هل زارتك يوما ما فكرة رائعة، ومنها انبثقت أفكار جديدة، وبَدل من أن تسجل تلك الأفكار وتُوثِّقها كتابيا، اعتمدت فقط على تسجيلها ذهنيا في ذاكرتك ومع مرور الأيام تلاشت تلك الأفكار، فلا أنت استطعت تَذَكُّرها، ولا العمل بها.
هل قرأت كتابا ما، وأعجبتك أفكار ذلك الكتاب، ولكن مع مرور الزمن لم تصبح تحمل في ذهنك من ذلك الكتاب سوى نُتفا وشذرات، وقد تنساها مع مرور الوقت.
هل حضرت محاضرة، أو ندوة، وبدل أن تحمل في يديك مذكرة تسجل فيها المعلومات، وتقطف الأفكار، خرجت خاوي الوفاض، وليس لديك سوى معلومات مشتتة، سرعان ما يذهب بريقها مع الوقت.
لعلك تتباهي عزيزي القارئ وتتفاخر بأنك تتمتع بذاكرة حديدية، لا يعتريها النسيان، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
نعم قد تمتلك هذه الموهبة حقاً، ولله الحمد … لكن على أي حال نحن بشر، وذاكرتنا مهما كانت قوية، إلا أنها ليست مُحَصَّنة من النسيان تماماً، فهناك تفاصيل جديدة تزيح من ذاكرتك تفاصيل قديمة، وهناك معلومة تطرد أختها. فَكتابة الملاحظات عادة مهمة، تسهم بشكل كبير في تطوير شخصيتك، ومهاراتك الحياتية والعلمية والعملية والدراسية.

هل عرفت الآن أهمية تدوين الأفكار؟

الفكرة هي أغلى ما نملكه، وهي أثمن ما يمكن أن نحصل عليه، وما يجب أن نبذل من أجلها المجهود، وعصرنا الحالي هو عصر الأفكار، ومن يملك الفكرة يملك السلطة المعرفية، فكل التحولات القديمة والحديثة، التي نتمتع بها في عالمنا هذا، بدأت بفكرة مُبدعة لأصحابها، آمنوا بها، وعملوا بدقة، وإتقان من أجل تحقيقها واكتشافها ثم بعد بعد ذلك إتاحتها للبشرية.


وكثير من العلماء ألفوا كتبا وموسوعات، انطلاقا من الخواطر والأفكار التي كانوا يُدِوُّنوها في حينها، ولا يتركونها تتفلت منهم.
تمرُ على الإنسانِ سواءٌ كان طالبَ علمٍ أو غيرهِ، أثناء القراءةِ بعضُ الفوائدِ المهمةِ التي يحتاجها لاحقاً، وهذه الفوائدُ لا بد من تقييدها بتدوينها وإلا ضاعت، كما قيل قديما " العلم صيد، والكتابة قيد". وقد كان هذا الفعلُ دأبُ المتقدمين والمتأخرين من أهلِ العلمِ والعلماءِ، حتى أصبح تقييد العلم سُنَّة متبعة عند الأئمة من قبل ومن بعد.
وتراث علمائنا الأوائل  يشهد على ما نقول، وأمثلة ذلك كثيرة، منها:
وقد ذكَر العلماء في ترجمة الإمام الجليل البخاري أنَّه كان يقومُ في الليلة الواحدة من الفِراش بضْع عشرة مرَّة ليُسجِّل فكرةً خطَرتْ له، فيعمد إلى إيقاد المصباح، ويكتبها ويرجع إلى الكتب، وليس ذلك بالأمر اليسير في ذاك الزمان؛ فإيقاد السِّراج يحتاجُ إلى جهدٍ وعَناء، أمَّا الآن فالأمر ميسورٌ جدًّا؛ فلا يُكلِّف إيقادُ المصباح الكهربائي المرءَ إلا أنْ يضع يدَه على زرٍّ ليشمل الضياء المكانَ الذي يقيمُ فيه.
وابنَ الجوزي قال في مقدمته: " لما كانت الخواطر تجولُ في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر، لكي لا يُنسى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: [قيّدوا العلمَ بالكتاب] ( أخرجه الحاكم في المستدرك)، وكم قد خطر لي شيء، فَأنشغل عن إثباته فيذهب، فأتأسف عليه! ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنَح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فانهال عليه من كثيب التفهيم، ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدًا لصيد الخاطر، والله ولي النفع، إنه قريب مجيب".
ويقول الشيخُ علي العمران في كتابه " المشوق إلى القراءةِ وطلبِ العلم" "إذا انخرط الطالبُ في سِلْك القُرَّاء وانضم إلى ناديهم، فلا بُدَّ له من استثمار قراءته وتوظيفها، ليجنيَ منها ما تمنَّى، ولا يضيع تعبه سدى، ولا طريقة أنفع ولا أنجع لتحقيق ذلك من الكتابة والتقييد، فيقيد الفائدة المستجادة، والنقل العزيز، والتحرير المُدَلَّل، والترتيب المبتكر، وطرائف النقول والحِكَم، ودقائق الاستنباطات، ولطائف الإشارات، والأشباه والنظائر، وغيرها. (ص 119) 
ويقول الإمام النووي في كتاب" المجموع في شرح المهذب" ولا يحتقرن فائدة يراها، أو يسمعها في أي فن كانت، بل يبادر إلى كتابتها ثم يواظب على مطالعة ما كتبه" ج1/39. ويضيف الإمام النووي" ولا يؤخر تحصيل فائدة وإن قَلَّت، إذا تمكن منها، وإن أمِن حصولها بعد ساعة، لأن للتأخير آفات" المجموع ج1/38 

