزنها الذاكرة! أو معرفة ومعلومات نفيسة تحبها العقول وتسعى لاحتضانها، وإنما ثمة روحٌ في تلك المشاهدات والمقروءات، تتهيج لها المشاعر وتُستمال، فتسري تلك الروح أثرًا على العقل والجوارح كلها. وهذا رمز من رموز التسويق العلمي الموفق، يعرفه ويُحسنُ تطويعه واستثماره النابهون من المشتغلين بالتأليف أو الطباعة والنشر.

وكثيرًا ما تُستثار مشاعري بقوة! وتذرف عيوني الدموع الغزيرة، وأتفاعل مع الحال روحًا وجسدًا، بعد قراءة فصلٍ من كتاب! أو سماع حديث مختصر! أو الاطلاع على عنوان مُلهم! أو عبارة موجزةً تحمل معاني هويتنا وتاريخنا ومجدنا الذي نحلم بإعادة نجمه إلى الحياة مرَّةً أخرى. وهموم المخلصين لهويتهم وأمتهم تكاد تكون واحدة في إطارها العام، كما أنَّ أهدافهم وأحلامهم مشتركة أيضًا.

اقتنيت ذلك الكتاب الجميل بعنوانه ومضمونه وحُلَّته... وإن كانت قُنيةً أطيب وأروع مما يتخيله القارئ، حيثُ أُهدي إليَّ الكتابُ إهداءً، وليس كأيِّ هدية تصلك! فقد كانت الورقة الأولى مطرَّزةً بخط مؤلفه أستاذنا العيساوي، وعبارة الإهداء شبيهة بعنوان الكتاب شاعرية وجاذبية: "إهداء... إلى الحبيب الكريم"، مع دعوة محب غالية أعتز بها ما حييتُ، تتلقفها الألباب والأفئدة بشغف وانفعال عاطفي كبير.

اطلعتُ على أول الكتاب فوجدته مستفتحًا بما سَمَّاه المؤلف "مقاصد الكتاب"، وهو عنوان حسَّاس! إذ هو غاية كل جهد وثمرته، يكشف أسرارًا كامنة، يبحث عنها القُرَّاء عادةً بدقة في زوايا الكتاب وبين سطوره وفي مستخلصاته، يَسَّر المؤلف عليهم كلفة البحث وعناء التتبع، فضَمَّ تحت هذا العنوان أقوالًا لأعلام كبار من أبناء الأمة، أمثال الرافعي وأحمد شاكر وطه جابر العلواني وأمثالهم، يتغزلون بعربيتهم الجذابة الفتية الخالدة مرَّةً، ويستنهضون ضمائر الأجيال القادمة للمحافظة على هذه الهوية الغالية والكنز الثمين مرَّةً أخرى. طَوَّفتُ بفهرس موضوعاته سريعًا فإذا به يحكي قصَّة من قصص الحلم الكبير الذي يتوطن في عقول أولئك الأخيار الأفذاذ من أبناء أمتنا، الذين يعيشون لخدمتها والذود عن حماها بأقلامهم ودرر نتاجهم وجهد عقولهم وأجسادهم.

إنَّ الذي لا يعرفه كثير من أبناء الجيل اليوم أن عربيتنا ليست مجرد لغة خطاب وتداول فحسب، وإنما هي لغة دين وهوية وثقافة وتاريخ! لغةُ حياة! لغةُ ماضٍ مُشَرِّف وحاضرٍ مشحون بآلام وأحلام ومستقبل تتطلع له القلوب، كل هذا الزخم من الأفكار والأسرار والأنوار وأحلام الانتظار يكمن في أعماق هذه اللغة الساحرة العظيمة.

يقول الثعالبي (ت 429هـ) في مقدمة كتابه "فقه اللغة وسر العربية": "من أحبَّ الله تعالى أحبَّ رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن أحبَّ الرسول العربي أحبَّ العرب، ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها وثابر عليها وصرف همَّته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه اعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة".

إنك قلَّما تجد لغةً من لغات الأمم قديمًا وحديثًا تحملُ في أعماقها روح الحياة، وفاعلية التجديد والنماء، وتتضمَّنُ كلَّ أسباب البقاء والصمود والخلود، تقاوم بجدارة كلَّ عوامل الإزاحة والموت والفناء، بما تمتلكه من رصيد معجمي ثري، يُغري ويفي ويكفي، يغطي بكفاءة عالية مساحة مستحدثات العصور وتنوع الثقافات وسعة الأفكار وتجددها، وبما يتضمنه نظامها المتين من قوانين اشتقاق لا تهرم، وموائد تعريب لا تعجز، وخصائص فنية وسنن أسلوبية فريدة، أضف إلى ذلك الجمالَ الأخاذَ والشاعرية المتوهجة الذي تدور حوله قوالبُ صياغتها وتنوع أساليب بيانها.

كثيرًا ما يستهوي هذا التنوع الأنيق العقلاءَ والمبدعين في كل زمانٍ ومكان، وتاج ذلك كله ارتباط هذه اللغة الفَذَّة الجميلة بخير كتاب عرفته البشرية عبر تاريخها، القرآن الكريم، الكتاب الذي تكفل الله بحفظه وحمايته من كل ريب أو تحريف أو تبديل أو زيادة أو نقصان، وقد نزل مُبارِكًا لهذه اللغة، لتعلو بذلك مكانتها ويتسامى شأنها بين اللغات، وتتأبى على الانزواء والاندثار، وتتغلب في كل منازلة ومزاحمة وصراع يستهدف تلك الروح التي تسكن أعماقها، فأنى لهذه اللغة بعد ذلك من فناء وذوبان؟! وكيف لا تكون بحياتها وحيويَّتها عربية الحياة؟!

