الزواجُ قرارٌ إلهي (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم الآية 21]، وفعلٌ نبوي لقوله صلى الله عليه وسلم: (ومنْ رَغَبَ عنْ سُنّتِيْ فَليْسَ مِنّي)، كما أنه فعل مجتمعي تقام به أواصر، وتربط أنسال وتستمر، والأهم تُصانُ الأعراض وتجري العلاقات في لُج الحلال والسلام والأمان.

لكن الزواج خصوصا في زماننا هذا أصبح مكلفا عسير الحدوث، إلى درجة أن الطبقة الوسطى أصبح من العُسْر عليها زف الأشبال، وعقد القران؛ لارتفاع تكاليفه ومصاريفه، أما الطّبقةُ الدنيا فحرمت منه بشكل غريب مؤسف، اللهم إلا إذا كان عقد القران فيما بينها أي أنها وافقت بتفاهم وتسهيلات، أما غير ذلك فالزواج نادرا ما يحدث.

يقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم القدرة الباءة فليتزوج)، تلقفت الأفهام المتباينة الحديث من زوايا عدة إلا أننا في هذا المقال سنقدم له قراءة ثانية على ضوء سيرة حياة نبينا -عليه الصلاة والسلام-، الحديث يشير إلى ضرورة توفر القدرة، ويعلق أمر الزواج بالقدرة "من استطاع منكم الباءة فليتزوج" لكن ما هي القدرة التي تُعنى من خلال هذا الحديث؟ أو ما هي القدرة المقصودة من وراء الحديث؟

بادئ ذي بدء، القدرة: هي ما يملك الشخص من إمكانات وقوة وخصائص ومؤهلات تمكنه من تدبير شؤون أمره على نحوٍ مقبول سليمٍ يعود عليه بالمنفعة، والقدرة أيضا أنواع؛ منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي، فالقدرة المادية: "هي ما يملكه الشخص من إمكانات ملموسة كالمال أو القوة البدنية"، أما القدرة المعنوية فهي: "ما يملكه الشخص من إمكانات معنوية غير ملموسة كعلمٍ أو خُلقٍ أو دينٍ".

القدرة المعنوية لها الحيز الأكبر من القدرة المطلوبة، وقد أثبتت عبر التاريخ كفاءتها وجرها للمادي، والمقدرة المادية وحدها ليست هي الشرط الأساسي بل إن قليلها كافٍ مع ضرورة امتزاجها بالمعنوي "الروحي" لكي تكون القدرة المحثوث عليها والمطلوبة من الرسول صلى الله عليه وسلم. 

المعروفُ أنّ حياةَ النّبي هي التفسير والترجمة الناصعة والحقيقية الوضَّاحة للوحي أو لأحاديثه؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان قرآنا يمشي، ومنه فإن القدرة المقصودة هُنا في الحديث هي القدرة المعنوية لا القدرة المادية التي دائما ما يقدم الحديث على أنها هي القصد، وما يدلل على ذلك ويثبت هذه القراءة وهذه الرؤية أن صحابيا أتى للرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد الزواج وليس معه أيُّ مالٍ فزوجه بما يحفظ من آيات؛ لأنه كان يقيسُ مستوى الأشخاص بميزان المعنى. 

وما حياة الصحابة إلا كمال للمعنى، كما أنه -عليه الصلاة والسلام- زوّج أصحابه -رضي الله عنهم- جميعًا بأقل الماديات كخاتم أو درهمين، وعلى نفس المنوال زوجّ ابنته فاطمة لعلي -كرم الله وجهه- بدرعٍ حطمية ليس لها قيمة تذكر، فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للصحابي الذي لم يكن لديه شيءٌ، ولا خاتما من حديد: (ماذا معك من القرآن؟)، فقال: معي سورة كذا وسورة كذا -يعددها- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَمْلَكْنَاكَهَا بما معك من القرآن).

 وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل من أصحابه: ((يا فلان، هل تزوجتَ؟))، قال: لا، وليس عندي ما أتزوج، قال: (أليس معك: ﴿قُلْ هوَ اللهُ أَحَد﴾، قال: بلى، قال: ربع القرآن، أليس معك: (قُلْ يَا أَيُّها الْكافرونَ)، قال: بلى، قال: ربع القرآن، قال: أليس معك (إذا زُلْزِلَتِ الأرضُ)، قال: بلى، قال: ربع القرآن، تزوَّجْ تزوَّج تزوج)).

عَقْدُ قِرانٍ بسور وآيات قرآنية ما ذلك إلا توكيد للقراءة المعنوية؛ أي أن القدرة المنادى بها للزواج هي القدرة المعنوية، وهي ما يملك الشخص من أخلاق سامية وعلم نافع وصلاح نافذ، وورعُ إيمانٍ والمعنى هو الأصل؛ لأن قوة المعنى أكثر أثرا وأبقى، فحامل بذور القيمة لا خوف عليه لا من فقرٍ ولا عوز، فالمعنى سينتشله لا محالة من حالة الفقر والعوز إلى حالة الغنى.

القدرة المعنوية لها الحيز الأكبر من القدرة المطلوبة، وقد أثبتت عبر التاريخ كفاءتها، والمقدرة المادية وحدها ليست هي الشرط الأساسي بل إن قليلها كافٍ مع ضرورة امتزاجها بالمعنوي "الروحي" لكي تكون القدرة المحثوث عليها والمطلوبة من الرسول، أما أن تكون مادة صرفة فقط فهي ما أدت إلى ما نحن فيه من مشاكل وظواهر اجتماعية غير سوية، نحن بحاجة ماسة إلى من يعيد الشروط الاجتماعية الجامعة من جديد لكي يحدث التوازن المفقود لمجتمعاتنا الإسلامية لتنهض من كبوتها من جديد.

سلامة البدايات من سلامة النهايات، قيام عمودي الأسرة على أساس قويم هو الأصح والأصل وهو ما يجب أن يكون وستكون نهاياته على قدره من كل الاتجاهات. تغليب جانب المعاني والروح حتماً سيمكننا من معاينة أفراد أسوياء ذوي سلوكيات رفيعة. إلى متى وكفة المادة هي المسيطرة؟ مالمانع من تجريب كفة المعاني والقيم السامية؟ لِنُجَرِّبْ، سنخطو خطوة متقدمة في حلّ كثير من القضايا الاجتماعية المرضيّة.