الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

سليمان عليه السلام واحد من أعظم الأنبياء الذين تحدّث عنهم القرآن الكريم، وقد كان ملكاً ونبيّاً عظيماً، وابن ملك ونبيّ عظيم -داود عليه السلام- {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [سورة النمل، الآية 16]. ورثه في النبّوة والملك، وقد خصّه الله تعالى بأشياء قصّها علينا القرآن الكريم، منها أنّ الله تعالى علمه منطق الطير ومَلَّكه على الإنس والجنّ والطيور.

وكان سليمان عليه السلام نبيا مسددا، وملكا ملهما موفقا، والناظر في تصرفاته كما حكاها القرآن يلمح ذلك. وفي هذا المقال سأتحدث عما علمني سليمان عليه السلام

فمِن صفات سليمان عليه السلام التي جاء ذكرها في القرآن العظيم:

1- الأوبة والتوبة: كان سليمان عليه السلام أوَّاب؛ قال تعالى: ﴿وَوَهَبۡنَا لِدَاوُۥدَ سُلَیۡمَـٰنَۚ نِعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابٌ﴾ [سورة ص الآية  30]، أي رَجَّاع إلى ربّه بالتوبة والإنابة. كلما شغلته شواغل الملك والسلطان، استرجع وتاب إلى الله - عز وجل.

2- تفقُّد الرَّعية: فمِن مَهامِّ القائد أن يُتابع ويتفقَّد رعيته، فضلاً عن جنوده؛ قال تعالى: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ [النمل: 20]، والتفقد يكون وَفْقَ سياستين:

  • الأولى: المتابعة والمراقبة المَيدانيَّة، قصد معرفة من أنجز الأعمال بإتقان، ومن قَصَّر في أعماله وتنبيهه على ذلك، قصد تدارك النقص والخلل.
  • الثانية: معرفة من يحتاج للدعم والمساعدة بشتى أنواعها.

قال القرطبي في تفسيره "فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَفَقُّدِ الْإِمَامِ أَحْوَالَ رَعِيَّتِهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ. فَانْظُرْ إِلَى الْهُدْهُدِ مَعَ صِغَرِهِ كَيْفَ لَمْ يَخْف عَلَى سُلَيْمَانَ حَالُهُ، فَكَيْفَ بِعِظَامِ الْمُلْكِ. وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ، قَالَ: لَوْ أَنَّ سَخْلَةً عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ. فَمَا ظَنُّكَ بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ وَيَضِيعُ الرُّعْيَانُ" [الإمام القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 178/13]

3- التحري والتأكد من التقارير: سليمان عليه السلام تَفَقَّد الهدهد بنفسه؛ حيث قال: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ [سورة النمل: 20]، ولم يعتمد على تقارير الآخرين، لأن التقارير قد تكون ناقصة غير مكتملة، بل قد يكتبها كاتبها ويدس فيها عداوة معيَّنة في تعيين أخطاء الآخرين وكشف عَوارهم. لذلك سليمان عليه السلام تحرى واستقصى الخبر بنفسه.

4- المحاسبة: وبعد التحري والاستقصاء إذا ثبت أن هناك تقصيرا متعمدا، فمن صلاحيات القائد الإيجابي أنه يحاسب من بمعيَّته، ومن هذا المبدأ بيَّن نبيُّ الله سليمانُ عليه السلام أنه سيُحاسِب ويعاقب الهدهد إذا ثبَت تقصيره؛ قال تعالى: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 21].

ولكنَّ الحساب يكون بالحق، والعقوبة لا تكون إلا بعد استبيان الأمر جيدًا، والاستماع للمعاقَب، ومنحُه الفرصة المناسبة للردِّ على التُّهَم الموجَّهة إليه، والاستماع لوجهة نظره، والدفاع عن نفسه بواقعيَّة، حين ذلك ستكون العقوبة معبرًا حقيقيًّا عن رصانة قوانين العمل، وكفاءة المؤسسة، وعدالة القائد. 

5- التنظيم والتقسيم الوظيفي: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَیۡمَـٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّیۡرِ فَهُمۡ یُوزَعُونَ﴾ [سورة النمل، الآية، 17] أي: جمع له جنوده الكثيرة الهائلة المتنوعة من بني آدم، ومن الجن والشياطين ومن الطيور فهم يوزعون، يدبرون، ويرد أولهم على آخرهم، وينظمون غاية التنظيم في سيرهم ونزولهم، وحِلِّهم وترحالهم قد استعد لذلك وأعد له عدته. [عبد الرحمان السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 602].

