يوم 7 يناير 2021 استضاف عمران الحضارة في صفحة مدونات عمران على الفايسبوك في برنامج ساعة فكر الدكتور حذيفة عكاش للحديث عن كيفية تحرير العقل من جمود التقليد وقد أدار حوار اللقاء الأستاذ شمس الدين حيمود وهذا نص الحوار كاملا.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أحييكم وأرحب بكم في حلقة جديدة من حلقات ساعة فكر، ساعة كما درجت العادة نسلط الضوء فيها على قضايا ومواضيع تهم العقل العربي والإسلامي، مفككين تراكيبها ومحللين أبعادها بما يوافق صحيح النقل وصريح العقل، اليوم نحن مع حلقة جديدة وضيف عزيز تكرم علينا بقبول الدعوة والسماح لنا بمجالسته وطرح الأسئلة عليه وهو الدكتور السوري حذيفة عكاش مدير مؤسسة رؤية للثقافة والإعلام.
أهلا وسهلا ومرحبا بكم دكتور معنا.

حياكم الله سعيد بالاستضافة معكم ومع مؤتمر كوالالمبور ومع مجتمع عمران.

موضوع اليوم موضوع مهم وشائك: كيف نحرر العقل من جمود التقليد؟ وكما تعلمون ويعلم الجميع تجتاز الأمة الاسلامية الآن مرحلة من العجز وفقدان التوازن إزاء مواجهة عدة تراكمات عبر الأجيال، تخلف حضاري.. فقدان للهوية وأيضا أزمات اقتصادية واجتماعية كل هذا يندرج تحت الأزمة الكبرى وهي أزمة الفكر؟
الله عز وجل استخلف الإنسان وكرمه على سائر المخلوقات بالعقل الذي يمكنه من أداء رسالته، ولكن العقل المسلم قد فُرِضَ عليه الانغلاق داخل طروحات تبلورت في أوضاع وأزمنة وأمكنة مختلفة والآن أصبحت تتحكم في رؤيته للواقع، وأورَثته عجزا في تجديد وتحديد أدواته من خلال هذا الواقع.
إن ديناً يضع العقل في قمة ضروريات الحياة حري بأن يسود وأن يقود، لهذا نرى ضرورة الحديث عن العقل وأثره في البنية الإسلامية بين التجديد والجمود.
بداية أسئلتنا عن مؤسسة رؤية والدكتور حذيفة هو أدرى الناس بالمؤسسة وبما قدمت وجديدها وهو من يحدثنا عن مسارها المبارك.
ما هي محاور عمل مؤسسة رؤية واهتماماتها ومشاريعها؟

مؤسسة رؤية كنا نسميها رؤية للثقافة والإعلام، لكن بعد مشاورات ومراجعات غيرنا الاسم إلى رؤية للفكر، لأننا متخصصون بالشأن الفكري، وما الإعلام إلا وسيلة لنشر هذا الفكر، وحددنا ثلاثة محاور رئيسية للعمل بالمؤسسة:

  • صراع الفكر الحداثي الغربي مع الفكر التراثي الإسلامي: نحن نرى أن الحل ليس في الأفكار الحداثية الغربية كما هي، لأنه حتى الحداثة الغربية لو أردنا أن نشرحها هي حداثات وليست حداثة واحدة، بل لكل دولة في أوروبا لها حداثَاتها ولها خصوصيتها. بالنسبة للتراث الإسلامي أيضا فيه الشيئ الكثير، فَعبر أربعة عشر قرنا فيه ما هب ودب، وفيه الغث والسمين، وحتى الأفكار المتعلقة بواقعنا تحتاج إلى مراجعة وتجديد، بعضها صالح وأحيانا يتعلق بالثوابت لكن الآليات تطورت لتفعيل هذه الثوابت، والحل فيها بالتجديد والاجتهاد المعاصر.
  • المحور الثاني هو محور التخلف الحضاري: ونُحلل أسباب التخلف، ونرى أن الحل لهذا المشكل يكون بأفكار النهضة، ما هي عوامل النهوض بالمجتمعات؟ قد تكون كثيرة، منها ما هو مشتركات إنسانية.
  • المحور الثالث هو محور السياسة الشرعية: لماذا السياسة الشرعية؟ لأن مؤسسة رؤية ولدت في خضم الربيع العربي منذ ست سنوات، والحديث السياسي هو الحديث الشاغل، وهناك تقارب كبير مع السياسة الشرعية، نحن نستَجر أحكام لدولة سلطانية قديمة لها حاكم واحد يبسط رأيه على كل الخلافة، إلى دولة قطرية محلية، كالذي يريد أن يلبس ثوبا كبيرا لطفل صغير أو العكس، هناك تغيرات كثيرة نرى أنه من الضروري أن نهتم بها، موضوع الاستبداد السياسي، هناك خطاب إسلامي يشرعن الاستبداد السياسي، والحل يكون بالتحول الديمقراطي، مع الأسف كما أن هناك خطابا إسلاميا يشرعن الاستبداد هناك خطاب إسلامي يشيطن التحول الديمقراطي، لذا نحن نميط اللثام عن هذا الموضوع.

