تطالعون في هذا المقال الجزء الثاني من الجلسة الحوارية فلسطين بوصلة الأمة والتي استضاف فيها عمران الحضارة بالشراكة مع منتدى كوالالمبور يوم الخميس 20 مايو 2021 الدكتور البشير عصام المراكشي من المغرب والأستاذة هنادي الحلواني من القدس والأستاذ سامر الباز من غزة والدكتور مراد كدير من الجزائر وذلك للوقوف عند دور البناء المعرفي والفكري في تحقيق شروط النصرة والتمكين والتدافع الحضاري مع الكيان الصهيوني.

فضل الدعاء في النصرة للبعيدين عن ساحة المعركة

شمس الدين حميود: أعود إلى دكتورنا الحبيب الشيخ البشير عصام المراكشي لنواصل معه الحديث في محاور هذا اللقاء عبر أسئلة نطرحها عليه، وقبل أن أسألك دكتور هل لك تعقيب على ما تفضل به أساتذتنا وإخواننا من بيت المقدس ومن غزة العزة. 

البشير عصام المراكشي: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، نعم بارك الله فيكم ونسأل الله -عز وجل- أن ينصر إخواننا المجاهدين وأن يثبت إخواننا المرابطين، أريد أن أنطلق مما ذكرته الأستاذة الفاضلة المرابطة هنادي الحلواني حين ذكرت كيف أنصر القضية، قضية فلسطين أو قضية القدس وذلك أمر مهم جداً قد يستهين به بعض الناس لأسباب مختلفة من أهمها انتشار البعد المادي في تفكيرنا في هذا العصر، هذا السبب هو الدعاء، وأريد أن أنطلق من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي أخرجه الإمام مسلم وغيره أنه قال لما كان يوم بدر نظر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى أصحابه فإذا هم 300 ونيف ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض أبدا" يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فمازال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبوبكر فأخذ رداءه فرده ثم التزم من خلفه وقال: "يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعدك".

وكنت قد نظمت هذا المعنى في قصيدة لي فقلت:

أكرم بـــجيشٍ رســـول الله قائـــده       يدعـــــــو فتـنقلب الأفلاك آذانا

        لله صــــوت بأنحاء العريش سمــــا       يُــــقدم الــــــذُل للرحمن قربانـــا

               وصــــــاحب الصدق من قربٍ يُناشده      بعض الدعاء فنصر الله قد حانــا

وأيضاً أنطلق في هذا الحديث من آية وهي قول الله سبحانه وتعالى: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني مُمدكم بألف من الملائكة مردفين"، فالشاهد عندنا من هذه الآية ومن هذا الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن قدم الأسباب المادية كلها وهو في موضع الجهاد والعدو أمامه مع ذلك لم يستهن بالدعاء وإنما جعل من أهم أسباب النصر الدعاء والاستغاثة بالله سبحانه وتعالى، فأيضاً في زمننا خاصة بالنسبة لمن هم من أمثالنا البعيدين عن مواقع الرباط والجهاد ونحو ذلك أيضاً الدعاء مهم جداً، وفي كثير من الأحيان يكون انقلاب موازين القوى المادية بفعل دعاء من شخص قد يكون مغموراً عند الناس لكنه عند الله -عز وجل- معروف، وقد كانوا يقولون سبابة محمد بن واسع -رحمه الله تعالى- أشد على العدو من كذا وكذا من الجنود، هذه السبابة التي يدعو الله -سبحانه وتعالى- بها.

فهل عقمت الأمة أن يُوجد فيها أناس من أهل الصلاح والتقوى يمكنهم أن يدعوا ربهم -سبحانه وتعالى- فتنقلب لدعائهم الموازين ويُصبح أهل الجهاد منتصرين وتذل الآليات ويذل الجبابرة ويذل الطغاة والظلمة وهذا العدو يُهزم وكل ذلك بدعاء ذلك الداعي؟

ففي الحقيقة لا ينبغي أن نستهين بهذا الأمر، ويدخل في الدعاء أيضاً القنوت، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أنس أنه قنت شهراً يلعن رِعلان وزكوان وعُصية والحديث مُتفق عليه، وأستأذن منك لأن بعض هذه الشبهات تنتشر عند بعض الناس في عصرنا فنحتاج إلى الرد عليها، أرسل لي بعضهم يقول نحن ندعو منذ بضع وسبعين سنة بأن يُحرر الله المسجد الأقصى ومع ذلك لم يُستجب لدعائنا ولاشك أن قائل هذا الكلام عنده جهل بحقائق هذا الإسلام وبحقيقة الدعاء ومعنى الدعاء وطرق استجابة ربنا سبحانه وتعالى لدعاء المسلم، ومن العجيب جداً أن يصدر هذا الأمر من مسلم، لكن حين ننظر إلى هذا التحريف الذي وقع في عصرنا هذا من تحريف مفاهيم الإسلام وحين ننظر إلى ما يقع للمسلمين من قصف إعلامي يحاول أن يبعدهم عن المصادر الإسلامية الأصلية، وحين نرى هذا كله لا نستبعد وقوع مثل هذا الكلام وصدور هذا الكلام من الناس المنسوبين، فالجواب عن هذا ليس صعباً فإن تأخر الإجابة يحمل في طياته حِكماً باهرة وأسراراً عظيمة جداً فالله -سبحانه وتعالى- هو مالك الملك ولا راد لفضله ولا مُعقب لحكمه سبحانه وتعالى ولا يمكن أن يُعترض لا على عطائه ولا على منعه، فإن أعطى سبحانه فبمحض فضله وإن منع سبحانه فبعدله، والله عز وجل يقول: "وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة" فنحن علينا الدعاء ومن الله سبحانه وتعالى الاستجابة.