والتقسيم الوظيفي يحدد لكل موظف عمله ومهمته التي كُلِف، حسب طاقاته واختصاصه وميولاته "وهـذا التقسيم مبناه على الاختصاص، وعلى الاستعدادات الفكرية والطاقات الوهبية والمكتسبة، ولا شـك أن هذا مؤشر على أن الملك القويم يمتاز بحسن التقسيم، وتوخي الدقّة في إدارة السلطة، وهذا بلا ريب من حسن إدارة النظام، ومن عوامل نجاح الحكم، وهو ما يمكن أن يطلق عليه اليوم بالمفهوم المعاصر: (التوزيع الإداري) أو (التقسيم الوظيفي)". زكريا علي محمود الخضر - القيم الحضارية في قصة سيدنا سليمان - عليه السلام - ص (95).

6- التواضع: قال الله عز وجل ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا﴾ إعجابا منه بفصاحتها (فصاحة النملة التي تكلمت مع النمل)، ونصحها وحسن تعبيرها. وهذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب الكامل، والتعجب في موضعه وأن لا يبلغ بهم الضحك إلا إلى التبسم، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم جل ضحكه التبسم، عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يقول: "ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي" (رواه البخاري).

والرسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر الناس تبسما وما كان يتكلف الضحك، ولا يختلق الابتسامة، بل كان يمتلك نفوس أصحابه رضي الله عنهم بابتسامته المشرقة، بعيدا عن القهقهة" فإن القهقهة تدل على خفة العقل وسوء الأدب. وعدم التبسم والعجب مما يتعجب منه، يدل على شراسة الخلق والجبروت. والرسل منزهون عن ذلك. [عبد الرحمان السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص 602].

7- الشعور بالمسؤولية عن هداية الآخَرين: وهي صفة من صفات الرسل والأنبياء، كما هي صفات الداعية الرسالي، والقائد الإيجابي، فهو يَشعر بأنها مسؤولية تقع على عاتقه، تتجلَّى في هداية الآخرين، ونشر الفضيلة بينهم، وإن لم يكونوا من رعيته أو أتباعه، ومن هنا كتب نبيُّ الله سليمان عليه السلام إلى بلقيس وقومها كتابًا يَدعوهم فيه للدخول في الإسلام، ويلاحظ أن كتاب سليمان عليه السلام لم يكن فيه إطناب وسَرْد طويل للكلام، وإنما كان موجزًا وواضحًا، وبِلُغة بسيطة ومفهومة، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [سورة النمل: 30، 31].

 وهذه صفة مهمة في مخاطَبات القائد الإيجابي؛ يختصر الكلام حتى لا يتيه الآخرون بين كثرة المعاني وطول الكلام؛ يقول الطبري: "وكذلك كانت تَكتب الأنبياء، لا تُطنِب، إنما تَكتب جُملاً" [تفسير الطبري، ج 422/19].

8- النفوذ الواسع: والنفوذ هو القدرة على إحداث أمرٍ أو منعه، وهو مرتبطٌ بالقدرات الذاتية، ويُضاف لها الإمكاناتُ الماديَّة والصلاحيات الممنوحة، والأدوات المتوفِّرة، فمِن أجل أن يَكون سليمانُ عليه السلام قادرًا على التغيير، فإنه يحتاج إلى نفوذٍ واسع، ومن حكمته عليه السلام أنه طلَب نفوذًا عظيمًا؛ قال تعالى:﴿قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِی وَهَبۡ لِی مُلۡكا لَّا یَنۢبَغِی لِأَحَد مِّنۢ بَعۡدِیۤۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ ۝٣٥ فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّیحَ تَجۡرِی بِأَمۡرِهِۦ رُخَاۤءً حَیۡثُ أَصَابَ ۝٣٦ وَٱلشَّیَـٰطِینَ كُلَّ بَنَّاۤء وَغَوَّاص ۝٣٧ وَءَاخَرِینَ مُقَرَّنِینَ فِی ٱلۡأَصۡفَادِ ۝٣٨ هَـٰذَا عَطَاۤؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَیۡرِ حِسَاب ۝٣٩ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔاب ۝٤٠﴾ [سورة ص، الآيات 35-40]

