الإقتصاد هو أحد أهم الأقطاب التي تُحرك العالم، فجميع شؤون البلاد تعتمد أساساً عليه، وفي النهاية يُقاس تقدم البلاد وتأخرها بمدى تقدم أو تأخر اقتصادها، إذ أن جميع مؤشرات التقدم والتخلف تتأثر بالوضع الاقتصادي، فمثلا للنهوض بالبنى التحتية يجب أن يكون اقتصادنا متطوراً بشكل دائم لنواكب العصر والإصلاحات والتجديد، كما نجد أن التعليم تزداد جودته بزيادة النفقات عليه من الدولة، وكذلك الأمر بالنسبة للاستعدادات العسكرية، وما إلى ذلك من قطاعات الدولة، فهي تتأثر بشكل مباشر باقتصادها، خلاصة القول أن المال الذي هو أحد أهم عناصر الاقتصاد هو عصب الحياة. 

لإسْتمرار تقدم البلاد ودوام نموها وتطورها لابد من اقتصاد مستقر ومتطور باستمرار لمواكبة احتياجات العصر ومتطلباته، وهنالك العديد من العوامل التي تؤثر وتساعد على استقرار الاقتصاد بصورة أو بأخرى على مستوى الدولة الواحدة، وعلى مستوى الأمة الإسلامية قاطبة.

عوامل داخلية في الدولة
1-ضبط حركة الاستيراد والتصدير 

حركة الاستيراد والتصدير من أهم المعاملات الاقتصادية التي تمتد وتتشعب داخل وخارج الدولة، يُمكن استغلالها وتسييرها لصالح الدولة واقتصادها، وكما يُمكن أن تُسهم بشكل أساسي في تدمير الدولة وتدمير اقتصادها، فعندما يكون الفرق كبير جداً بين المُستهلك في الاستيراد وبين عائد التصدير فهنا تكمن المشكلة، ويعتمد أيضاً على نوعية السلع المُصدرة والمستوردة.

يجب التقليل قدر الإمكان من حركة الاستيراد ومحاولة توفير السلع الأساسية التي يتم استهلاكها بشكل يومي، مثل السلع الغذائية من إنتاج محلي، أي أنه يجب تحقيق الإكتفاء الذاتي من السلع الأساسية للحياة وعدم الإعتماد على المستوردة منها، كما لا يجب تصدير السلع الأساسية قبل تحقيق الإكتفاء الذاتي للدولة وسكانها، إذ أن التصدير قبل تحقيق الإكتفاء الذاتي يسبب عجزاً في المكونات للسلع الأساسية مما يضطر مرة ثانية لإسْتيرادها أو تسجيل عجز في توفير هذه السلعة.

يجب على كل دولة أن تقوم بجدولة السلع التي يتم إنتاجها والتي يُمكن أن يتم إنتاجها، فهناك سلع ليست من الأساسيات وتصديرها لا يؤثر بشكل أساسي على أسباب المعيشة اليومية، ويمكن اعتبارها سلعة مادية فقط أي أنها تُنتج فقط لأجل العائد المادي منها وليس لاستهلاكها، فمثلا نجد كل من أثيوبيا وكينيا تحتلان المركز الخامس والرابع على التوالي عالمياً في إنتاج وتصدير الورود، وتُعدد كينيا الأولى إفريقيا في إنتاجها وتصديرها، وبلغ العائد من تصدير الأزهار لكل من هاتين الدولتين لعام 2019 ما مقداره 662 مليون دولار، كما يُوفر إنتاج هذه السلعة 500 ألف وظيفة للعمال في كينيا، بينما بلغ عائد تصدير الزهور في هولندا والتي تُعد الأولى عالمياً ب 3.2 مليار دولار.

فمن الواضح أنه هنالك سلع يمكن استثمارها بشكل واسع ومُربح جداً، بحيث تُساهم في رفع الإقتصاد وتدعم السلع المستهلكة بشكل يومي. لنأخذ السودان مثلاً: يبلغ معدل هطول الأمطار في السودان حوالي 442 مليار متر مكعب سنوياً، بينما يحتوي على ما يقارب 900 مليار متر مكعب من المياه الجوفية التي تتجدد سنوياً بمقدار 1563 مليار متر مكعب، هذا بغض النظر عن حوض النيل والمجاري الجانبية، إذا أخذنا في الإعتبار أن جميع هذه المصادر هي عبارة عن مياه عذبة تماماً، سنجد أنه يُمكن مُعالجة هذه المياه وتعبئتها في الكثير من مصانع التعبئة التي تملأ البلاد ومن ثُم تصديرها للعديد من الدول، حيث نجد أن ما يقدر بحوالي 2.7 مليار شخص يعانون من عدم توفر المياه العذبة لمدة شهر على الأقل سنوياً، ووفقاً لتقرير معهد الموارد العالمية ( WRI) الذي نشر في شهر أغسطس من العام الماضي أنه من بين 17 دولة تعاني من أزمات المياه العذبة 12 دولة من الشرق الأوسط وفي أعلى القائمة قطر ولبنان والكيان الصهيوني، كما دخلت كل من إيران والأردن والكويت وليبيا والإمارات والبحرين وعمان قائمة الدول التي تعاني أزمة في شح المياه، بالإضافة إلى 27 دولة أخرى تعاني من نقص حاد في المياه من بينها اليمن والجزائر وتونس والمغرب والعراق وسوريا وتركيا ومصر وغيرها، بينما الحل موجود بين أيدينا ولكن سوء الإدارات يحول دونه.

