لا يشك أحد، في حضور ابن تيمية حضورا واضحا، ومؤثرا في الفكر السلفي، أو الفكر بعامة، ولذا كان محط أنظار الكثيرين غربا وشرقا، وكثرت حوله الدراسات والبحوث، خاصة بعد ظهور حركات وجماعات الجهاد العالمي.

وابن تيمية، بوصفه عالما لا نظير له في المعقول والمنقول، فقد تميز بمنهج صارم، ودقيق، وكذلك بان طريقه في جعل الوحي عمدة العقل والنقل.

ومن الواضح لكل باحث ومتابع، بأن هناك من ادعى اقتفاء أثره، والدفاع عنه، وتبني منهجه، ولكنهم في الحقيقة قد أفسدوا الكثير من هذا المنهج الدقيق، وأساءوا إلى الانتساب إلى هذا الرجل العظيم، وبخاصة تلك الفئة التي لم تحمل من «السلفية» إلا الادعاء والتنفخ، وتعالت على الناس، وادعت امتلاك الحق، ورمت الآخرين بالبدع والتكفير والتفسيق. 

لقد عاشت «السلفية»، ردحا من الزمن، وهي تتخبط ساعة وتنضبط أخرى، مع تبنيها لشيخ الإسلام، وعدم خروجها من ثوبه، والحاصل أن هذه الفئة لم تفهم الكثير من اطروحاته العقلية والفلسفية ولم تأخذ من السلفية، ومن ابن تيمية إلا الاسم، مع فشلها الذريع في مواكبة الواقع، فضلا عن فهمه، كما كان الشيخ يدرك أبعاد وأغوار المشكلات المعرفية والعقدية والفكرية في زمانه.

لقد تبنت السلفية ابن تيمية، وادعته لنفسها، ولكنها فقدت الروح والعلم وصفاء النفوس ورقة القلوب، فلم تكن كرحمة ابن باز، ولا كعمق المعلمي، ولا كغور فهم الشنقيطي، ولا صلابة فهم ابن إبراهيم، بل كان الجفاء والتنفير سبيلها، إلا من رحم الله، والأجدر أن يسحب منهم اسم «السلفية» لتشويههم هذا الاسم المنتمي لخير القرون.

ولكننا اليوم، بفضل الله، نشهد عودة حميدة واعية وتجديدا، لنصاعة هذا المصطلح، ورد اعتباره على كل الأصعدة، فقد شهدنا صعودا على المستوى الإعلامي لتيار سلفي، أستطيع أن أطلق عليه «التيمية الجديدة»، أو «السلفية الحقيقية»، ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية، كان يصارع أهل البدع، وأهل الضلال، والنصارى والصوفية المنحرفة، وأهل الكلام، والشيعة والمعتزلة والأشاعرة، وغيرهم، وهو ينتسب إلى السلف، وإلى فهمهم وإدراكهم في فهم النصوص واستخدام المعقولات في الحوارات والنقاشات، كما كان الإمام أحمد والدارمي وغيرهم.

لقد كان في يد ابن تيمية قلم سيال وعقل جبار يحفظ كل صغيرة وكبيرة، من فلسفة ومنطق وعلم كلام، وأقوال سلف أهل البدع والكلام والفلاسفة، وهو متدفق بفهم عال لنصوص القرآن والسنة وأقوال السلف.

وكذلك كان الشيخ يصارع وفي عقله أصول المعقول والمنقول حاضرة، لا تكاد تغيب، فهو بحق، عالم فذ من طراز رفيع، فقد برز في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وهو عالم متميز في الشرع والفقه والحديث والتفسير والأصول، لا يكاد يماري في ذلك إلا جاهل بالرجل، أو قليل البضاعة في هذه العلوم، أو حاقد مبغض للرجل وأطروحاته.

ويكفي الشيخ فخرا أنه مدحه علماء كبار مثل ابن دقيق العيد حيث قال عنه بعد أن رآه وسمع كلامه: «ما كنت أظن أن الله تعالى بقي يخلق مثلك»..

وقال أيضا: «لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا، العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد»، ومنهم ابن الزملكاني الذي تناظر هو وشيخ الإسلام، ولكن ذلك لم يجعل الزملكاني يغض من علم الشيخ، ولا يغمطه حقه، بل قال عنه مرة: «كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرف مثله»، ومنهم ابن رجب الحافظ قال عنه في طبقاته: وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني أنه سئل عن الشيخ يعني ابن تيمية فقال: «لم ير من خمسمائة سنة- أو قال أربعمائة سنة - أحفظ منه. »، ومنهم ابن حجر والسبكي والذهبي وغيرهم كثير جدا.

تلك مقدمة مهمة قبل أن أطرح ما لاحظته من مدة في ظهور تيار سلفي تتقدمه نظرات ابن تيمية، ومنهجه الواضح والسلس في طرح القضايا، فهذا التيار شبيه بمدرسة الشيخ ابن تيمية رحمه الله من هذا الباب، وحضوره اليوم له قبول وانصات، وإقبال عليه على مستوى الطرح والفكر والعلم.

ظهر هذا التيار، قبل مدة قليلة من الزمان، ولكنه أثبت حضورا واضحا وملاحظا، ومع أنه شتات، كعادة «السلفيين»، ولكنه قوي صارم عنيد على الكسر والغلبة، متعال في الطرح، متمسك بفهم السلف للنصوص، مع واقعية واضحة تناسب اليوم والحاضر!

هذا التيار يختلف عما سبقه كثيرا، بل أكاد أجزم، أنه استفاد من التجربة السابقة، وبنى عليها، وصمم أن يخرج بثوب قشيب مقبول، وواقعي، ويتناول الأمور التي يحتاجها مسلمة اليوم، أو كما يقال يفهم «واجب الوقت».

ما أجاءني لهذا الحديث، ما رأيته من مناقشة «عبد الله العجيري»، مع «الغامدي»، ولا يهمني هنا، من المنتصر فيها، فقد بدأ الغامدي تلميذا مطاوعا لأستاذه، لا يستعلي بما لا يعلم، ولكن ما يهمني هو الطرح الراقي والعميق الذي تناوله الأخ «عبد الله العجيري»، وتلك القوة والهدوء والاستماع والتمكن والثقة بالنفس في آن!

هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت هناك بعض الردود التي تقلل من عمل العجيري، أو الغامدي، بكونهما من مدرسة واحدة هي المدرسة السلفية، وذلك إجحاف واضح وظلم بين، فقد مثل العجيري وبكل قوة «المدرسة السلفية التيمية»، بكل حضورها ومنطلقاتها وأدواتها، التي ذكرنا بعض أصولها آنفا، فهو يعرف الواقع معرفة خبير، وكذلك يفهم النصوص فهم عالم، وهو في المحصلة رجل أجاد الطرح، وأعطى صورة صادقة لما ينبغي أن يكون عليه السلفي اليوم، بعد أن عجز السلفيون- أو كثير منهم- عن الوصول للعلم والمعرفة بأدواتها الصحيحة، سواء في المعقول أو المنقول، وتسودوا وأفتوا قبل تمكن العلم منهم.

إن هذه المدرسة السلفية -لانتسابها للسلف-التيمية، قادمة بقوة وثبات، وقد رأينا نماذج مشرفة كمركز تكوين ودلائل على سبيل المثال وعلى مستوى الأشخاص، رأينا إياد القنيبي، وسامي عامري وفهد العجلان، وعبد الله العجيري، وماهر أمير وغيرهم كثير، وهم واضحون في منهجهم، بأنهم يتصدون للإلحاد وللشبه الكبرى ضد الإسلام والدين، وهذا الاتجاه اتجاه سلفي بحت، وطرح ناضج واع، ترك الكثير من الترهات، والفرعيات والقضايا الهامشية، وانطلق بقوة نحو فهم النصوص الشرعية، وعلم الكلام وفكر الغرب، وأدار المعارك ضد العدو الفكري بجدارة واقتدار، ومن يرد التأكد، فما عليه إلا وضع الأسماء في اليوتيوب لير بأم عينيه ما أتحدث عنه .

وما من شك أن هناك الكثير، الذين يعقد عليهم الأمل، وإنما ضربنا هذه الأسماء كأمثلة واضحة، تؤيد ما ذهبنا إليه من أن المدرسة السلفية التيمية قادمة بفكرها النير الجديد والقديم المتجدد.

وأخيرا، عتبي على من يختلف مع هؤلاء منهجيا أو عقديا، أن لا يفرح لهم، بل يهاجمهم حتى وهو يرى قوتهم، وفكرهم وهجومهم على الملاحدة أو أصحاب الشبهات وغيرهم، وكأنه لا يريد نصرة الدين إلا من جهته، وتلك قضية لا ينبغي أن تكون ديانة وخلقا وسلوكا، بل نفرح لكل مسلم ينصر الدين في أي مجال، مهما اختلفنا معه، وهذا هو منهج شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه فمواقفه مع الأشاعرة خير دليل على هذا!