​​​​​​

في بعض الأحيان قد يكون تحقق المطلوب مطلقاً أو تحققه بسرعة، وقد يكون في ذلك نوع من البلاء على من يدعو، وقد رُوي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله سبحانه وتعالى أن ييسر له الغزوة -وهذا ذكره ابن الجوزي وغيره- فهتف به هاتف: "إنك إن غزوت أُسرت وإن أُسرت تنصرت"، فانظر إلى هذا المعنى وهو أن الشخص يدعو بالغزو ويقول يا رب يسر لي الغزو لكنه لا يعلم أن الله سبحانه وتعالى إن يسر له ذلك فقد يكون فيه الهلاك له، وبالمقابل إن منعه منه فقد يكون ذلك أفضل له، فالإنسان لا يعلم عواقب الأمور ولا يستطيع أن يدرك ما تؤول إليه الأحداث، ولذلك قد يكون في هذا التأخر الذي يقع في تحرير المسجد الأقصى خير عميم على الأمة الإسلامية، وربما لو أن الاستجابة حصلت بسرعة ربما كان ذلك يُطغي المسلمين وربما كان يُبعدهم عن الشرع وربما كانوا يظنون أن تحرير المسجد الأقصى إنما هو بجهدهم وبقتالهم ببعض المناهج الفكرية التي كانوا عليها كالقومية ونحو ذلك.

هناك أشياء كثيرة يُمكن أن نفهم بها سبب تأخر الإجابة، ثم إن تأخر الإجابة أيضا كما لا يخفى قد يكون من أعظم أسباب تفقد العبد لنفسه، فأنت حين تدعو بشيء ثم لا يُستجاب لك ترجع على نفسك بالبحث والتمحيص والتنقيب وتقول أين الإشكال في؟ هل مشكلتي في أن مطعمي حرام أو أنني حين أدعو أكون غافلا؟ أو لِأنني مُتلبس بمجموعة من المعاصي والذنوب التي من العقوبة عليها عدم إجابة الدعاء؟ أو إلى غير ذلك من الأسباب التي يُحيي البحث فيها في نفوسنا تأخر الإجابة فيكون تأخر الإجابة مفيداً جداً وليس مُضراً كما يظنه بعض الناس.

وفي الحديث: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله سبحانه وتعالى بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجل له دعوته أي تُستجاب له، وإما أن تُدخر له في الآخرة، وإما أن يُصرف عنه من السوء مثلها" فهذه كلها بعض المعاني وأعتذر إن أطلت في هذا ولكنه مهم جداً خاصة بالنسبة لِأمثالنا، فأهم شيء علينا أن نحرص عليه ونحن بعيدون عن ميدان المعركة ولا يعني أن هذا هو الوجه الوحيد للنُصرة ولكنه من أهمها ولا ينبغي التقصير فيه، فعندنا القِبلة وعندنا الماء للوضوء وعندنا الأماكن والأوقات الفاضلة فما علينا إلا أن نتوجه بالدعاء لربنا سبحانه وتعالى، وكثير الشر والبلاء قد يُصرف عن إخواننا بدعوة داعٍ من أهل الصلاح في مكان ما من أقطار الأمة الإسلامية كلها، وبطبيعة الحال هنالك وسائل أخرى وطُرق أخرى لنصرة القضية.

شمس الدين حميود: جُزيتم خيراً شيخنا الفاضل، نعرج الآن على بعض الأسئلة وتكون الإجابة عنها مُختصرة قدر الإمكان حتى نستطيع أن نطرح أكبر قدر من الأسئلة، في حديثك الآن عن الدعاء وأهميته ومحوريته ورداً على من يستهين به أو حتى يُشكك في أثره أقول إن التتبع سمة المشاهدة تحتاج إلى الزمن وبعض الأحداث، وأحداث السنوات الأخيرة ما فتئت تُذكرنا أن الاعتماد على مفهوم "للبيت رب يحميه" لا يستقيم فهو إرهاص لا يتكرر مرتين كما قال الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله، دكتورنا الحبيب أردت سؤالك هل يُغلف الكثيرون عجزهم وتخاذلهم بستار القدر الإلهي؟

البشير عصام المراكشي: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، لا شك أن القضية تدخل فيها اعتبارات كثيرة ولب الإشكال عند الكثيرين هو في الجُبن والخور والعجز وحُب الدنيا، هذه هي التي تجتمع على الإنسان فتصرفه عن نصرة القضايا الكُبرى فلا شك أن القضايا الكُبرى تحتاج إلى تضحيات والتضحيات تُقدر بقدرها بحسب أحوال الناس في كل مكان وزمان، لكن بعض الناس عندنا وفي كل مكان ليست لها القدرة على التضحية بأدنى شيء في سبيل هذه القضايا والمفاهيم الكبرى وهمها في الأمور المادية التي تراها يومياً، إذاً هذا هو لُب الإشكال وبعد ذلك هو لا يستطيع أن يخرج على الناس ويقول أنا همي في الدنيا فهذا لا يُمكن وبالتالي يحتاج إلى تسويغات وهذه التسويغات قد تكون شرعية وقد تكون واقعية وقد تكون من هذا الذي ذكرته فيقول البعض منهم وليس الكثير لأن تهافته واضح للعيان فبعضهم قد يقول فعلاً نحن قدّر الله علينا هذا ولا نملك أن ننافس قدر الله سبحانه وتعالى كما كان بعض الناس يفعلون أيام الاستعمار الفرنسي، بعض المنسوبين إلى العلم كانوا يقولون كيف نُنازع هؤلاء الفرنسيين والله -عز وجل- هو الذي قدر علينا أن يحتلوا بلادنا فهذا الاحتجاج بالقدر وارد وإن كان ليس كثيراً، ولكن هنالك احتجاجات كثيرة يُمكن أن نرجع إليها في فرصة أخرى.