يقول المستشرق الفرنسي "إرنست رينان" في "تاريخ اللغات السامية" عن العربية: "من أغرب المدهشات أن تثبت تلك اللغة وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرُّحَّل، تلكم اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، ولم يُعْرَف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبَارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة".

ويقول العقاد في كتاب " أشتات مجتمعات في اللغة والأدب": "فإذا قيس اللسان العربي بمقاييس علم الألسنة، فليس في اللغات أوفى منه بشروط اللغة في ألفاظها وقواعدها".

وإني لأعجب كل العجب من بعض أبناء هذه اللغة! من الجيل الناشئ الفتي خصوصًا، حين يُديرون للغتهم الظهر مختارين، ويعجزون عن إدراك عزتها وشموخها وعلو رتبتها بين أقرانها، فلا يستشعرون من أعماقهم حياة هذه العربية، ولا يُصَدِّرونها لتكون عربية الحياة، عربية العلم والسياسة والإعلام والاقتصاد، لغة الحياة! 

يؤلمني كثيرًا ذلك الشاب الفتي المُتَصَنِّع ثقافةً، يُحَدِّثُ أقرانه بعبارة عربية عاميَّة متعثرة! ثم يحشوها بمفردتين أو ثلاث من لغاتٍ أخرى! ليستشعر بعد هذا الإنجاز النشوة والعلو من لغة خطابه الهجينة، وما هو مؤلم أكبر حين يُصَفِّقُ له السامعون بعقولهم إعجابًا وبقلوبهم ميلًا وبمشاعرهم طربًا لأجل هذه المزية التي يتمتع بها، أنه يُحسن لغةً غير عربيته التي يُنسَبُ إليها ويُعَبِّر بها عمَّا يحتاجه من مقاصد!

مؤلم حقًا عندما يعجز الشابُّ عن التعبير بفصيح لغته عن أفكاره التي لا تحتاج إلى أكثر من سطرين أو ثلاثة، يتلعثم ويتعثر ويرتبك! ويتيه عندما يحاكي لغته الفصحى ويحاول الانضباط بقوانين نظمها واستحضار رصيد معجمها، وليس ذاك نقصًا أو قصورًا في اللغة حتمًا، إنما هو التواني عن تَعَلُّم العربية باعتزاز، والانتماء لها بصدق وإخلاص، والتقصير عبر مراحل الحياة -منذ الطفولة حتى الهرم- في إحكام بنيانها معرفيًّا وعمليًا، فينتهي بنا الطريق إلى هذا الحال المتردي. 

ليس لأمة تاريخ تعتز به تُدوِّنه وتتناقله وتحافظ عليه بغير لغة تخصها، تتشرف بها، وتُشَكِّل هويتها وتاريخها الثقافي والحضاري! ولقد ورثنا من عربيتنا حضارة معرفية هائلة، لم تتسع لها رفوف المكتبات، وما زالت تعجز عن استيعاب كنوزها جهود العلماء والمحققين والباحثين، فتلك هي خزانات المخطوطات العربية في كل أقطار الدنيا! شرقًا وغربًا! تحمل على صفحات كراريسها العتيقة مختلف العلوم والفنون والمعارف، أفادت الأمم منها أيَّما إفادة، فنهضت وارتقت بهذه المعارف، وهي تنتظر عقول الباحثين الجادين لاستخراجها من تلك الكهوف، وبث الحياة فيها من جديد، إنَّ لغةً حملت هذا الثراء العلمي الضخم، واستوعبت هذا الكم من العلوم والآداب والمعارف، لهي حرية بالإعجاب والانتماء والحب، مستحقة للتعلم والخدمة والإجلال.

إنني في هذه السطور العاجلة، والهمسات الطارئة الموجزة، لا أنقل للقارئ الكريم مضمون كتاب "العربية والحياة"، ولا أسرد مُلخَّصًا عنه، ولا حتى اقتباسات منه، وإنما هي دعوة –أرجو بلوغها- إلى قراءة الكتاب كاملًا؛ لما تضمنه هذا السفر العزيز في بابه من إضاءات مستنيرة، ودعوات مخلصة نبيلة، وإشراقات ساطعة في طريق الباحثين والدارسين، ثم هو تدوين لما جال في الخاطر، وقفز إلى الذهن من لمعات هذا العنوان الكبير الأنيق.

أخيرًا... أقول مستنصرًا معاشر التربويين والمثقفين والعلماء والمفكرين من أبناء أمتنا: إن عربية الأجيال القادمة تحتاج إلى كثير من التعزيز والدعم والتشييد والترميم، في مختلف محاضننا التربوية، في البيوت والأسر، والمدارس والجامعات، وفي مختلف المحافل الثقافية والمؤسسات العلمية والتعليمية، بوضع مناهج تثمر على وجه أفضل مما نراه، وحضور أكبر مما نلحظه ونعايشه, لنُعيد حياة عربيتنا إلى فضاءاتنا، ونُفَعِّل عربية الحياة في كل شؤوننا.