 إن معالجة المياه العذبة في السودان وتصديرها سيعود بعائد مادي مُعتبر للدولة، كما أنه سيحل مشكلة العديد من الدول الشقيقة ودول الجوار من حاجتها من المياه العذبة، مع العلم أنه في إحصائية لعام 2014 وُجِد أن مقدار ما يتبخر من المياه يقدر بحوالي 3 مليار متر مكعب، وهذه إحصائية جزئية لا تشمل جميع المساحات الرطبة في السودان.

2-القضاء على الرأسمالية المحتكرة للسلع الأساسية

في العديد من الدول نجد أن الحكومة ذات وجود ضعيف في الأسواق بمختلف أنواعها، ونجد أن جميع الأسواق والسلع بمختلف منتجاتها يتم السيطرة عليها من قبل القطاعات الخاصة وتتحكم فيها، ويكون لها الحرية في التعامل مع منتجاتها سواء تصديرها أو الإبقاء عليها لمصلحة الدولة، وسواء تم تصديرها أو بيعها داخلياً فإن العائد يكون لأفراد بعينهم وليس للدولة. 

هذا الأمر يضر الدولة من حيث أنها:

  •  لا تملك قُوتَها، بما أن السلع الأساسية مُحتكرة في أيادي الرأسمالية، وبالطبع لا يملك قراره من لا يملك قوته، لذلك نجد أن هذه الفئات هي المتحكمة في إنتاجية السلع وأسعارها وكيفية وصولها للمستهلك أو عدم وصولها من الأساس، وبالتالي فإن الحكومة بهذا تكون قد فقدت أكبر مصدر إقتصادي وأكبر صوت سياسي برلماني ألا وهو الشعب، وبالتالي فالحُكومة تكون مُلزمة بصرف رواتب لجميع موظفي الدولة دون تأخير.
  •  في المقابل هذه الرواتب يجب أن تعود للدولة عبر شراء السلع الإستهلاكية وبالتالي تقليل التضخم، ولكن ما يحدث هو أن هذه الرواتب جميعها تستقر أخيراً في الحسابات البنكية للرأسمالية المسيطرة على سوق السلع الإستهلاكية، ويكون لزاماً على الحكومة إعادة صرف الرواتب بالرغم من هذا العجز المادي الكبير.
3-الإعتماد على الناتج المحلي 

يؤثر الإعتماد على الناتج المحلي بشكل أساسي في إقتصاد الدولة، إذ أن الدولة تقوم بإعادة تدوير أموالها وصكوكها داخل حدودها ولا تحتاج للكثير من العملات الصعبة لتوفير الإحتياجات الأساسية، ونرى بوضوح أن أكثر الدول إعتماداً على الناتج المحلي هي أكثر الدول تقدماً في جميع مجالات الحياة، لأنها تعتمد على نفسها في التطور بشكل أساسي ولأنها تتحكم بإقتصادها. 

كما أن الإعتماد على الناتج المحلي يقلل بشكل كبير من نسبة البطالة إذ أن الأمر طردي فكلما زاد الإنتاج زادت الحاجة للعمال وقلت البطالة، وكلما زاد عدد العمال زادت الإنتاجية، وتتمثل أهمية الإعتماد على الناتج المحلي بالدرجة الأولى في عدم الاضطرار للرضوخ للشروط الشرائية التي تفرضها الدول التي يتم الاستيراد منها.

4-تشجيع المشاريع الإنتاجية

تُعد دولة رواندا من الدول الغير ساحلية، وهي قليلة الموارد بصورة عامة، وذات كثافة سكانية عالية جداً، في عام 1994 كان متوسط حجم المزارع فيها لا يصل إلى هكتار واحد مع كثافة سكانية تصل إلى 450 شخصاً في الكيلومتر الزراعي الواحد، بحلول عام 2018 أصبحت رواندا تنافس الصين والهند وأصبح يُطلق عليها في الآونة الأخيرة لقب سنغافورة أفريقيا بسبب نمو اقتصادها بوتيرة سريعة، وبالعودة وتقصي أحد أهم أسرار هذه النهضة نجد أن الناتج المحلي لها قد بلغ حوالي 9 مليون دولار بحلول عام 2017، إذ أنها تبنت فكرة المشاريع الإنتاجية وسعت لنشر ثقافتها بين المواطنين، وما ساعد كذلك هو مقدار الموارد البشرية المتوفرة في الدولة.

