الاستبداد رغم أنه ظاهرة سلبية إلا أنه صناعة متقنة بكل جوانبها، ٍفلولا الموالين والمؤيدين لما كان المستبد مستبدا، سواء كان ذلك مقصودا أو عفويا، المستبد كان إنسانا عاديا قبل أن يصبح في يوم من الأيام مسؤولا ومارس كل مسؤولياته وزاد عنها، متجاوزا سلطات غيره، ومُتحكما فيها، وإذا كان من حوله راضون بفعله، فإنهم بذلك يساهمون وبشكل فعال في صناعة الاستبداد، وإيجاد مستبد يتسلط عليهم ويرسخ فيهم ثقافة العبودية التي يتخللها التأييد والمدح والتقديس والتمجيد، وموافقة الرأي، والطاعة العمياء ومنحه الأوامر المطلقة والخضوع لها من قبل مؤيديه ومناصريه؛ هنا تكون صناعة الاستبداد على أكمل وجه.

قد تكون الثقافة مختلفة حول نوعية الاستبداد أو اختلاف وجهات النظر عن مفهوم الاستبداد، فما يكون استبداد في مجتمع قد يكون قانون ونظام وعرف في مجتمع آخر، وأرى أن الاستبداد له نفس المفهوم وإن تعددت صوره وأشكاله وحتى إن اختلف تواجده في المجتمعات والثقافات ولكن أقول غالبا أنه يمكن للشعوب أن تكون هي صانعة الاستبداد، وهي أيضا التي يمكن لها أن تقضي عليه، فالمُستبد ضعيف بمفرده، قوي بالخاَضعين له.

قال تعالى عن فرعون: (فاستخف قومه فأطاعوه...) [الزخرف الآية: 43] وهذه طبيعة المجتمعات قليلة الوعي ضعيفة الإدراك، تُسْلَبُ حُرياتها بإرادتها، لأنها خضعت لثقافة العبودية، ورضيت بالاستبداد وزادت على ذلك مشاركتها في تلميع من يسوسها، حتى جعلت منه مستبدا وحاكما أبديا، أو إلها كما كان قديما. 

ويمكن أن نسميه الآن حاكم السنوات الطويلة أو الحاكم الأبدي أو الأسرة الحاكمة لأي نظام ملكي أو جمهوري أو غيره، فكل المصطلحات العصرية تشير إلى المصطلح القديم وبمعزل عن طقوس العبادة، وإنما بالرضا والتأييد والموافقة ولوكان فسادا محضا.

واستخفاف فرعون لقومه لم يكن عفويا أو وليد تلك اللحظات مع موسى، وإنما كان استخفافه بقومه عن دراية بهم، وعن معرفته لهم لسنوات؛ لجهلهم وقلة حيلتهم معه؛ وقياسا بحاضرنا اليوم نجد ذلك السيناريو يتكرر بشكل يوافق هذا العصر، وهو أن الذين يستخفون اليوم بشعوبهم ومجتمعاتهم يعملون دراسات وإحصائيات، فإذا ما تم اتخاذ خطوة معينة فإنهم يعلمون أن هناك مباركة من مناصريهم الجهلة وحتى معارضيهم يكونون إلى جانبهم إذا وجدوا مصالحهم معهم، وهكذا يكون الاستغلال ممكنا، ويصبح الحكم مطلقا حتى على مستوى إدارات الدولة، وصناعة القرار، فتأتي كأنها جاهزة تماما ومرسومة ومعدة مسبقا لصانع قرار واحد فقط، وخصوصا في القرارات الحكومية.

أما القطاع الخاص فحدث ولا حرج وإن كان من الطبيعي أن القرار الخاص لمالكه، إلا أن العصر الحالي في الدول المتقدمة أثبت أن القطاع الخاص ليس حكرا على الملاك فقط، وإنما آثاره طويلة المدى وتؤثر في كل المجالات سلبا أو إيجابا، لذلك هناك مراعاة لصناعة القرار بحيث يجب أن تكون مشتركة بين المجتمع والقطاع العام والقطاع الخاص.

إن صناعة الاستبداد هو جعل المسؤول الذي عليه واجبات بمهام محددة، بمثابة المالك للمنصب، وأن أمانة عمله ليست أساس عمله، فتجد موظفيه إن كان متساهلا معهم يمدحونه ويثنون عليه، وإن كان صارما معهم "أي يؤدي واجبه كما هو" يستخفون به ويطالبون بتغييره، وكأن المسؤولين والمسؤوليات يتم صناعتها بمقاييس معينة بحسب آراء العاملين، أو النخب العليا بغض النظر عن الكفاءة والمؤهل والخبرات وأداء المهام، وهذا استخفاف وجهل وقلة وعي، وعدم الإدراك الفعلي لحجم الكوارث التي يمكن أن تحصل إذا شعر المسؤول أوالموظف أنه مالك لوظيفته أو منصبه، ومن الجهل أيضا أن يكون هناك تأييد ومناصرة من المجتمع لمثل هؤلاء، وهو ما يؤكد عمق الجهل وضبابية الوعي لدى أفراد المجتمع بفئاتهم المختلفة.

حيث يوجد الاستبداد يصبح الوعي غريبا، ويرتقي الجهل ليكون حبيبا، فيظهر التذبذب وتكثر الثناءات الزائفة، وتتلف الفضيلة، وتصبح الروابط الاجتماعية هشة، وصاحب الرأي السديد لا مكان له، لأنه معارض لقدسية رأي المستبد، الذي يراه الجهلة على أنه نور لابد منه.

 لذلك تغيب العقول المتنورة، وتفرض العقلية الروتينية أو النمطية التي تتماشى مع عقلية النخب، وتنقاد وراء أهواء القادة، فينظرون لأنفسهم نظرة دونية، وإلى القادة نظرة كمال وإجلال، فأولئك يستحقون الحكم والتحكم وعلى المجتمعات أن ترضى بذلك وتتعايش معه كأمر حتمي، ولسان حال المستبد "نحن أمر إلهي وعليكم الطاعه" فلا تجدد ولا تقدم إلا بحسب تصور المستبدين، الذين لا ينظرون إلى الوعي السليم نظرة ود وأمل، بل نظرة معادية من خلالها يتوقعون أن ذلك الوعي هو مقصلة إعدامهم، وبالعكس تماما إن كان هناك مشاركة وشعور بالمسؤولية العامة نحو المجتمع، فإن الوعي هو طريق التقدم والنفوذ في ظل حب المجتمع وشعوره بالمسؤولية نحو نفسه وحاضره ومستقبله، فيبتعد عن التمسك بالتبعية العمياء والطاعة المطلقة ويبدأ بالشعور بأهميته على أنه عنصر فاعل في البناء التنموي والحضاري، وأنه لبنة أساسية في التقدم والتطور والازدهار، وبذلك ينفي عن نفسه صفة الجهل والاستخفاف به من غيره، ويدرك كل شيء يمكن أن يصنع الاستبداد فيبتعد عنه، ويصفي ثقافته من ثقافة العبودية والتبعية، ويجعل ثقافته ثقافة حضارية تنموية شاملة، ثقافة مسؤولة تهتم بالفرد والمجتمع من خلال نظام يخضع له الجميع وبدون استثناء، ثقافة ترشيد وتعليم وتربية وبناء، ثقافة تطور وتجدد تؤكد على رقيها وأحقيتها في الاستمرار والبقاء لأجيال متعاقبة. 

أهم صفات المستبد

 وهناك عدد من الصفات التي لا يمكن حصرها وسنذكر بعضاً منها وأشهرها والتي يمكن أن يوصف بها المستبد، قد تجتمع كلها في شخص معين وقد تكون صفة أو أكثر ومنها:

صفة الأنانية

وليس المقصود هنا حب الذات، وإنما هو الأنانية المفرطة التي تتعدى الذات وتستحوذ على كل حب يمكن أن يُكنه الشخص المستبد للآخرين، فيُضْعِف استيعاب الإنسان الأناني لمثل هذا الحب، ما يجعل الاستبداد يتمكن منه، ويحيده عن طريق الخير، فإذا رأى النجدين "طريق الخير وطريق الشر" حاد عن الخير ليَستحوذ الشر على تلك الذات الأنانية فيصبح الإنسان مستبداً.

صفة التحكم

التحكم صفة عليا من صفات الاستبداد ولابد أم تكون ملازمة للصفة الأولى، ولكن يمكن للصفة الأولى أن تكون منفردة، ويتصف بها شخص معين بدون صفة التحكم، وهذه صفات السلاطين والحكام وذوي المناصب في الدولة، وعادة ما تلازم قليلي الوعي والإدراك، مما يجعلهم يرون أنفسهم بأنهم يستحقون مكانتهم وأكثر، و يحتقرون غيرهم، ويمتلكون مناصبهم دون اكتراث لأي مسائل أو قوانين يمكن أن يتقيدوا بها، وهذه الصفة تتيح أيضا إمكانية اكتساب كل صفات الاستبداد.

صفة التملك والاستحواذ

 وهي من أكثر الصفات التي تدل على الاستبداد لانتشارها وقسوة من تعرض لها، والتي يكون الظلم هو الدليل للاتصاف بها، مما يجعلها أكثر ظلامية وأشد فتكا في المجتمعات ويقع على عاتقها كيان المستبد، إذ تظهر القوة والمال وبسط النفوذ وتمويل مشاريع الاستحواذ والتملك أكثر فأكثر، وقد تؤدي أحيانا إلى مرحلة الملكية المطلقة وهو امتلاك دولة بأكملها والتسلط عليها لعقود وقرون.

التمرد

 يبدأ المستبد بالتمرد ثم ينتقل إلى الاستحواذ ثم إلى التحكم ثم إلى الأنانية المطلقة، وهكذا فصِفة التمرد لا تتوقف في فترة معينة عند المستبد، حتى ينتقل إلى أعلى درجة من درجات الاستبداد وهي جنون العظمة. 

التكبر

وهي أول درجة من درجات الاستبداد، وتعطى فيها الأفضلية والاستحقاق والكمال للذات، مما يولد طاقة سلبية للإنسان المتصف بهذه الصفة، وتبدأ من التَجبر والغطرسة والتسلط على الضعفاء، ثم الانتقال إلى درجات الاستبداد. ولا يمكن أن يكون المستبد مستبدا دون مقارنة نفسه بغيره أو مقارنة الناس بغيره، حتى يرى عظمته أكبر من الآخرين ويعطي لنفسه الحق في كل شيء، فإن خضع مناصروه ازداد غروره وساد حضوره، حتى يصل لمرحلة الاستعباد وهي أعلى مراتب جنون العظمة والأنانية المطلقة للذات البشرية.

ويمكن النجاة من صناعة الاستبداد بالوعي السليم، والتعلم وإعطاء كل ذي حق حقه، دون الثناء المفرط، ودون التقديس المذموم، مع الشعور بالمسؤولية الكاملة تجاه الأفراد والمجتمعات، متى ما تحقق هذا في الأفراد والمجتمعات والأمم تنتهي صناعة الاستبداد ويبدأ عصر نهضة جديد، متعطش للسلام والعدالة، ينعم فيه الجميع بالحرية والاطمئنان والسلام.