مثلما هو عليه الأمر في كل عام، يظهر على كوكب الأرض هلال شهر رمضان بعد انتهاء شهر شعبان.. فتنظر إليه أعين البشر بشكل مختلف تماما، وذلك الاختلاف لا يقف عند المشاعر فحسب، بل يتجاوزها للسلوك ايضا، وتصبح الكثير من السلوكات التي كانت قبل بضع ساعات فقط عادية ومستساغة، مشينة جدا ومستهجنة وقد تتسبب في علاقات مشوشة وقد تؤدي الى الكثير من المآلات التي قد لا تخطر ببال.

السؤال المفتاحي الذي ينبغي أن يطرح: إذا كان كوكب الأرض هو نفسه والهلال هو نفسه والسلوكات هي  نفسها والبشر هم أنفسهم.. فما الذي جعل تلك السلوكات هنا أمرا طبيعيا بقي على حاله قبل هذا الهلال وبعده؟، وما الذي جعلها تحبل بكل تلك البشاعة على الضفة الاخرى من البشر؟

طبعا هناك سلوكات اخرى ايضا مختلفة تماما، بل ربما على النقيض منها قبل ظهور الهلال، ما بالها اليوم ارتقت الى مصاف عليا وغدت مهمة الى درجة عالية؟ 

هذه المقدمة الوجيزة فيها لمحة بسيطة لنفتتح بها الإجابة على السؤال أعلاه.. 

لذلك ليس بالمستغرب في البداية أن يطرح أحدهم سؤالا استنكاريًا بخصوص عطف العلمانية على رمضان..! فيستنكر قائلا كيف تعطف خيارا أيديولوجيا له جذوره الممتدة في التاريخ وتجلياته الواقعية في الحاضر على  ظاهرة فلكية طبيعية يستجيب لها أتباع الإسلام بِشعيرة الصيام؟

في ثنايا هذه السلسلة الرمضانية ستكون الاجابة على السؤال المطروح، فهي  محاولة لتسليط الضوء على نقاط طويلة عريضة، ليس الغرض منها إلا شيء واحد وهو أن نتتبع التباين والتنافر والتضاد الصارخ بين سلوك المسلم في رمضان الذي هو نتيجة طبيعية لِمعارف إسلامية، وبين السلوكيات التي تنتهي إلى مآلاتها الأفكار العلمانية بشكل عام.

وهذه الزاوية ليست هي الغرض النهائي انما هي غرض يصب في الهدف الأسمى وهو معرفة كيف يسعى  الإسلام كدين لتحقيق مجتمع ناجح عبر شعائره المتنوعة و التي يعتبر الصيام جزءا منها يسد مسدا مهما في صياغة الفرد ومن ثم المجتمع الذي يرغب الإسلام في تشكيله عبر هذه الشعيرة، ثم نتساءل مع المسلمين.. كيف تحولت سلوكات المعارف الاسلامية في رمضان الى سلوكات علمانية رغم اختلاف مصادر المعرفة وتضادها؟! 

نبتدئ هذه الحلقة في المفاصلة الجوهرية في مصدرية المعرفة..

قلت بمجرد أن يهل هلال رمضان حتى ترى ما يقارب الملياري مسلم عبر العالم يشرعون في إعادة تنظيم الكثير من سلوكياتهم الطبيعية التي لم يكن لها أي اختلاف مع غيرهم من الناس قبل هذا الوقت، فإذا ذهبت تتبع جذور المسألة وتفكك التباين الظاهر في السلوك ستجده بشكل قطعي مرتبط بمفهوم كلمة مسلم، فما الذي يهمنا هنا في معنى كلمة مسلم يا ترى؟ وما هو الفرق والتباين بينه وبين الإنسان الذي تنتجه منظومة العلمنة يا ترى؟

هذا سؤال ليس بديهي ولا بسيط كما قد يبدو للوهلة الأولى، ولعل الكثير من الحلقات القادمة التي تأتي معنا سترسخ هذا التباين بشكل يزداد مع كل حلقة.. لأن الانسان هو الانسان والمكان هو المكان لكن تغير السلوك اقترن بتغير الظاهرة عند المسلم ولم يتغير عند غير المسلم رغم تغير الظاهرة..