باختصار هذه هي المحاور الثلاثة الأساسية التي تعمل بها مؤسسة رؤية بلوَرناها بهذه الملفات الثلاثة الهامة.

والمشروع القادم إن شاء الله هو أكاديمية مفكر وهي أونلاين تعمل على الأنترنت نقدم فيها للمتابعين مادة مرئية مشروحة مع كتاب، مع امتحان أونلاين، مع شهادة إلكترونية، لأن الكثير من الإخوة الكرام ممن يثقون بأفكار رؤية وأعجبتهم هذه الأفكار قالوا كيف نستفيد منها ونرتبها، هل هناك منهج معين؟ وطلبات أخرى كثيرة في هذا المضمار فأردنا أن ننشئ نوعا من التعليم المنظم والسهل إن شاء الله وميسر للآخرين، حتى ننظم هذه المعرفة.

بقية التفاصيل لن أفصح عنها الآن، في الانطلاق بإذن الله نخبركم عن التفاصيل في أكاديمية مفكر.

فيما يتعلق بالبرامج التي دأبت رؤية على استجلاب أو اقتناص بعض المفكرين والأساتذة، والقيام معهم بِحوارات ولقاءات، ما هي المعايير التي تخْتارون بها ضيوفكم؟

أهم معيار هو التخصص الذي تخصصنا به وهو موضوع الفكر، الذي هو الآخر متخصص في الفكر الإسلامي ونجد في أطروحاته شيئا من الجدة والمعاصرة وما يناسب الواقع، لأن هناك بعض المفكرين أو الذين يتكلمون باسم الفكر الإسلامي يريدون أن يرجِعوننا إلى الوراء، وبالتالي هناك نوع من الانغلاق هؤلاء بالطبع نتجنبهم، أيضا هناك أناس مستلبون حضاريا ليس لهم انتماء لهذه الأمة ولمَرجعياتها أيضا نتجنبهم، المعيار باختصار جمع بين الأصالة والمعاصرة.

ننتقل من الحديث عن رؤية إلى كيفية إذابة الجمود، نستهل أول أسئلتنا حول الموضوع، والذي أقول فيه إن المنهج الإسلامي يضع الوحي في مقدمة مصادر المعرفة، كما يحدد للعقل مجال وآفاق تحركه، والجفاف الروحي الذي يشكو منه الغرب ناتج عن إهماله معطيات الوحي واستفراده بالعقل، وفي المقابل بعض المسلمين اعتراهم التخلف حينما أهملوا دور العقل في اكتشاف النواميس وتسخيرها لخدمة الإنسان.
دكتور حذيفة كيف يمكن تحديد دور العقل لكي نجعله كما يفترض أن يكون في تشكيل وعي المسلم ومنهاجه؟ وكيف نحدد دور العقل كي نجعله ركيزة في تشكيل وعي ومنهج المسلم المعاصر؟
علينا أن نتبع نهج الرعيل الأول عند تعاملنا مع الحضارة الغربية

بالنسبة للذين فقدوا البوصلة واتبعوا الحضارة الغربية، نحن نقول فعلا الحضارة الغربية عرجاء تمشي على رجل واحدة، وهذا أمر واضح وبَيّن للشباب المسلم بأن الحضارة الغربية حضارة جسد بلا قلب، لذلك تلجأ إلى الفلسفات الشرقية مثل اليُوغا والديانة الهندوسية وأحيانا إلى الإسلام، وأحيانا إلى الديانات الروحية تعويضا عن هذا الخواء الروحي الذي يعيشونه، هناك رأي لأحد الأعلام الذين سنُعرف بهم هو الدكتور الحسن بن حسن تونسي اعتكف سنوات وهو يدرس الفكر الغربي، هذا الرجل أنا تواصلت معه وطلبت منه خريطة للفكر الغربي، فقال دعني أفكر بالموضوع، بعد فترة تواصل معي وقال أريد أن أحدد لكم خريطة الفكر الغربي والأسئلة المحركة له، فخِلال المحاضرات ماذا قال؟ قال كلمة جميلة جدا، قال "نحن في كتاباتنا ركزنا كإسلاميين على نقد الحضارة الغربية، وأنا سأركز على ماذا سنستفيد من الفكر الغربي والفلسفة الغربية.