9- رفض الرشوة: وهنا يَنبغي للقائد أن يميز جيدًا بين الرِّشوة وبين الهديَّة، وتتدخَّل في هذا التمييز مجموعةٌ من العوامل؛ فمِنها العلم، ومنها التقوى، ومنها نَقاء السريرة، ومنها صدق النِّية، فالهدية والرِّشوة في العطاء والأخذ متشابهتان، ولكن الفرق في النوايا والنتائج، ومن هنا ميَّز النبيُّ سليمان عليه السلام أنَّ ما أرسلته الملكة بلقيس إنما كانت بمثابة الرِّشوة، لعله يرجع عن قراره حين دعاهم للإسلام؛ لذلك فإنه عليه السلام رفَضها رفضًا قاطعًا، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاۤءَ سُلَیۡمَـٰنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَال فَمَاۤ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَیۡر مِّمَّاۤ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِیَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ﴾ [سورة النمل: 36].

ويحقُّ للقائد أن يَقبل الهدية سواء كانت شخصيَّة أو لمصلحة الجماعة، ولا يحق له أن يَأخذ الرشوة، وللتمييز بين الهدية والرشوة:

 الهدية تكون من غير مقابل؛ ولهذا اعتبر النبيُّ سليمان عليه السلام هديَّة بلقيس رشوة، حين قالت: ﴿وَإِنِّی مُرۡسِلَةٌ إِلَیۡهِم بِهَدِیَّة فَنَاظِرَةُۢ بِمَ یَرۡجِعُ ٱلۡمُرۡسَلُونَ ۝٣٥﴾ [النمل: 35]، فما دامَت الملكة بلقيس تَنتظر أن يَرجع مَن أرسلته بالهدية بالنتيجة، فقد كانت تنتظر المقابلَ لتلك الهدية، فتكون رشوة وليست هدية.

10- مواكبة التطور العلمي واستثماره: ومن ذلك أنَّ سُليمان عليه السلام استغلَّ العلم في صناعة الزجاج، واستثمر ذلك في إبهار بلقيس من أجل هِدايتها، فأمر عليه السلام بأن تُزجَّج الأرض التي استقبَل عليها بلقيس، وجعل مِن تحت الزجاج الشفاف ماءً يَجري، فلما رأته ظنَّت أنه بِركةً من ماء، فرفعَت ثيابها من أجل أن لا تبتلَّ، قال الله تعالى: ﴿قِیلَ لَهَا ٱدۡخُلِی ٱلصَّرۡحَۖ فَلَمَّا رَأَتۡهُ حَسِبَتۡهُ لُجَّة وَكَشَفَتۡ عَن سَاقَیۡهَاۚ قَالَ إِنَّهُۥ صَرۡح مُّمَرَّد مِّن قَوَارِیرَۗ قَالَتۡ رَبِّ إِنِّی ظَلَمۡتُ نَفۡسِی وَأَسۡلَمۡتُ مَعَ سُلَیۡمَـٰنَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [سورة النمل: 44].

قيل لها: ادخلي القصر، وكان صحنه مِن زجاج تحته ماء، فلما رأت صحن القصر ظنته ماء تتردد أمواجه، وكشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فقال لها سليمان: إنه صحن أملس من زجاج صاف والماء تحته. فأدركت عظمة مُلك سليمان.

11- الشكر: فكان نبي الله سليمان عليه السلام يَعلَم أن الشكر صفةٌ ينبغي أن تلازمه، فكان عليه السلام ما إن يَرى نعمةً من الله جل جلاله حتى يُبادر بالشكر لله جل جلاله؛ فقد قالها حين سمع كلام النملة وفَهِم قولَها؛ قال تعالى: ﴿حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَتَوۡا۟ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَة یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُوا۟ مَسَـٰكِنَكُمۡ لَا یَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَیۡمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ ۝١٨ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰ⁠لِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِی بِرَحۡمَتِكَ فِی عِبَادِكَ ٱلصَّـٰلِحِینَ ۝١٩﴾ [سورة النمل: 18، 19].

استشعر سليمان عليه نعمة الله عليه، فتوجَّه إليه داعيًا: ربِّ ألْهِمْني، ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ، وأن أعمل عملًا صالحًا ترضاه مني، وأدخلني برحمتك في نعيم جنتك مع عبادك الصالحين الذين ارتضيت أعمالهم.

اللهم ارزقنا شكر نعمك التي لا تُعد ولا تحصى.