إن التزامن بين الصيام عند المسلم وقدوم رمضان مرده بشكل أساس الى امتثال طبيعي منسجم مع الاعتقاد بوجود الله تعالى الذي يعتبر الإيمان بوجوده مبررا فاصلا في امتثال أوامره واجتناب نواهيه.. فإذا أضفنا لهذا الايمان برسالة محمد الخاتمة فإن طاعته في تفاصيل ما أمر وأرشد هو تبع لما أمر الله تعالى، و هي كما ترى معارف تسبق السلوك..

من هذه الزاوية يكون السلوك المتمثل في الصيام في طريق مخالف معرفيا تماما لما تطرحه العلمانية التي لها مصادر معرفة أخرى لا تربطها أية صلة بمبحث الإله وجوده من عدمه..

فالعين المسلمة التي رأت هلال رمضان ما كانت لوحدها أن تغير السلوك لولا أن العقل قد امتلأ قبلها بمعارف إسلامية تعترف بـ الوحي مصدرا للمعرفة موجها للسلوك في حين العين العلمانية التي تنظر للهلال لها معارف أخرى ليس من ضمنها ما للمسلم من معارف على الأقل من ناحية المرتبة والقيمة، في نظريتها المعرفية تتعامل العلمانية مع الظاهرة الفلكية على أنها مسألة علمية تتكرر بشكل دوري لا علاقة لها بالسلوك البشري وتأثيرها على البشر ليس له أي أثر يذكر، إلا إذا دخلت مُسبقات خارج نطاق المعرفة البشرية..

مصدرية المعرفة عند المدرسة العلمانية تنبع من ذات الإنسان لا من خارجه، وأي محاولة لإدماج معارف أخرى في سبيل التحكم في سلوك الإنسان أو تطويعه وانتقاص حريته إنما هو خرافة محضة، يمكن أن تتفهمها العلمانية على أنها نُزوع بشري نحو تعويض نقصه الشعوري تجاه الطبيعة بافتراض وجود إله كلي القدرة والحكمة والعلم وغيرها، لكن في سياق آخر غير هذا فلا معنى لها..

لقد درج التعامل مع العلمانية على أنها مجرد محاولة تكتيكية للتعامل مع السياسة والحكم بحيث تقف على مسافة إما مناوئة للأديان ككل رافضة لها باعتبارها مصدرا للشرور.. وإما على مسافة متساوية من جميع الأديان لإلغائها جميعا من مفاصل التأثير.. لكن تسمح لها بممارسة الشعائر والطقوس باعتبارها ثراء ثقافي وفلكلور يزين البلد وقد يتسبب في مصدر دخل معتبر، فلا داعي لمكافحته رغم إيمانها باعتباره خرافة لا أكثر ولا أقل..

لكننا هنا لا نبدأ من هذه النقطة التاريخية في دراسة العلمانية بل نتعمق في جذورها المعرفية التي أوصلتها الى هذه النهايات في النظر الى الأديان بشكل عام ، لذلك نلفت نظر المسلم في رمضان الى هذه الزاوية التي لم يعد يشعر بها رغم أهميتها و مفصليتها .. 

كخُلاصة لِحلقتنا الأولى، المسلم في رمضان يزداد اكتشافًا لِمدى مفارقته للمَنهج العلماني في التعامل مع المعارف بشكل عام، وتذكره بمصدر المعرفة المتعالي عن المادة التي حشرت فيها العلمانية ذاتها فلم تجد معنى معرفي لتقبل الامتناع عن الأكل والشرب وغيرها من الغرائز الطبيعية لمجرد ظهور هلال شهر يقال له رمضان. 

وإدراك المسلم لذلك المصدر المهم لا يجعل منه متجاهلا متنكرا للمصادر المادية الأخرى، إنما هو إدراك يحول بينه وبين الخضوع لتغول المنهج المادي واستيلائه على الساحة المعرفية جملة وتفصيلا..

حين يأتي رمضان.. من المفروض يتذكر المسلم هذا البعد جيدا ويعيد في كل سنة تجديد فهمه لمصادر التلقي، وله بعد ذلك أن يتواءم مع أي مدرسة مادية تأخذ بعين الاعتبار كونها في المعرفة مجرد جزء وليست كلاّ.