فحقيقة نحن أغلب الكتابات الإسلامية ركزت في بداية القرن العشرين على نقد الفكر الغربي والحضارة الغربية، لكن قليلون الذين ركزوا على ماذا نستفيد من الفكر والحضارة الغربية، الذين يقولون ماذا نستفيد من الحضارة الغربية يوصفون بأنهم مستلبون حضاريا أو عندهم عقدة النقص.

أنا أنظر للموضوع بشكل آخر أن الذين يركزون على نقد الحضارة والفكر الغربي هؤلاء أيضا ينطلقون من عقدة نقص، فأنا عندما أُهَاجَمْ أبدأ بالدفاع فأُهاجم الآخرين.

لماذا لا نكون مثل الرعيل الأول الذي رباه الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرف قيمة ما عنده من الوحي، ومن الرسالة السماوية وهدايتها، عرف ما عنده من قيم وانطلق يستفيد من كل الناس، الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها.

ما يروي الإمام الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)[سورة الزمر الآية: 18]، فهذا إشارة إلى الأفكار وننتقي أفضلها، هناك مشتركات إنسانية بالنسبة للحضارة الغربية يمكننا الاستفادة منها. الدكتور حسن بن حسن قال أريد أن أركز بهذه السلسلة عما نستفيد من هذه الحضارة، ثم ممكن فيما بعد نتكلم عن الجانب المظلم من هذه الحضارة، من الأشياء التي ينبغي أن نستفيد بها من الحضارة الغربية إطلاق العقل والتركيز عليه مرة أخرى. 

رعِيلنا الأول بعد أن انطلقوا استفادوا، سيدنا عمر أخذ الدواوين، حتى كلمة ديوان هي كلمة فارسية، فيما بعد عبد الملك بن مروان عربها فلم يكن عندهم عقدة الآخر، بالعكس وجدوا أن هذا الكون سخره الله لننتفع منه ضمن المسخرات والمنتجات البشرية، فهذه تجارب يستفيدون منها، وأعتقد أن هذا منطلق مهم جدا، وكما وصف أحد كبار فلاسفة التنوير عندما أراد أن يعرف التنوير قال هي العقلانية، النزعة العقلية، وعندنا الإسلام سبق هذا الكلام كله فعندنا مشروع التنوير الإسلامي انطلق مع إقرأ، انطلق لقوم يعقلون، انطلق لأولي الألباب، انطلقوا من القرآن الكريم، بعد أن كانوا يتبعون آباءهم ويتبعون الخرافات، فالقرآن الكريم هو مشروع تحضير وتنوير وهداية للبشرية، وتسخير أيضا.

دكتور حذيفة حديثك حول الحداثة أنها حداثات وليست حداثة واحدة، وهذا الحديث حول تجزئة النظر للفكرة الغربية وعدم أخذها بكلية، ذكرني بالُمفكر والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن وهو ممن جزأ فكرة الحداثة الغربية خاصة في كتابه روح الحداثة، وفصل بين مادية الحداثة وروحها، وجعل معيارا يقاس عليه الأمر، فلا يرفض الكل وإنما يجزئه وما وجده صالحا ويليق أخذ به والآخر يستغنى عنه.

هذا منطلق مهم جدا، فعَقلية الأبيض والأسود يجب أن نتخلص منها، يعني نأخذ كل ما في الحضارة الغربية بعجرها وبجرها كما ذكر بعض الذين تحدثوا بذلك، هؤلاء يمكن أن نقول عنهم انبهروا بالحضارة الغربية الذين يريدون التقليد الكلي، حتى لو سلكوا جحر ضب لسَلكناه، هل علاقتنا مع الحضارة الغربية هي علاقة الجحر أم علاقة البصيرة؟ هل نتبع هؤلاء بكل ما فيهم أم نأخذ ما صفى وندع ما كدر؟