لكن دائماً أقول علينا أن لا نقف عند السطح بل علينا أن نرجع إلى الأصل، هذه الأمور السطحية هي في نظري تسويغات وشبهات واحتجاجات، تطفو على السطح ويُغلف الناس بها الحقائق، فإن كثير الناس لم تعد لديهم القدرة على التضحية في سبيل القضايا الكبرى ولكن يُقبلون إلى ما يرونه أمامهم من القضايا المادية الخالصة.

الصهيونية وعلاقتها بالفلسفة والفكر الغربيين

شمس الدين حميود: صحيح دكتور من تصريحات التي سمعناها هذه المرة هو تصريح وزير الاحتلال حينما قال إن احتمال انهزام الكيان الصهيوني في هذه المعركة هو انهزام للغرب أجمع، فهل نعتبر أن ثُنائية الشرق والغرب مُرتكز أساسي في فهم طبيعة الصراع وأبعاده ومآلاته في الواقع المُعاصر؟ والمقصود من ثنائية الشرق والغرب العدو الصهيوني مرتكز على تراث غربي ودعم غربي للسردية الإسلامية العربية.

البشير عصام المراكشي: في الحقيقة هذا الموضوع كبير جداً فلا يُمكن الإجابة عنه حتى في محاضرة، ولكن عموماً تحليل الفكرة الصهيونية التي أقامت هذا الكيان تحتاج منا إلى مراجعة كثير من المسلمات، فالآن الكثيرون يُسلمون بأن هذه دولة يهودية وصحيح أنها دولة يتجمع فيها اليهود وصحيح أنها دولة تعتمد على فكرة إرجاع اليهود إلى البلد الذي هو بلدهم وما إلى ذلك، لكن في حقيقة الأمر الصهيونية لم تنشأ ولم تكتمل أركانها انطلاقاً من سردياتٍ دينية وإنما استلهمت هذه السرديات الدينية فيما بعد لأغراض معينة.

في أصلها الصهيونية هي حركة علمانية لا دينية تنتسب إلى التشكيل الفكري الغربي المبني على الداروينية في الصراع والمبني على النيتشوية في تعظيم القوة ومفهوم أن القوي يُسيطر على الضعيف وما إلى ذلك من الأفكار التي انتشرت في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين الميلادي.

الصهيونية نشأت من هذا كما نشأت النازية والفاشية وكما نشأت غيرها من الحركات، في حقيقة الأمر علينا أن لا ننسى هذا ولا نغفله، فمشكلتنا ليست مع يهود تجمعوا لِأجل إنشاء وطن قومي لهم فقط حمايةً لِأنفسهم من المحرقة النازية، لا فالقضية أكبر من ذلك فالصهيونية وليدة الفلسفة الغربية الحديثة والفكر الغربي الحداثي الذي ظهرت كثير من مظاهر عنصريته وتعصبه وعنفه في النازية والحروب العالمية وغيرها، ثم ظهرت في الصهيونية وهي الطريقة التي تتعامل بها الصهيونية مع هذا الشعب الفلسطيني فالفكرة الأساسية التي يُحاول الصهاينة نشرها هي أن اليهود هم شعب دون أرض يُريدون أن يسكنوا في أرض دون شعب ولذلك هم عملياً يمحون الوجود الفلسطيني وإن كان لا يُمكنهم فعل ذلك من الناحية النظرية ولكن عملياً وفي طريقة تعاملهم مع هذا الشعب فإنهم يمحون هذا الوجود.

الكلام عن الصهيونية وعن العلاقة الوطيدة بين الصهيونية والغرب كلام يطول جداً وأنتم تعرفون أن بريطانيا أوجدت بوعد بلفور وغيره الصهيونية في منطقة الانتداب على فلسطين وأن أمريكا بعد ذلك هي التي أخذت على عاتقها نصرة هذه القضية الصهيونية، فكثير من الناس الذين لا يعرفون هذه الأصول التاريخية لنشأة الصهيونية يتعجبون اليوم من هذا الارتباط الوثيق بين أمريكا وإسرائيل، فما الذي يجعل الراعي الأمريكي حريصا أشد الحرص على حماية هذه الدويلة وحفظ هذا الكيان مع أن هذا لا يصب بالضرورة في مصالحه المادية المباشرة؟ والعلاقة لها امتداد تاريخي وعلى الخصوص امتداد فكري وفلسفي يحتاج وقتا لكي يُبسط ولكن الكلام في هذا مُهم جداً وإن كان يطول.

