تتفاقم الأزمة أكثر وتضيق الدنيا أكثر، ترتعد القلوب خوفًا وتخشع الأبصار ضعفًا؛ حتى ظن البشر أنهم في كابوس مزعج لا يستطيعون الاستيقاظ منه، أو بصدد وحش يستحيل الفرار من مخالبه، أو أن بابًا من أبواب الأساطير قد فـُتِـح عليهم، توقف العالم عن الحركة الدائبة والروتين اليومي، وحل الجمود أركان البلاد، ليدرك الإنسان أنه لم يكن المُسَـيّر والمُدبر لهذه الأرض، وأنه ادعى باطلًا عندما صدق أن قوته وذكائه قادرين على إنفاذ ما يريد، وظن أن الأمر كله راجع إليه، حتى جاء فيروس صغير لا تراه العين المجردة ليقلب وجه الأرض ويُبدل شكل الحياة، ويُفزِعُ الناس باحثين عن مفر..

أين المفر؟

هذا الوحش الضاري لم يترك إلا منفذًا واحدًا أمام الإنسان، ليفر إلى خالقه ومولاه رغمًا عنه ورغمًا عن الظروف ورغمًا عن المجتمع؛ الذي ما فَتِئ يؤصل لهجر الدين وإسكانه دور العبادة وعدم إقحامه في حياة الناس، وترويج أن هذا الدين بعيد عن متطلبات العصر وتطور الأزمان، وأن إتباع تعاليمه هو تخلف ورجوع إلى الوراء، والعجيب أن الهرع إلى الله وإلى دينه لم يقتصر على المسلمين ولم يقتصر على الإسلاميين!!

عندما تفشت كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ نشر ترامب تغريدة على حسابه يعلن فيها يومًا وطنيًا للصلاة، ويؤكد أن الولايات المتحدة طوال تاريخها تذهب إلى الله من أجل الحماية والقوة في مثل هذه الأوقات، وفي تقرير لجريدة "نيوزويك" الأمريكية تستشهد فيها بأحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخص الحجر الصحي أثناء انتشار الأوبئة، والنظافة الشخصية التي حض عليها الإسلام منذ 1300 عام، وأن كل ما ينصحون به الناس قد ذكره الإسلام من زمن طويل.

وفي مقال بعنوان "كلا إن الإنسان ليطغى"، في جريدة الوطن، للإعلامي عماد الدين أديب -المعروف بعدم توجهه الإسلامي- يشرح به أن الإنسان مهما علا شأنه ومهما بلغ من علم؛ فهو لا شيء وإنما هو جناح بعوضة أمام قدرة الله الواحد الأحد، وابتعد الكاتب عن التفسيرات المادية ولجأ للقدرات الإلهية في قالب جديد غير مألوف.

وفي مشهد مهيب تصدح التكبيرات والدعوات الصادقة في دول عديدة؛ منها مصر والأردن والمغرب ولبنان والكويت، لمواطنين يقفون في شرفات المنازل يلجئون إلى الله لرفع البلاء، وغيرها مواقف كثيرة سواء لرؤساء دول أو شخصيات عامة أو مواطنين على هذا النحو الذي ذكرناه باختلاف المذاهب الفكرية والمعتقدات الدينية، كان آخرها ما قامت به ألمانيا بالسماح برفع الأذان في المساجد عبر مكبرات الصوت، لأول مرة منذ سنوات، بعد ما كان محظورًا لأحكام قضائية. 

يقول الله تعالى "قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين، َقُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ".

لا ملجأ من الله إلا إليه..

إن فطرة الإنسان وتكوينه هي ما تجعله يهرع إلى خالقه عندما تشتد الأزمة، فلا يرى منفذًا إلا ذاك، ولا يلتمس متنفسًا إلا عندما يدرك صغره أمام ربٍ كبير قادر على رفع ما أهمه وأصابه.

فالآن وبعد زمن طويل من تشويه الدين والزج به خارج الحياة العملية للناس، وخلخلة عادات المجتمع وقيمه ولصق كل ما هو سيء بما هو إسلامي، وانتشار الفسق والفجور والظلم العلني، وتقييد العلماء وربط ألسنتهم واعتقالهم لإخماد كل أصوات الحق، والتملص والتقزز من أي فعل له مرجعية دينية، الآن في ظل هذا الوباء تختفي كل هذه الأمور الشاذة التي زرعوها، ولا نجد إلا الهرع إلى الله، ونرى التكبيرات تصدح في الشوارع والدعوات تعمر البيوت، والصلاة لرفع البلاء أصبحت مطلبًا شعبيًا، بل ويشجع عليها هؤلاء الذين ما أحبوا الدين يومًا. 

وهذا ليس نوعًا من الشماتة أو سخرية القدر، بل هو وصف وتأمل في سنن الله الكونية، والفطرة البشرية التي لا تملك إلا أن تلجأ لخالقها مهما تجبرت وتعالت واغترت بذاتها الضعيفة، قال تعالى "فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا".

سيستجيب الله لعباده الضعفاء رغم كل شيء، وسينجيهم منها كما أنجاهم من سابقتها وكما سينجيهم مما بعدها، ولكن ما هو حالهم أثناء البلاء وما بعد البلاء، هل سيتغير العباد ويدركون حقيقة ضعفهم؟ وأن الله قادر على خسف الأرض وما عليها! هذا هو السؤال الأهم.. ليس مهمًا متى ينتهي البلاء ولكن المهم ماذا غيّر فينا البلاء؟

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، أن تاريخ الأولين في القرآن يحتل أكبر جزء منه، وذلك لتعرف الأمة الأخيرة لماذا هلكت أمم ونَجت أخرى؟ و لكن يبدو أن المسلمين يقرءون قصص القرآن للتسلية ويسمعون أنباء الحضارات المدبرة والأمم الهالكة وكأن الكلام لغيرهم!

فالعبرة هنا؛ أين كنا وأين نحن الآن، وأن حاجتنا إلى الله قائمة في جميع الأحوال، في الرخاء قبل البلاء، فالإنسان ضعيف مهما اشتدت قوته واغترت نفسه، وتاريخ الأمم خير شاهد على ذلك، قال تعالى "إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا".