حتى نتمكن من النفاذ إلى جذور الأزمة التي ترزح تحتها أمتنا، فإنه لابد لنا من تخطي حالة الجهل أو التجاهل لشروط الانتقال من نظام الفردانية والتسلط الذي جعلنا نتنكب معارج صعودنا طوال قرون من تاريخنا، وذلك بالبحث عن الطريق السالكة في اتجاه النظام الجماعي الذي يعطي الأولوية للمجتمع المدني، ويصل السلطة بالشعب، ولن" تكون هناك إمكانية لإعادة تأسيس السلطة الفاعلة إلا بقدر ما سوف ننجح في خلق هذه المجتمعات المحلية الفاعلة والمستقلة ذاتيا، أي المتمتعة بالحد الأدنى من الرشاد والعقلنة الذاتية" [1]، وهي الخصائص التي تسمح بالانتقال إلى مرافئ الحكم الراشد على هدي فقه التحرر والانتقال..

ويقع فقه الانتقال نحو الحكم الراشد في اعتقادنا ضمن دائرة "التفكير العقلاني"، أو استئناف مشروع العقلنة الإسلامية الذي تعرض للتغييب والتوقيف في شتى المناحي، نقصد التفكير العقلاني في التغيير والإصلاح والذي لا ينفصل في جذوره النظرية عن فكرة "اكتشاف المنهاج"، أو "إعادة اكتشاف المنهاج"A rediscovery of the « open road » of islam بعبارة المفكر محمد أسد [2].وذلك بسبب أن هذا الاكتشاف وما يتعلق به من دور حيوي للمجتمع الرسالي وعودته للمشاركة والفاعلية؛ هو الجواب التاريخي عن الصعود الثاني للحضارة الإسلامية الراشدة إلى منصة الحياة بعد حصول التحرر وتخلص الأمة من سياسة "العض" و"الجبر" بلغة الحديث الشريف [3] أو سياسة الخسة بتعبير ابن رشد في كتابه الضروري في السياسة.

إن الرشد هنا يصبح ذا معنى ومغزى، وليس مجرد دال بلا مدلول كما حصل في التاريخ، لأن مضمونه محدد ومتفق عليه تحت راية الشورى التي تعكس مركزية الجماعة، وله أيضا ما يبرره في الواقع العملي من توفر قيم الحرية والعدالة وسيادة المسؤولية والمساواة أمام القانون بالإضافة إلى حق المشاركة في صناعة القرار كما يشرح فيليب كوك حين يتعلق الأمر بنظرة السلطة للمواطنين على أنهم راشدون ويستحقون أن ينصت لهم وليسوا مجرد "رعايا" أو "قاصرين" ينوب الحاكم الفرد عنهم في كل شيء [4].

قيم الرشد هذه جعلت العديد من المتتبعين والمهتمين بالأطر السياسية يراهن اليوم على أن أرقى النظم السياسية والتنظيمية التي تحقق التحرر الإنساني هي تلك التي تنتمي للحكم الراشد، بما هو حكم يشارك فيه المجتمع ويضع ملامح هندسته بإرادته في كافة القطاعات وعبر مراحل تطوره.

إننا نعتقد أن المجتمع المدني يمكنه أن يلعب أدوارا حيوية ومتطورة خلال مرحلتين مفصليتين تحديدا:

 أ) أدوار خلال المرحلة الانتقالية للحكم الراشد وعلى رأسها مساهمته في إعداد الدستور الجديد وتمتين النسيج المجتمعي.

ب) أدوار خلال الحكم الراشد، وهي في تقديرنا تتراوح بين دور تربوي أخلاقي يتجسد في تنمية البر الشامل بمعناه القرآني، ودور سياسي يتجسد في ممارسة حق الرقابة والاقتراح والمشاركة في بناء القرار السياسي الراشد.

مع هذه الأدوار تحولت مؤسسات المجتمع المدني في الفكر السياسي المعاصر إلى أحد أدوات وقنوات المشاركة في إدارة الشأن العام من خلال ما أمست تقدمه من إمكانيات المساءلة والنقد والاقتراح والرقابة على العمل الحكومي الرسمي مما يستدعي فتح باب المطالبات بما سمته أستاذة علم الاجتماع جيني بيرس باستراتيجية تقوية دور المجتمع المدني Strengthening Civil Society [5] لما يتوسم فيه من لعب أدوار طلائعية سياسيا واقتصاديا وعلى كافة الصعد في الحاضر والمستقبل.

تدلنا الخبرة الحضارية للمجتمعات التي تحمل رسالة (ومنها مجتمعاتنا المسلمة) على أن القيم الحية التي يؤمن بها المجتمع تظل مهمشة وجانبية التأثير ما لم تترجم إلى سلوك حركي "يشارك" في صياغة كل مرحلة من مراحل حياته وسعيه نحو الانعتاق والتحرر. 

إشكالية البحث

يدخل بحث دور المجتمع المدني في التحول إلى الحكم الراشد ضمن الحديث عن فاعلية القوة الجماعية للأمة على مساحة إقامة المعروف والنهي عن المنكر، وهكذا تمارس الأمة السياسة بمفهومها الحيوي المتفاعل مع ما يجري في الواقع، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل تغيير المنكر ومقاومته جزءا من الإيمان، وليس مجرد مقتضى من مقتضياته، فـقوة الإيمان، كما يقول الأستاذ الريسوني، "وضعفه وكماله ونقصه، ليس مما يختص به الأمراء والعلماء، بل هو مما يهم كل مؤمن، ولهذا نجد الحديثين في صحيح مسلم ضمن أبواب الإيمان، وتحت هذا العنوان المعبر(باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان)"().

لقد أردنا لموضوعنا أن يبحث في الأدوار والقيم التي توصل إلى الحكم الراشد، وقد ارتأينا أن ننظر في موقع المجتمع المدني وأدواره قبل قيام الحكم الراشد وأثناءه، على اعتبار أن المجتمع المسلم هو الذي عليه أن يحمل هذه القيم ويُفَعِّلها عَمَلِيا.

وتدلنا الخبرة الحضارية للمجتمعات التي تحمل رسالة (ومنها مجتمعاتنا المسلمة) على أن القيم الحية التي يؤمن بها المجتمع تظل مهمشة وجانبية التأثير ما لم تترجم إلى سلوك حركي "يشارك" في صياغة كل مرحلة من مراحل حياته وسعيه نحو الانعتاق والتحرر. 

ونحن إن تأملنا وجدنا أن نشاط "المجتمع المدني" يمكن تكييفه على أنه لا يخرج عن "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي يعكس هذه الحيوية المجتمعية من حيث هو أحد هذه الوسائل التي تعمق فاعلية القيم وتقوي حضورها الحي.

فكيف يمكن أن يكون لدينا أولا مجتمع مدني في ظل استحكام الاستبداد اليوم؟ ثم ما الدور المنوط به في الوضع الحاضر وفي المراحل الانتقالية؟ وأية علاقة يمكن أن تنتج بينه وبين الدولة؟ وما حاجتنا لفقه الانتقال نحو الحكم الراشد؟ وكيف نطور هذا الفقه الجماعي الغائب وننهض به؟