شمس الدين حميود: صحيح دكتور، ففي سياق نفس الحديث ونحن نُقلب أحداث اليوم ونتفحص مآلاتها المُتعلقة باليهودي الوظيفي الذي يُصلي العشاء معنا كما ذكر عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- وحتى يُشاركنا بطاقة التعريف، نستحضر الاستشرافات العظيمة للدكتور المسيري وقناعته التي رافع لأجلها والتي تقول إن الإنسان الذي يؤمن بالنموذج الحضاري الغربي عادة ما ينتهي به الأمر ليتقبل الصهيونية، سؤالي هنا يتكون من شقين، ما أهمية النموذج التفسيري في دراسة الحالة واستشراف المستقبل؟ وإلى أي مدى يُمكن اعتبار هذه المقولة متحققة واقعياً؟

البشير عصام المراكشي: عبدالوهاب المسيري هو من المُفكرين الذين حين تقرأ لهم يؤثرون فيك، فهنالك مُفكرون يُعدون على رؤوس الأصابع يتركون بصمتهم على فكرك ووعيك دون تردد حين تقرأ لهم، فعبد الوهاب المسيري واحد منهم دون شك، في الحقيقة أهم ما ذكره المسيري في كتاباته هو هذه العلاقة الوطيدة بين الصهيونية وبين التشكيل الفكري الفلسفي للحضارة الغربية، بمعنى أن الصهيونية ليست شيئاً طارئاً ولا هي بشيء خرج من فكر مُخالف للفكر الغربي، وإنما هي ناشئة من الغرب والفكر الغربي هو الذي أنشأها بشكل أو بآخر، وكما ذكرت من قبل فإن الصهيونية كان بالإمكان أن لا تكون يهودية فالعلاقة بينها وبين اليهودية ليست محورية وإنما المحوري هو العلاقة بين الصهيونية وبين الحداثة الغربية فهذا قد يبدو غريبا مما لا شك فيه ولكنه أمر مهم جداً لفهم هذا الارتباط الذي ذكرت بين الصهيونية وبين القيادات السياسية والإعلامية والفكرية الغربية إلى حد الآن، هذا النموذج التفسيري الذي أورده المسيري هو قوي إلى حد بعيد وأورد عليه مجموعة كبيرة من الشواهد ونحن نرى هذا في حقيقة الأمر.

في واقعنا اليوم الذين يتشبعون بالفكر الحداثي الغربي وإن كانوا مُسلمين فإنهم يجدون أنفسهم بشكل أو بآخر مُتعاطفين أكثر مع الصهيونية ومع دولة إسرائيل أكثر مما يُمكنهم أن يتعاطفوا مع الفلسطينيين، يكفي في هذا أن الحضارة الغربية تُمجد المادة وتمجد التكنولوجيا وما إلى ذلك، ومن الشبهات المنتشرة اليوم عند عبيد الغرب عندنا تقليلهم من أسلحة المقاومة الفلسطينية وهذا شيء مُشاهد فيُشيرون لصواريخ المُقاومة بالألعاب النارية وبالمُقابل يُمجدون الصهيوني صاحب الطائرة المتطورة وصاحب التقنيات المتقدمة وما إلى ذلك.

فهذا كله لم ينشأ من فراغ فقد نشأ من تعظيم هؤلاء للحضارة الغربية ومن تعظيمهم للنظرة المادية للكون وللحياة، ونشأ أيضاً من استهانة هؤلاء بالأبعاد غير المادية فهذا الشيء لا يفهمونه وينسبونه للإسلام ويقول الفرد منهم أنا مسلم وكما ذكرت قد يُصلي معنا العشاء ولكن مع ذلك في حقيقة أمره وفي بواطنه إنه يُعظم المادة بالمُقارنة مع الأبعاد المعنوية ويُعظم الدنيا على الآخرة ولا يعترف في حساباته بالأمور المعنوية والروحية والأخروية إلى آخره من أشباه ذلك. 

نحن مثلاً نقول شهداؤنا وصحيح أنه يُقتل منا الكثير بالمقارنة، ولكن لا سواء فقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. فقضية أن أقول إن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار عند المُتشبع بالحضارة الغربية هو بعد غير موجود عنده، وإنما عنده حسابات مادية ويعد القتلى بالأرقام وهكذا، فلا شك أن هذا الشخص المُتشبع بالحضارة الغربية يجد نفسه أقرب إلى هؤلاء من الفلسطينيين ومن أصحاب الحق. 

أين تكمن أهمية المقاربة الائتمانية والمرابطة العلمية المعرفية في التدافع مع الكيان الصهيوني؟ 

شمس الدين حميود: بارك الله فيك دكتورنا الحبيب، والآن ننتقل من المغرب إلى الجزائر مع الدكتور الفاضل والمُرابط وصاحب السبق في نصرة القضية الفلسطينية مُراد قدير ليُحدثنا عن فلسفة واستراتيجية المُرابطة المعرفية، دكتور مراد قبل أن أسألك سؤالين في هذه المُداخلة المُميزة من قبلكم، هل لك أي تعقيب على كلام الأساتذة والدكاترة الأفاضل؟

مُراد قدير: بسم الله والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، تحرير الأفكار مما يعتقده عديد منا لِأن الأفكار مُهمة جداً وهي تصنع التوجهات الكُبرى وهي التي تدفع بالأمة نحو النصرة ونحو التفعيل، فدائماً التأصيل يسبق التنزيل ويسبق التفعيل، فتأصيل الأفكار وتحريرها مما شابها من الأفكار القاتلة كما يقول عنها مالك بن نبي الأفكار التي تقتل أمتنا وتقتل الواقع وأدوات نصرتها، وبعض الأفكار أيضاً تُرسخ تلك القابلية للاستعمار والقابلية للاستثمار والقابلية للذل والاستلاب الحضاري سواء من الحضارة الغربية المُتغلبة أو الكيان الصهيوني الذي يرى نفسه مُتغلباً ولكنه ضعيف جداً.