ما الذي يميز التقليد المُبصر عن التقليد الأعمى؟

أكيد حضارتنا لها خصوصية، وهوية، وقيم، وهذه ثوابت لن نتخلى عنها، لكن السؤال الذي يطرح نفسه أليس هناك مشتركات إنسانية؟ لا أقصد الآليات فقط، البعض يقول خذوا عن الغرب التقنية والعلوم التطبيقية، يا أخي أنا أسأل ألا يوجد مشتركات في القيم؟ هل يوجد أمة تعادي الحرية والعدالة المنضبطة؟ هل يوجد أمة لا تريد مساواة وعدالة بين الناس؟ هل توجد أمة لا تنادي بقيمة الصبر والاتقان والحفاظ على الوقت والاستثمار والتنمية؟ هذه المشتركات مع الحضارات الأخرى نستطيع أن نستفيد منها بالتنظير لها وفلسفتها، ونستفيد منهم أيضا بالآليات، البعض يحشرنا فقط بالآليات، نقول حتى التنظير وفلسفة هذا الموضوع ومناقشة هذا الموضوع نستفيد منه، طبعا نريد أن نقتبس التقليد، البعض لا يستحضر كلمة التقليد إلا التقليد الديني الذي هو اتباع مذهب أو فقه معين، التقليد أيضا بموقفنا من الحضارة الغربية، كما أننا ننادي بالتعامل مع التراث الإسلامي ليس بالتقليد الأعمى وإنما بالاتباع على بصيرة وعن دليل، أيضا نطالب بالتعامل مع الحضارة الغربية بهذه البصيرة وهذا الاتباع، يعجبني كثيرا أحد الأباطرة من إمبراطورية الصين يقول: ثلاث مراحل للتقليد هناك التقليد الأعمى، وهناك التقليد المبصر، وهناك تقليد الإبداع.

لا نريد أن نبدأ بالتقليد الأعمى حاشا لله، لكن التقليد نأتي بالأشياء المفيدة، دعونا من التقليد الأعمى ولكن نأتي بالتقليد المبصر، بمعنى معرفة لماذا يفعلون هذا؟ عندما نعرف لماذا؟ نعرف هل هذا يوافقنا أم لا. أما التقليد الأعمى فهو منبوذ في القرآن الكريم وقد شن القرآن الكريم حملة ضخمة عليه.

من التقليد المبصر الذي نعرف، لماذا يمكن أن نقدم شيئا وهو ما يسمى بالابتِداع والابتكار، والتطوير ما يسمى الآن بعلم التسويق بالقيمة المضافة، أنت ما هي القيمة المضافة التي تقدمها على هذا المنتج، على هذه الفكرة، وهكذا من خلال هذه الآلية نستطيع أن نستفيد على بصيرة.

دكتور حذيفة ونحن نتحدث عن تحرير العقل لا تفوتنا الإشارة إلى المفكر الإسلامي محمد عمارة رحمه الله، الذي أشار بأن تحرير العقل يجب أن يفهم بأنه تحرير له من الجمود والتقليد الأعمى، وتحريره من الغرور والهوى، ثم ذكر آفة الجمود للنصوص، ويقصد بها النصوص الموروثة من أسلافنا أو تلك المستوردة من الآخر الحضاري، برأيكم ما هي الآفات المعاصرة في المنهجيات والوسائل التي تظهر بشكل جلي بأن العقول مكبلة بقيد التقليد؟ 

غير المتخصص لا بد أن يقلد المتخصص الذي يثق بأمانته، دعونا نبدأ من هذه المقدمة المهمة، لا نستطيع أن نقول لكل المسلمين تعالوا اجتهدوا، لكن التقليد المبصر وليس التقليد الأعمى، والفرق بينهما أن المبصر يعرف من أين أتى هذا، أريد أن أقلد أبحث عن المتخصص والأمين، ومن أثق بدينه.

بالنسبة لموضوع النصوصية وعدم الجمود، الدعوة السلفية دعوة تجديدية، قامت بالرجوع إلى الكتاب والسنة وهذا يشكر لها، وهناك نهضة بالحديث والبحث عن هل هذا الحديث صحيح أم ضعيف؟ هذه الصخرة التي ألقاها السلفية في البركة المتجمدة أثرت على الجميع، وأصبحت كل المذاهب يبحثون عن أدلتهم وعن نصوصهم، فالدعوة السلفية لها فائدة بالعودة إلى النصوص والأدلة، وتحرير الأحاديث، ولها فائدة بكسر الجمود المذهبي والتعصب.

الثقافة التقليدية أنا أشبهها بالقيد المحكم بالسلاسل، يروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله هذه العبارة جاء ابنه وحَدثه عن الإصلاحات وغيرها من الأمور، فقال له يا ولدي إن قومك قد أحكموا هذا الأمر حلقة حلقة، فالثَقافة التقليدية فعلا محكمة حلقة حلقة، تريد أن تدخل باليمين باب الاجتهاد مغلق، تريد أن تدخل باليسار التلفيق ممنوع، تدخل من الوسط يجب اتباع مذهب من المذاهب، يعني أحكموه من جميع الجوانب.