فهذهِ نصيحةٌ غاليةٌ من إمام خبِر القراءة والكتابة والتأليف، واستطاع في زمن يسير، وعمر قصير أن يصنف التصانيف الكثيرة.
ويتحدث شمس الدين السخاوي عن شيخه ابن حجر العسقلاني "وأما التفسير، فكان فيه آية من آيات الله تعالى، بحيث كان يظهر التأسف في إهمال تقييد ما يقع له من ذلك، مما لا يكون منقولا"  كتاب الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر ج2/611 
و ذكر الشيخُ علي العمران في كتابه السابق،  ما صُنِف في هذا الباب فقال : "وقد دون كثيرٌ من العلماءِ هذه الفوائد في كتبٍ مفردةٍ، مثل: " الفنون" لابن عقيل وهو من أضخم الكتبِ، "والفوائدُ العونيةُ" للوزيرِ ابنِ هبيرةِ، و"صيد الخاطر" وغيره لابن الجوزي، و"قيد الأوابد" في ( 400 مجلد ) للدغولي، و"عيون الفوائد" لابن النجار في ( 6 أسفار )، و"بدائع الفوائد" و"الفوائد" لابن القيم، و"التذكرة" للكندي في ( 50 مجلداً )، و"مجمع الفوائد ومنبع الفوائد" للمقريزي في نحو ( 100 مجلد ، وقيل 80 ) وغيرها كثير" 
وما زال العلماءُ وطلبةُ العلم يؤلفون في بابِ الفوائد والدرر والحِكم من الكتبِ حتى من المعاصرين.
ومن هؤلاء عبد السلام هارون "كناشة النوادر" حيث يقول في مقدمة الكتاب "تراثنا العربي زاخر بأنواع شتى من المعارف، بها جلاء لكثير من غوامض العلم، كما أنه مشحون بالطرائف، وغذاء الذهن والروح واللسان أيضا، وقد كان من سوالف الأقضية أقيد تلك الشوارد ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فإن الحكيم العربي كان يقول وقوله الحق: [العلم صيد والكتابة قيد] وإذا ضاع القيد ذهب الصيد.
 وكثيرا ما يقرأ الإنسان شيئا فيعْجبه، ويظن أنه قد علق بذاكرته، فإذا هو في الغد قد ضاع منه العلم، وضاع معه مفتاحه، فانتهى إلي حيرة في استعادته واسترجاعه. والباحثون لاسيما في أيامنا هذه يقيدون هذه المعارف في جذاذات، يرجعون اليها عند الحاجة، ولكني سلكت طريقا أوثق من طريق الجذاذات، هو دفتر الفهرس، وهو الذي سميته: كناشة النوادر" ص5

  • صوى وكوى:  للمُؤلف محمد بن سليمان المهنا يقول في مقدمة كتابه «هذا مجموع ْ لطيف انتخبت َ فيه ما  رق أو راق من ثمرات الأوراق، ضمَّنته ً شيئا من الخواطر والأخبار، والفوائد والأبيات، مما قيدته ُ على طُرر كُتبي، وفي بطون دفاتري، ونثرته نَثْر الدُّر، دون تبويب َ ولا ترتيب، فهذه طبيعة الكنانيش والكشاكيل، وكتب الفوائد والخواطر والمختارات" ص 5
  • المنتقى من بطون الكتب: للمُؤلف محمد بن إبراهيم الحمد  وقام الكاتب بتدوين ما أستحسنه أثناء ما مَرَّ به وهو يقرأ في بعض الكتب، سواءً كانت حكمة بالغة، أو موعظة حسنة، أو نظرة ثاقبة، أو فكرة سامية، أو تجربة ناضجة، أو عبارة رائعة رائقة، أو تحرير عالٍ، أو أسلوب بارع، أو معنى لطيف، أو نحو ذلك وما جرى مجراه مما يُبهج النفس، ويُوسع المدارك، ويرقي الهمة، ويزيد في الإيمان، ويدعو إلى لزوم الفضيلة.
من جواهر الكتب

 

  • ارتياض العلوم: ارتياض العلوم  للشيخ: مشاري بن سعد الشثري  من بين النصائح التي يقدمها لنا الكاتب في الكتاب" اقرأ، وتأمل، واحفظ، واكتب، ولخّص، واشرح، وحاور، وناظر، وابحث، واستشكل، وانتقد، وما شئت وراء ذلك، فإن ذلك كله مما يُذكِي نارَ حُبك للعلم" ص 24
  • كتاب القلائد من فرائد الفوائد: الكاتب مصطفى السباعي  جمع المؤلف في هذا الكتاب كل ما أعتقد أن جيلنا الإسلامي في حاجة إلى معرفته من علوم، وآداب، ولغة، وتاريخ، بأسلوب لا يملون من قراءته، حيث يتنقلون فيه من زهرة إلى زهرة، ومن روضة إلى روضة، وبقدر لا يضيف عبئاً ثقيلاً إلى أعباء الثقافة المتنوعة المطلوبة منهم في عصرنا الحاضر.