ما كنت أُضيفه في واجباتنا تجاه الأمة هو أن هذه الأرض مخصوصة ولها خصوصية على سائر الأراضي الأخرى، فهذه الأرض هي مُلتقى عالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة، فهي بوابة السماء منها انتقل سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعرج إلى السماء السابعة ومنها أيضاً رفع الله سبحانه وتعالى سيدنا عيسى ومنها سينزل أيضاً في آخر الزمان، فهي نقطة التقاء وهي أيضاً كما قالت ميمونة مولاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما استفتت سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المسجد الأقصى المُبارك فقال: "هي أرض المحشر والمعشر"، وحتى سورة الإسراء استخدمت فيها "من" الابتداء فهي من الابتداء من المسجد الأقصى إلى أول بيت وُضع للناس الذي ببكة مُباركاً، واستخدم الله سبحانه وتعالى "إلى" الغاية وإلى البوصلة والمُبتغى وهي أيضاً إلى النهاية ما يفصل عالم الغيب وعالم الشهادة هو أيضاً في بيت المقدس، فبالتأكيد المُقاربة للدفاع عن هذه الأرض المُباركة يجب أن تتسم وتختص بأنها مُقاربة تأخذ بهذين البُعدين وهذين العالمين، عالم الشهادة بما نأخذه من السنن ومجاراة السنن الثابتة والجارية التي خصها الله -سبحانه وتعالى- في عبارة واحدة كاملة وهي "أولي بأس شديد" ولكن تسبقها الواجبات التي يجب أن نُراكمها أيضا فيما يخص عالم الغيب وهي التي تفضل بها أستاذنا الفاضل الدكتور البشير وهي خصوصيات النصر والتمكين لهذه الفئة المؤمنة ولهذه الأمة المؤمنة وهي ما يختص به عالم الغيب، فالمقاربة مثلاً السياسية هي مقاربة تُلغي عالم الغيب ولا تؤمن بهذا العالم بل هي تؤمن بالبراغماتية والواقعية بل تنغرس في تلك الواقعية وتُصبح مُنسلبة لها ومُنقادة لها، وأيضاً المقاربة القانونية هي تأخذ فقط بالبعد الشهادي ولا تأخذ بالبعد الغيبي، ومن ينتظر أيضاً البعد الغيبي ويؤمن فقط بالبعد الغيبي ولا يقوم بالسير على سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صاحب الفضل الذي كانت معه قوى الله -سبحانه وتعالى- ولكنه كان يسير على السنن

الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو من علمنا وضع خُطة لتحرير المسجد الأقصى المُبارك، عندما أقول واجباتنا تجاه المسجد الأقصى المُبارك يجب أن نحترم هذين البُعدين وهذين العالمين ولعل الدكتور طه عبدالرحمن في كتابه "ثغور المُرابطة" قد فصل تفصيلاً كاملاً في هذه المُقاربة التي سماها المُقاربة الائتمانية التي يرى فيها المُسلم أنه مُستأمن على أرض مقدسة وهو لا يملك هذه الأرض المُقدسة وهو أينما كان ومهما كان موقعه الجُغرافي فهو معني بالدرجة الأولى بهذه الأرض المُباركة.

وحقيقة نحن دائماً نقول أن لنا في الأقصى المُبارك إرثٌ وأثر وثأرٌ وهذا الإرث والثأر خالد ولا يرتبط فقط بعالم الشهادة ببعده الزمني وإنما هو أيضاً يرتبط أيضاً بعالم الغيب ببعده الأزلي وبعده السرمدي.

شمس الدين حميود: بارك الله فيك دكتور مراد، دكتور أسألك عن واقع الحال مع هذا البغي والإفساد الصهيوني فما دور أدوات المواجهة الثقافية والمعرفية في صد هذا البغي وتحقيق النصر؟ وأيضا ما أثر إعداد الإنسان في مشروع التحرير على كافة المستويات التي كنا نتحدث عنها مستويات لا تلغي طرفا عن طرف وإنما تجمع العموم على الشهادة وعالم الغيب من أجل تحصيل نتيجة ترضينا إن شاء الله؟

مُراد قدير: في البداية يجب أن نؤكد على أن الكل الصهيوني لا يصده إلا الكل المسلم وهذا الكيان الذي يعتمد كل الأدوات غير المشروعة لضرب الأمة وجب علينا أن نصده بهذا الكل المسلم، والكلية هنا تستدعي استخدام كل الأدوات المتاحة للتدافع مع الكيان الصهيوني من بينها الثقافة والعلم والمعرفة والوعي والفهم، وسَأستدل بنماذج تحرير المسجد الأقصى المبارك وننطلق من النموذج الأول وهو سيدنا داوود -عليه السلام- وهو نموذج الجيش الذي سار مع طالوت وقد خص الله هذا النموذج بخصوصية وهي خصوصية العلم، وسنؤصّل لأهمية المرابطة المعرفية الثقافية العلمية برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومشروع التحرير الثاني الذي تحقق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضا على مشروع التحرير الثالث وهو المدارس النظامية ودور روادها أبي حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني وسيدي بومدين الغوثي، ونحن الجيل الرابع فالله سبحانه وتعالى منح هذه الفرصة لاسترجاع المسجد الأقصى لأربعة أجيال.

جيل سيدنا موسى الذي به انطلق مشروع التحرير والذي كانت مهمته وغايته ليست فقط (اذهب إلى فرعون إنه طغى) وإنما كانت أيضا (أخرج معي بني إسرائيل) إلى أين تذهب بنو إسرائيل؟ تعود إلى الأرض المقدسة (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم).