الجمود آفة من الآفات الخطيرة التي تحتاج تفكيكا

يحتاج الجمود إلى تفكيك لكن تفكيك مدروس، ومتوازن، لا نريد أن نلقي الناس هكذا إلى الضياع، والتشتت إنما نفك هذه القيود بهدوء ونُرشد الناس للصواب، فمَوضوع الجمود فعلا آفة من الآفات، ما مشكلة الجمود؟ الأقوال القديمة قيلت لواقع، لكن هذا الواقع تغير، المفروض الاجتهادات المعاصرة تراعي هذه التغيرات، البشرية تطورت، الحياة والآليات تطورت، والعقليات أيضا، أصبح الناس ينادون بالتسامح بكل الكرة الأرضية، فعلينا أن ننتقي.

في تراثنا الكثير من الآراء الرائعة، لذلك نحن نقول ليست مشكلتنا التراث، مشكلتنا مع من يتعامل مع هذا التراث، وإلا في تراثنا أقوال فيها التسامح، فيها حقوق إنسان، يوجد عندنا ثروة فقهية وشرعية ضخمة ورائعة، لكن تحتاج إلى عقول متنورة حتى تستخرج من هذا التراث أجمل ما فيه، يحتاج إلى اجتهاد معاصر نعم، هل كل شيء موجود في التراث؟ لا ليس كل شيء موجود في التراث، ولو كان كذلك لأغْلقنا باب الاجتهاد، لكن الحياة متغيرة، حتى الإمام مالك كان يسأل في بعض المسائل كان يقول دعوها يسأل عنها فقهاء زمانها، فهذا الموضوع مهم جدا أن الباب مفتوح الحياة متغيرة، الأقوال ممكن أن تتغير وفقا لتغير الواقع لأن الحكم بناءً على الواقع، فإذا تغير الواقع يتغير الحكم بالضرورة؟

دكتور حذيفة يستوقفنا ملمح مهم هنا تحدث عنه أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه المنقذ من الضلال لما قال أن التعطش إلى درك حلق الأمور دأبه من ريعان عمره غريزة وفطرة من الله، ويستمر قائلا أبو حامد: (حتى انحلت عني رابطة التقليد وانحسرت عني العقائد الموروثة)، بغض النظر عن صوابية القول بفطرية أو كسبية هذا التعطش الذي كان لدى أبو حامد الغزالي، كيف نجعل لجدية البحث عن حقائق الأمور دورا مركزيا في تفكيك رابطة التقليد مهما كان تأثيرها في البيئة والموروث عنه؟

الكلام الذي سأقوله الآن موجه للنخب الشابة، المثقفة، المتعلمة، لمن هو مؤهل للدخول في هذه الموضوعات، السؤال الآن حتى كمناهج تعليم مدارسنا التي تعلم هل تعليمنا مبني على التلقين والحفظ أم مبني على حل الإشكالات والإبداع وتنمية التفكير؟ مناهج تعليمنا أدعي دعوة أنها أغلب تعليمها تعليم تلقيني، وتعليم حفظ، وهذا عن تجربة باعتباري اشتغلت بالتعليم لعدة سنوات وفي كافة الأطوار، هل نفرح لو سألنا طالب أسئلة فيها شيء من الصعوبة والإشكالات؟ هل نربي الطالب على استعمال عقله أم نربيه على حفظ المعلومات؟

في هرم التعليم المعروف مهارات التفكير أسفل الهرم هو مهارة الحفظ، أي الاعتماد على الذاكرة والحفظ، أعلى الهرم هو حل الإشكالات والإبداع، فهل نحن نستهدف في تعليمنا أعلى الهرم أم أسفله؟ هل ننمي بأبنائنا مهارات التفكير البناء، ولنضرب مثلا أي مادة من المواد ولتكن التاريخ مثلا، هل نركز في هذه المادة على حفظ التواريخ، وما اسم القائد ومتى كانت الحملة؟ أم نركز على بناء حركة التاريخ، التفكير بالسنن والتربية، تحليل النص التاريخي؟