من التجربة الرواندية هذه يمكن لنا ولجميع الدول البناء على هذا الأساس وتشجيع المشاريع الإنتاجية ونشرها بين المواطنين، بالطبع مع مراعاة عودة رؤوس الأموال للدولة وليس للقطاعات الخاصة، إذ أن توفير الناتج المحلي يضمن تحقيق الإكتفاء الذاتي للمواطنين وبأيديهم، مع تدخل بسيط من الحكومة كما يضمن تحقيق إحتياطي إقتصادي ذي قيمة لا بأس بها.

5-التحكم في عمليات السوق المفتوحة

عمليات السوق المفتوحة هي التي تتم بين البنوك المركزية والبنوك الأخرى في البلد، وتقوم على معاملتي البيع والشراء حيث يقوم البنك المركزي ببيع الأوراق المالية الحكومية للبنوك التجارية، وذلك بغرض سحب السيولة من البنوك وأيضاً بعد فترة شراء هذه الأوراق من البنوك بغرض تغذيتها بالسيولة المطلوبة، هذه العملية عندما يتم ضبطها وتكون الحكومة هي من يُمسك بزمامها تكون في صالح إقتصاد الدولة، إذ أنها تحد من حركات التضخم المالي، وتتحكم في مقدار السيولة الجارية في الدولة، كما تتحكم في سعر الفائدة المالية في البنوك وعدم ترك الأمر منوطاً بأصحاب البنوك.

عوامل خارجية على صعيد الأمة الإسلامية

من المعلوم أنه ومنذ بزوغ الفجر المحمدي كان يتم التعامل مع المسلمين على أنهم أمة واحدة ودولة واحدة، وذلك في جميع شؤون الحياة بما يشمل الجانب الإقتصادي للدولة الإسلامية وما كان يعرف حينها ببيت مال المسلمين، فعلى ضوء هذه المعطيات يوجد أيضاً بعض العوامل التي تساعد على إستقرار الإقتصاد في البلاد الإسلامية ولكن على مستوى تعاوني أكبر بين الدول الإسلامية ومنها ما يلي:

  • إنشاء منظمات لضبط كفاءة الإنتاج

مثل منظمات ضبط الجودة العالمية، ويكون دور هذه المنظمات هو وضع معايير الكفاءة للمُنتجات في الدُول الإسلامية بما يوافق الاحتياجات العصرية، مع مراعاة الضوابط الشرعية للإنتاج، يكون العائد من هذه المنظمات هو تحري المنتجات الأعلى كفاءة على مستوى العالم الإسلامي، والذي يمكن في سبيله التخلي عن نفس المنتج من العالم الغربي، بصورة مختصرة الأمر هو تحقيق الإكتفاء الذاتي على صعيد الأمة الإسلامية بمنتجات ذات كفاءة عالية من ناتج محلي إسلامي، وعدم الحاجة لمنتجات خارج حدود الأمة. 

  • إنشاء سوق إسلامية عالمية مشتركة

ويكون الغرض من هذه الأسواق هو ضمان مساحات ترويجية لجميع الدول الإسلامية لعرض منتجاتها، كما توفر أيضاً قاعدة للسلع المُنتجة ضمن حدود الأمة الإسلامية، وتكون ذات ضمان وموثوقية عاليتين بالنسبة للمسلمين كما يمكن التصدير لدول العالم الغربي بعض السلع والمنتجات، إذ أن الأمة الإسلامية تكاد لا تخلو أي دولة من دولها من سلعة فريدة يحتاجها العالم منها فقط، وأقوى مثال يمكن ضربه لهذه السلع هو الأحجار الكريمة.

قيام هذه السوق المشتركة يوفر على جميع الدول الإسلامية عناء الضغوط الشرائية التي تُمارس عليها من قِبل دول العالم الخارجي، كما يضمن ذلك اجتهاد الدول الإسلامية وجدها في سبيل اكتساح السوق بمنتجاتها، ورفع روح التنافسية بين الدول الإسلامية وتحقيق أعلى معدل كفاءة يمكن الحصول عليه.

  • إعطاء الدول الإسلامية الأولوية في المعاملات التجارية

عند إنشاء المنظمات التي تضمن كفاءة المنتجات الإسلامية وإنشاء سوق عالمية إسلامية، لا يكون أمام الكثير من الدول بد سوى أن تنفع غيرها من ذويها، فاَلأقربون أولى بالمعروف، عند ضمان كفاءة السلعة المنتجة إسلامياً وتوفرها بسهولة في السوق الإسلامية العالمية، ومع بنود شرائية يسيرة وتصب في مصلحة جميع الدول، عندها ستكون هذه السلع وهذه الدول خير بديل للسلع والمنتجات الغربية، وتلافي الضرر الذي قد يقع بشرائها.

وبهذه الأولوية بين الدول كذلك تضمن الأمة الإسلامية إعادة تدوير أموالها داخل حدودها وعدم خروجها والحيرة في كيفية إستعادتها، كما يمكن إنشاء احتياطي إسلامي نقدي بمشاركة جميع الدول الإسلامية المشاركة في السوق الإسلامية ليضمن بذلك موثوقية التعامل بين الدول وضمان إعطائها الأولوية في المعاملات التجارية.