فالله سبحانه وتعالى لم يقل يا بني إسرائيل هذا الواجب وهذا المطلوب باق للأمة، الله تعالى يخبرنا عن أهمية العلم والمعرفة في الصراع مع من يريد أن يتمكن من الأرض من منطلق قومي عقدي، من منطلق قومي فجالوت الذي كان كنعانيا يسيطر على الأرض والله سبحانه وتعالى أقر أن معيار ولاية الأرض ليس معيار القوم والجنس وإنما هو معيار الارتباط بالله سبحانه وتعالى وهو معيار السير على سنن الله تعالى ومعيار حماية السكن على هذه الأرض والحفاظ على عبودية الله -عز وجل- واستخلاف الله فيها، الله سبحانه لما أرسل لبني إسرائيل طالوت ملكا لم يخصه الله بما لم تؤمن به بنو إسرائيل المادية التي قالت ليس هو أكثر منا مالا، ولا تؤمن أيضا بالمكانة الاجتماعية التي هي الملك والسيطرة وأدوات السلطة، فطالوت لم يكن من عائلة السلطة والجاه ولكن الله -عز وجل- خصه وقال في هذا الموضع (وزاده بسطة في العلم والجسم) من الانبساط والتوسع في العلم والجسم، وبالتالي سبّق الله تعالى العلم والجسم. وأيضا سيدنا داود -عليه السلام- خصه الله سبحانه وتعالى بالعلم والحكمة، وخص سيدنا سليمان بالفهم فقال (ففهمناها سليمان). وبالتالي كان للوعي والعلم والمعرفة وتلك البَسطة دور كبير وهذا يحتاج منا إلى معرفة بطبيعة الصراع والتدافع مع الكيان الصهيوني.

كيف مكّنت الرسالة المحمدية من تغيير الخريطة المفاهيمية لدى الصحابة وصنع جيل التحرير؟

المشروع الثاني هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان مرتبطا بمهمة كبرى غير مرتبطة بجغرافيا المدينة المقدسة "مكة" والتي انطلق منها أيضا سيدنا إبراهيم وسيدنا آدم في حمل رسالة عالمية، فكانت بوصلته صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله ليُظرها على الأديان كلها وعلى الأقوام البعيدة وهي مذكورة في سورة الإسراء في جغرافيا التدافع الحضاري.

حملة الفساد في الأرض مذكورة أيضا في القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى والرسول صنع جيل التحرير عبر تغيير الخريطة المفاهيمية، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- نزل في واقع كان شديد التغيير حيث كان الروم والفرس يتدافعون على الأرض المقدسة، وكان من صميم رسالته -صلى الله عليه وسلم- استرجاع هذه الأرض المقدسة لكي يكون شاهدا على البشرية جمعاء ويحقق الاستخلاف في الأرض والعبودية لله -سبحانه وتعالى- في هذه الأرض لأنها مخصوصة بعاصمة القيادة والريادة، فمنها أصبح سيدنا إبراهيم وسيدنا سليمان.

استراتيجية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتحرير القدس هي تراثه المعرفي، فالصحابة كانوا يعيشون في البداوة وكانوا بعيدين كل البعد عن جغرافية المسجد الأقصى المبارك فأدخل الله سبحانه وتعالى هذه الجغرافيا في وعي وإدراك وخريطة مفاهيم الأمة، وكان ذلك عبر الإسراء والصلاة والقرآن والقصص القرآني.

أيضا هناك الوعي السياسي الكبير وهو أن الله سبحانه وتعالى ذكر معركة كبيرة بين الروم والفرس لم تكن تهدد كيان الروم مثلما أثبتتها معركة الرها التي كانت قبلها، وبالتالي فالرسول -صلى الله عليه وسلم- تشرّب الوعي وشربه للصحابة أيضا وبالتالي تفاعل الصحابة مع هذه الأرض لأنها خصت (ألم، غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون)، وخصوصية هذه الغلبة أنها كانت في أدنى الأرض وأنها لا يمكن لها أن تستمر، وسيتم استرجاع الأرض المقدسة، وكما يقول ابن برجان في تفسيره ويقول الإمام ابن عاشور في التحرير والتنوير إن هذه كانت أول بشارة لتحرير المسجد الأقصى المبارك، ودور العلم والمعرفة هو في مستوى الفرد والمجتمع فالرسول -صلى الله عليه وسلم- ركز على العقيدة، ونظرية المعرفة بالنسبة لأمتنا صنعت عقيدة الوعي والمعرفة اللذين جعلا الصحابة يتناقشون على أهمية ومكانة الأقصى المبارك في حضور الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يسمع.