بالامتحان مثلا الكل درس، هل جاءهم بالامتحان مثلا مقطع هكذا لم يَدرسوه ولم يمر معهم؟ حادثة من أحد كتب التاريخ، أو مقطوعة يقول لهم ويبدأ يسألهم تحليل لهذا، وما رأيكم بهذا النص؟ هل هذه الأحداث حدثت فعلا؟ تحليل هذه المعلومات، أم غالب أسئلتنا من الذي قام بهذا؟ ما اسم القائد؟ في أي سنة حصل؟ كم عدد الجنود؟ ماذا فعلوا؟ وهذا كله حفظ، وبالتالي لا تنمي مهارة التفكير عند الطالب والمحاكمة العقلية، حتى بالمواد الشرعية، أنا درست شريعة من الصف العاشر إلى درجة الدكتوراه، في هذه الرحلة كلها أغلب موادنا كانت حفْظية حفظ حفظ حفظ، هل يوجد اسئلة تعلمنا كيف نجتهد؟ هل جاءوا لنا في الامتحان بسؤال وقالوا لنا ما الحكم برأيك حسب القواعد الشرعية التي حفظتها؟ كما أننا في مادة الرياضيات والفيزياء مثلا أو الكيمياء يوجد مسائل نعود الطالب طيلة السنة على هذه المسائل، ينبغي أن نعود الطالب بالعلوم الإنسانية والعلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية أن نعلم الطلبة هذه المهارة، مهارة التحليل والتركيب وحل الإشكالات، والامتحان يكون قياس لهذه المهارات، هل فعلا استوعبوها؟ نأتيهم بمسائل لم تمر عليهم خلال السنة، لكن مرت معهم القواعد، في السؤال هل نحن ننمي في طلابنا مهارة الحفظ؟ أم تنمية الملكة، ملكة هذا العلم، بحيث نستطيع أن نحاكم هذا النص التاريخي، هل يكون وقع؟ الامتحان الذي أشرت إليه لو وضعنا حادثة من التاريخ لن يدرسها الطالب خلال السنة، أؤكد على هذه الفكرة، ونقول له ما هي الأسباب التي دفعت لهذه الأحداث برأيك وتحليلك؟

المفروض يعتمد على الأحكام التي درسها خلال السنة لاستنباط الأسباب التي أدت لهذه الحادثة، هكذا نكون قد نهضنا بمؤسساتنا التعليمية، بحيث أن هذه المؤسسات تبني عقلية الطالب، يعني السؤال في الماجستير والدكتوراه والدراسات العليا، هل يشجع الطالب على أن يأتي بأشياء جديدة؟ أو يوبخ على هذا؟ اسأل طلاب الدراسات العليا يعطوك الجواب...

نحن أتانا من الغربيين جامعات دخلت على ديارنا في القرن العشرين، بينما في أوروبا من القرن الخامس عشر فما قبل، مارتن لوثر كينغ كان معه في القرن الخامس عشر دكتوراه باللاهوت، نحن جامعات دخلت إلى سوريا ودمشق في بداية القرن العشرين، هم كانوا يدرسون، وحتى عندما استوردنا هذه بآليات الدراسات العليا، هل وضعناها بمنظومة إبداعية فعلا وعملت معنا، الذي أزعمه أنها وضعت بمنظومة متخلفة وبالتالي قتلت أهم شيئ فيها.

الدراسات العليا المفروض أن تركز على إبداع الطالب والإشكالات التي يحلها، حتى المقدمات الإلزامية لكل دراسة، الدراسات السابقة لماذا ندرسها؟ لتقول ما هو المبرر أنك تعيد دراسة هذا الموضوع، يجب أن يوجد إشكال، لذلك يركزون على موضوع أسباب كتابة البحث، مشكلة البحث بالنتيجة، النتيجة يجب أن نلخصها، بعد رحلة هذا البحث ما هي النتائج التي توصلت إليها؟ هل نحن فعلا نطبق هذا في مؤسساتنا؟ الجواب على السؤال يحدد ذلك.

مؤسساتنا التعليمية تساهم في نهضة بلداننا أم لا تساهم؟ ربما عن ارتباط التعليم بالواقع هذا أمر آخر أن الإشكاليات ينبغي أن تكون بنت الواقع، كل بلد عندنا فيه إشكاليات، يعني بدل ما الطلاب يحتارون في المسائل التي يدرسونها، يجب على الدكاترة توجيههم للواقع، يا أخي نحن في الجزائر عندنا مشكلة اسمها التصحر، كيف نكافح هذه المشكلة؟ التصحر نفسه يمكن تجزئته إلى التشجير، إلى المياه، إلى الري، ويمكن أن يجزأ إلى عشرات الأجزاء وكل طالب يأخذ جزءا، مباشرة هذه الحلول لهذه الأطروحات تنزل لأرض الواقع وتطبق، بهذه الرؤية مُمكن أن تنهض مجتمعاتنا إن شاء الله.