ويقولُ مصطفى السباعي رَحِمَهُ اللَّهُ، في مقدمة كتابه: (القلائد من فرائد الفوائد) " كان دأبُ طلابِ العلمِ ـ ولا يزلون كذلك ـ أن يقيدوا ما يجدونه من فوائد متناثرة، خلال مطالعاتهم، في أوراق خاصة، يرجعون إليها عند الحاجة لها، وقد كان مما يوصي به علماؤنا طلابَهم: ” قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتابِ” ص8 

ودعنا نستمع لأحد خبراء الإدارة جون سي ماكسويل (بالإنجليزية: John C. Maxwell) هو خبير قيادة ومتحدث ومؤلف معروف عالمياً، ألّف أكثر من 60 كتاباً، وبيعت من كتبه أكثر من 13 مليون نسخة.
يقول في كتابه "لليوم أهميته" إن إحدى الوسائل التي أدفع بها ثمن اليوم لكي يُتاح لي مُستقبل أفضل، تتمثل في حِفظي لاقتْباساتي وأفكاري. فعندما بلغت السابعة عشر من عمري، أدركت أنني سأصبح كاتبا ومحاضِرا.
 في عام 1964   شرعت في انتهاج نظام دوري يقضي بقراءتي  للعديد من العناوين بغية العثور على اقتباسات وأفكار، وأمثلة توضيحية للدروس. 
وبينما كنت أبحث ويقع فكري ونظري على مادة جيدة (حول أي موضوع) كنت استقطعها، وأسجلها في ملف خاص. ولقد عكفت على تلك الممارسة بصفة يومية لمدة أربعين عاما. 
إنني أعتبر القراءة وترتيب المواد في ملفات، ثمنا أدفَعه يوميا لكي أجعل مستقبلي أفضل، فتلك وسيلة للإعداد للنجاح  "لليوم أهميته" ص20.
وممن ألَّف في هذا الباب: وكما فعل الشيخ "عبد الرحمن السعدي" في كتابه "مجموع الفوائد، واقتناص الأوابد"، وكما فعل الشيخ "ابن عثيمين" في كتابه "المنتقى من فرائد الفوائد"، و "لطائف الفوائد" لمؤلِّفه أ.د. "سعد بن تركي الخثلان".

لماذا تدوين الاقتباسات؟
  • الاعتياد على كتابة الملاحظات مهارة في حد ذاتها تسهم في تنمية مهارة التنظيم والكتابة والحفظ لديك.
  • تُمَكِّنك من التركيز على الفكرة، أو الأفكار المهمة المرتبطة بموضع المعلومة التي تبحث عنها.
  • تدوين الملاحظات، ستُفيدك كثيراً في الحصول على المزيد من الأفكار، والتي ستتجسد في لحظة ما لتصبح مقالات، أو قصصا، أو روايات، أو كتبا، أو مشاريع فكرية ناجحة.
كيف تدون ملاحظاتك؟

تختلف طرق أخذ الملاحظات على حسب الغرض المُعَدِّ سلفاً من أخذها، فمثلاً لو كنت طالبا، وتريد أن تأخذ ملاحظات أثناء المحاضرة الدراسية، فلابد أن تأخذ هذه الملاحظات، وتسجلها في مذكرة، أو كُراس، أو جذاذات، إلى حين نقلها إلى دفتر مستقل. 
كما يمكنك أخذ الملاحظات من خلال تظليل المعلومة، أو الفقرة المهمة داخل الكتاب بلون مميز.
أما إذا كنت تستخدم الحاسوب، واللوحات الإلكترونية والهاتف الذكي، يمكنك فتح ملفات على هذه الوسائل وتدوين المعلومات، كما يمكنك فتح تطبيقات على Google Play Store‎ ويكفي كتابة "مفكرة الكترونية" أو "مذكرة الكترونية" وتظهر لك عدة اختيارات وتختار النوع الذي تريد.

في نهاية المقال عزيزي القارئ، أتمنى أن تكون قد وعيت أهمية أخذ الملاحظات، ولعلك قررت الآن أن تحمل كُراس الملاحظات معك في كل مكان، كما تحمل هاتفك، وذلك لكي تقتنص أي فكرة، أو معلومة جديدة، أو ملاحظة قد تلهمك يوماً ما، لإبداع، أو تأليف، أو محاضرة أو اختراع، أو مشروع أو لأي عمل إبداعي آخر. والله ولي التوفيق.