في مرحلة التحرير الثانية تخيلوا معي أن المسجد الأقصى المبارك الذي استطاع المسلمون استرجاعه في أواخر العصر العباسي الذي هو عصر انحطاط على كافة المستويات، ضاع المسجد الأقصى بسبب فساد الملوك وانتشار الباطنية والفلسفة، ففسدت رسالة العلماء والسلاطين وانتشرت الأفكار المنحرفة التي كان لها دور كبير في كبح وعي نهضة الأمة، وفي أكبر استراتيجية "استراتيجية الاستعداد" وهي تحول الإنسان من إنسان أبتر إلى إنسان الكوثر، وسنسقط ذلك على أرض الواقع من أهمية العلم والمعرفة فالإمام الغزالي -رحمه الله- شخّص تشخيصا كاملا ذلك الواقع فوجد أن سبب فساد الرسالة العلماء، والعلماء في الحقيقة هم بمثابة الأطباء، فإذا كانت الأمة مريضة والطبيب مريضا فلا يرجى للأمة برءها وطبيبها مريض معلول، لذلك عمل الإمام الغزالي من زاوية أنه المفكر للدولة السلجوقية التي كانت سيدة في ذلك الوقت وكانت هي من يحمي الخلافة العباسية من كافة النواحي، فالدارس للنظامية التي أسستها الدولة السلجوقية والتي وضع الإمام الغزالي منهاجا تربويا كاملا يعمل فيه على صناعة علماء بفكر جديد والعمل على إحياء الفكر السني وإحياء رسالة الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل على صناعة التدافع مع الأفكار المنحرفة والعمل على تحديد جيل كامل، فصلاح الدين الأيوبي لم ينزل من السماء وإنما كان رقيبا على جيل كامل تم تربيته في المدارس النظامية.

 

إذا أردنا أن نسقط هذا الأمر على الواقع، الكيان الصهيوني اليوم هو محتل للأرض الفلسطينية وجغرافيتها، وكل المقدسات التي تقع في هذه الجغرافيا التي هي الجغرافيا الفلسطينية جغرافيا الأرض المقدسة، وهو يؤذي الإنسان الفلسطيني إيذاءً جسديا ومعنويا ومعرفيا وثقافيا فهو يسلب وعيه وثقافته وكيانه، وهذا الأمر لا يتوقف في الأرض المقدسة وجغرافيتها بل يتعداها إلى الأمة الإسلامية كافة وإلى البشرية جمعاء، والله سبحانه وتعالى يذكر لنا فساد بني إسرائيل الذي هو ممتد في الأرض كافة (ولتفسدن في الأرض مرتين) ولذلك يعمل على السيطرة على الإنسان الفلسطيني وعلى فطرته وعلى ثوابته وعلى أرضه، وهذا بهدف إنتاج إنسان أبتر يقبل بكل ما يقوم به الصهاينة في أرضه، وبالتالي هذا الكيان يعمل على سلب الفطرة وقلب القيم، إن لم يحقق الأولى فإنه يعمل على الثانية وبالتالي تصبح المقاومة إرهابا، وأصحاب الأرض ليسوا أصحابها.

وبالتالي فهناك عديد منا من تمكنت منهم القابلية للاستعمار كما يقول مالك بن نبي، وهو أن الأمة تملك كافة الأدوات للنهضة والتخلص من الاستعمار ولكن لا تستخدم تلك الأدوات سواء كانت غير مقتنعة بتلك الأدوات أو أنها ليست لها الفاعلية لتحقيق ذلك، ولكن الكيان الصهيوني يريد سلب فطرة الأمة والإنسان. 

المقاومة تكون بصناعة الإنسان الكوثر المراكم لشروط التمكين

لذلك المعركة الكبرى هي العمل على استرجاع الأرض، والكيان الصهيوني يعمل على سلبها وتدنيسها، والمسلمون يحافظون على قداسة المسجد الأقصى المبارك لكن هناك معركة كبرى على الإنسان الفلسطيني الذي يحافظ على المسجد الأقصى المبارك والإنسان المسلم المعني بالصراع، حتى يجعله مبتورا عن هذا الصراع فيعمل على قلب القيم والفطرة بضرب الذاكرة التاريخية للإنسان المسلم.

وبالتالي فالمُرابطة المقدسية المتمثلة في حماية الإنسان وإعداده لمقاومة تلك الأفكار الهدامة (هو يريد إنتاج إنسان أبتر ونحن نريد إنتاج الإنسان الكوثر كما يقول طه عبد الرحمن)، وبالتالي فالإنسان الكوثر إنسان رباني يعمل على مراكمة شروط النصر والتمكين عن الغير ويعمل على تمكين شروط عالم الشهادة، الكيان الصهيوني يريد أن يضرب علاقة الإنسان بالماضي، ونحن نعمل على تمتين المناعة الفكرية والتاريخية وتقوية ذلك ولن يكون ذلك إلا عبر الوعي والمعرفة والفهم، أيضا يريد الكيان الصهيوني أن يقطع علاقة الإنسان بالحاضر.

ولعل الدكتور جاسم سلطان هو من كتب استراتيجية الحراك من السلطة إلى النهضة حيث يتحدث الدكتور في هذا الجانب المهم عن المرابطة المقدسية الاستراتيجية والإعداد للمعركة المعرفية الثقافية، والمعركة الآن هي التَدافعية مع الكيان الصهيوني، فهذا الكيان يعمل على قطع علاقة الإنسان بالحاضر فيضرب مكانته النفسية ويجعله يؤمن بأنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء ولا أن يتدافع مع هذا الكيان فيقطع علاقته بالواقع وبالتالي يعمل على قطع علاقته بالمستقبل أيضا بضرب خيار المقاومة وتمكين خيار المساومة وبالتالي فهو يريد أن ينتج أناسا لا يستطيعون صناعة مستقبلهم بتشكيكهم بالخيارات المستقبلية.

إذا أردنا أن نتكلم عن التدافع مع هذا الكيان الصهيوني فنحن نعلم أن الفهم والوعي والمعرفة ذات أهمية كبيرة، ونحن نعلم في تراثنا أن الفكر سابق للعلم حتى أن الله -سبحانه وتعالى- وعلماء العقيدة والأفكار الأساسية التي تمركز عليها فكرنا وحضارتنا هو سبقها على الأركان العملية التي في الشريعة فسميت العقيدة بالفقه، والفقه الأكبر في الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك هو العلم والمعرفة وهو سابق للفاعلية على هذه الأرض، وبالتالي فالتدافع مع الكيان الصهيوني بالحفاظ على الرواية الإسلامية الحقة ومدافعة الكيان الصهيوني بالوعي والثقافة هو أحد الأدوات التي عليها الآن، والمسجد الأقصى ضاع منا لأننا كنا أقل نفيرا وأقل استنفارا وتعبئة واستنهاضا، لذلك المعرفة والوعي التي نتكلم عليهما ليس التكديس المعرفي وإنما نقصد البناء المعرفي الذي يصنع تدافعا مع الكيان الصهيوني في عديد المجالات السياسية والقانون والرواية التاريخية والآثار والأنثروبولوجيا، وأيضا معرفتنا للكيان الصهيوني موجهة لنا ولأمتنا.

وختاما تحرير المسجد الأقصى يجب أن يتحقق في عالم التصور وإذا تحقق تحرير المسجد الأقصى في العقول والتصور كان اليقين في القلوب على تحرير الأقصى قضية وقت وقضية مجاراة.

سامر الباز: الحمد لله انتصرت غزة وللمرة الرابعة بفضل الله تعالى وهذا النصر أبشِّر به الأمة الإسلامية جمعاء والمشاهدين وأخبرهم بأنه في تمام الساعة الثانية المقاومة هي التي فرضت على المحتل هذه التهدئة وهي مؤقتة بإذن الله تعالى وتم التعميم على أن جميع المساجد في قطاع غزة على الساعة الثانية تماما ستصْدح بتكبيرات النصر وفي نفس الوقت تخرج مسيرات على مستوى قطاع غزة وفي كل المدن ابتهاجا بالنصر الذي أبشركم به وجزاكم الله خيرا، وكان على رأس شروط المقاومة القدس وهذا الذي كنا نتحدث عنه منذ قليل قالت المقاومة إذا تم المساس بالقدس لا توجد أية تهدئة.

شمس الدين حميود: مع ما يحدث الآن ومع ما نسمعه من انتصار والذي كنا نستقي منه على المستوى الإعلامي الرباني والميداني والمادي في كل المعايير والمستويات انتصرت المقاومة وانتصر عزمها، لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار تذبذب المواقف من قضية القدس لا يسرب الشك في عدالة القضية بقدر ما يرسخ اليقين بصدق الوحي؟ يعني الناظر في السنة يلحظ تقريرات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول "لا يضرهم من خذلهم" هل استحضار هذا الأمر يعتبر سلوى للمجاهدين والمرابطين في بيت المقدس؟

الدكتور عصام البشير المراكشي: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ونحن في هذا البث كانت تأتينا الأخبار الطيبة من أرض الجهاد والمرابطة من غزة ومن عموم فلسطين، فلا شك أننا فرحنا بذلك فرحا شديدا ونسأل الله -عز وجل- المزيد ونسأله أن يبارك في هذه الجهود ويحيي قلوبنا لتحرير بيت المقدس والمسجد الأقصى وأن نصلي فيه أجمعين منتصرين ظافرين وأن لا يبقى للمُدنسين والغاصبين فيه موقع قدم.

في الحقيقة هذه الأيام القليلة من أواخر شهر رمضان إلى هذا اليوم الذي نتحدث فيه هي أيام قليلة كانت كافية لإعادة كثير الحسابات وإعادة النظر في كثير من الأفكار التي كانت تنتشر في الأمة انتشار النار في الهشيم وأنا قبل مدة يسيرة وبضعة أشهر كنت في حديث مع بعض الإخوة الأفاضل من أهل فلسطين ومن غيرها وكان هناك شيء من الشك واليأس يكاد يتسرب إلى قلوب الكثيرين بسبب المناخ العام الذي فرض على الأمة، مناخ التطبيع مع العدو وفرض الأمر الواقع ووجوب اعتناء كل بلد بقضاياه بعيدا عن القضية الفلسطينية وما أشبه ذلك، لكن هذه الأيام القليلة مع ما كان فيها من أحداث وما سقيت به هذه الأحداث من دماء طاهرة كانت كافية في تغيير أمور كثيرة في وعي الناس على الخصوص فصار هذا الذي ذكرتموه الخذلان والذي له اسم في أدبيات السياسية الحديثة وهو التطبيع.

وبالتالي صارت هذه السياسات المتخاذلة التي طبعت مع العدو تحتاج إلى جهد أكبر لكي تحرف وعي الناس فصار عند الناس وعي أكبر بالقضية وارتباط أكبر بالقدس وبعموم فلسطين وفهم أكبر لما وقع هناك وما يقع وما سيقع بإذن الله.

 فما لا شك فيه كما تقول العرب رب ضارة نافعة وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، صحيح أن الضريبة كانت ثقيلة ولكن مع ذلك ليست القضية قضية انتصار مادي فقط لأنه انتصار فعلا وبالمقاييس العسكرية هو انتصار لأن المجاهدين فرضوا على العدو متى تبدأ المعركة ومتى تنهي وبالتالي فرضوا شروطهم وهذا انتصار بالمعنى المادي، لكن هنالك بعد آخر للانتصار وهو الانتصار المعرفي والفكري والعقدي وانتصار في تجديد وعي المسلمين بالقضية الأولى قضية القدس وفلسطين وهذا يفتح لنا أبوابا عظيمة جدا في الأمل في تحرير الأقصى المبارك والقدس وفلسطين بإذن الله عز وجل.