دكتور لو استطَردنا في الحديث حول الأبحاث العلمية لأنه طال بنا الحديث ونحن في إشكالية كبيرة جدا، وهذا على مستويات عدة، لعل ممكن نقطة واحدة منها هي قضية عدم القصد في البحث، فتجد ممكن دراسة غربية في نفس الموضوع في أربعين صفحة وهذه كافية ووافية، أما عندنا فيكتب فيها المجلدات، هذا تقديم وتعريف بالشيوخ والأساتذة والمربين والسياقات التاريخية وغيرها من المحاور، ومشكلة البحث التي وجَب على الطالب الباحث أن يعالجها تركها في آخر فصل ربما عالجها بشكل سطحي، فالمشكلة كما ذكرت تحتاج تشخيصا أولا واعترافا بها ثانيا، ثم محاولة استدراك ما فات لعلنا نقدم شيئا جديدا يفيد وينفع.
هل يمكن للمعاصرين أن يفتح الله عليهم بمعاني وأقوال أنضج من أقوال بعض القدامى المعروفين؟

بهذه النقطة بفترة إغلاق باب الاجتهاد ما هي المؤلفات التي سادت بيننا؟ ساد بيننا موضوع المتون والشروح والحواشي والتقريرات، بعدها اختصارات، شروح وهكذا.

كنت أقرأ للشيخ الطنطاوي وغيره وهو نقد لهذا الموضوع، بصراحة عندما كنت صغيرا في السن كنت أقرأ نقد كتب الشروح والحواشي، لا أفهم ما هي المشكلة إذا كانت الحاشية مكتوبة بالوسط قوله كذا ويحل الإشكال، بينما بالكتب المعاصرة الحواشي مكتوبة في أسفل الصفحة ومرَقمة 1، 2، 3 على حسب ما اعتمد الطالب من مراجع، هكذا كان ذهني يفهم الموضوع، على قدر فهمي، عندما كبرت فهمت المشكلة بالشروح والحواشي.

المشكلة بالشُروح والمتون هي الدوران في فلك نفس المعلومة، يعني عندي معلومة، واحد شرحها، والآخر اختصرها، وغيره كتب عليها بعض الهوامش، نفس المعلومة يعاد تدويرها، بينما المفروض بدل أن أنشغل بهذا المتن أنا أنشغل بمعلومات المتن وأناقش فيها، وآتي ربما بمتن آخر، بأقوال جديدة غير الأقوال التي ذكرت سابقا، لكن ممكن أن نتفهم أن واقعهم كان غير متغير وبالتالي هم أجابوا على أسئلة واقعهم، الخط البياني الماشي بتطور الواقع كان شبه أفقي، مائل ميلان بسيط جدا، كل مائة سنة تأتيهم بعض النوازل الجديدة، ولكن في آخر مئتين سنة أو مئة وخمسين سنة بواقعنا، الواقع أصبحت حركته تصاعدية تماما، شبه عمودية، متغير كله كثرت المستجدات، فهذا فرض علينا أن نفكر ونأتي بأشياء جديدة، فهذه العقلية شرح ومتْن، شرح واختصار، شرح وإعادة التدوير لنفس المعلومات، أصحاب هذا العقل التقليدي الذي أغلق باب الاجتهاد أتى بهذه الآلية للدراسات العليا، فأنت كشاب آت إلى الماجستير متحمس تريد الكتابة، وظيفتك أن تشرح الأقوال الموجودة، أو تجْمعها وتصنفها، ليس بمخيلة الدكتور أو الذي يناقشك أو البروفسور ليس في مخيلته أن تأتي بشيء جديد.

نحن آتينا بآليات متطورة ووضعناها بمنظومة تقليدية فارغة، وبقينا نكرر نفس القصة وندورها، أصبحت مهمتك أن تؤلف كتابا جديدا، لكن لو رجحت شيئا جديدا وخالفت القدماء، يقفوا في وجهك ويصيحون: أنت تخالف فلان؟ شيخ الإسلام وغيرها من الألقاب التي ترعب الطالب، فلا يستطيع أن يناقشها فضلا عن أن يفكر بخطئها. 

أهم وظيفة للباحث أن يناقش القول ويمسح اسم القائل، لأنه لو بقي تحت هالة سم القائل لن يستطيع أن يناقش القول.

دكتور وأنت تتحدث حول الاجتهاد، الإسلام فتح أمام العقل المسلم آفاق الاجتهاد، كما هو معلوم في النصوص قطعية الدلالة والثبوت، هناك اجتهاد في فهمها وفي تقعيد وتقنين أحكامها وفي تنزيل الأحكام أيضا. في النصوص الضمنية الدلالة هناك اجتهاد في دلالاتها وفي النصوص أيضا ظنية الثبوت هناك اجتهاد لثبوتها وما لم نستطع هناك أيضا اجتهاد لقياس أحكامه على غيره كما هو معلوم.

في رأيكم دكتور حذيفة ما الذي يجعل البعض رغم كل هذا التأصيل وهذه القواعد المضبوطة لا يزال متوجسا من أي اجتهاد ولو كان وفق الشروط المتاحة للتعرف عليه؟

عندنا بالساحة تيارين: 

  • تيار اجتهاد بلا ضوابط أو تجديد بلا ضوابط
  • تيار ضوابط بلا تجديد أو بلا اجتهاد

التيار الذي يجتهد ويجدد من غير امتلاك آلة التجديد وعدم الانضباط والشطحات التي نسمعها بين الفينة والأخرى، هذه تعكر على التيار الذي يجتهد بضوابط، فيأتي المتَوجسون أصحاب الضوابط بلا تجديد، الذين يحفظون الضوابط وليس عندهم تجديد، يضربون أمثلة بهذه الشطحات وهذه الأخطاء، لمنع الاجتهاد أو التجديد المعاصر، البعض يخاف كلمة تجديد فأصبح لا يعزف عنها، واقتصرت على كلمة اجتهاد معاصر هي نفس الكلمة تجديد أو اجتهاد معاصر، لكن كلمة التجديد تحمل بعدا آخرا وهو إعادة النظر حتى بالأقوال القديمة، وهنا سؤال كبير جدا هل يمكن للمعاصرين أن يفتح الله عليهم بمعاني وأقوال أنضج من أقوال بعض القدامى المعروفين؟

البعض يرتعد من هذا الكلام، ويقولون أن هؤلاء يريدون أن يبدلوا الدين، وفي نظرهم هذا تسيب وتطاول، ليس المقصود الطعن في الأقوال لأن أغلب الأقوال تحمل فكرة جيدة ولا مشكل فيها، لكن عندنا كمية من الأقوال تحتاج إلى إعادة نظر.

نحن لا نريد اجتهادا إنشائيا، هناك اجتهاد ترْجيحي، لكن ننفتح على الأقوال القديمة ولا ننحَصر فيها، أنا مع الانفتاح على المذاهب الأربعة وحتى الثمانية، ونقصد بالمذاهب الأربعة هنا الحنبلي، الشافعي، المالكي، الحنفي وهذه مشهورة عندنا في العالم الإسلامي.

وهناك مذاهب أربعة أخرى وهي المذهب الجعفري، الإباضي، الظاهري، الزيدي، هذه المذاهب الأربعة الأخيرة كان هناك بوادر للاهتمام بها، في القرن العشرين مر انفتاح في كل الشريعة في دمشق والأزهر الشريف أيضا، حتى يوجد موسوعة المذاهب الثمانية، لكن مع انطلاق الفتنة الطائفية في المشرق العربي الذي قادته إيران مع الأسف الشديد، أصبح هناك جفول من أهل السنة والجماعة وانكفاء على الذات.

الآن لو قلت لأحدهم المذاهب الثمانية يرتجف من هذا الكلام، أي مذاهب ثمانية؟؟ تريد أن تأخذ فقه إيران، لا أريد أن تأخذ كل ما عندهم، لكن افتح الآفاق، نحن عندما قرأنا بعض المسائل المقارنة ببقية المذاهب وجدنا تطابق وتشابه كبير بينها وبين المذاهب الثمانية، يحتاج الأمر إلى انفتاح وانضباط.

لا نقلدهم في بدعتهم، فمثلا موضوع آل البيت نترك لهم اجتهاداتهم التي خالفوا فيها السواد الأعظم من الأمة، لكن بقية الأبواب يوجد عندهم أقوال جميلة، مثلا أخطر شيئ نخاف منه وهو موضوع التشيع والشيعة، أترك أبواب آل البيت كلها اتركها، بقية الأبواب لماذا؟ 

يحتاج الأمر إلى انفتاح لكن المشكلة أن واقعنا في المجال السياسي تأثر بالوضع في إيران، فلو تكلمت بهذا الكلام أمام الناس في ظل الانكفاء على الذات والهَجمة المعاكسة لهذا التيار، والخوف من التشيع والتشيع، لو ذكرت هذا الكلام يجفلون منك ولن يأخذوه على المحمل الذي نريده.

كيف يمكن للشاب المسلم الغير متخصص أن يفرق بين مصادر دعاوى إعمال العقل؟
دكتور أراني الآن أقتبس بعض ما قاله أبو حامد رحمه الله وهو يقول أن أهل السنة قد تحققوا من أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وعرفوا أن من ظن وجوب الجمود على التقليد واتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل في تصرف العقل حتى تصادم به مع قواطع الشرع ما أتوا به إلا من خبث الضمائر، فميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط.
لو رأينا موقف بعض دعاة العقل من الغزالي نفسه، لبان لنا أن ما يقصده البعض من إعمال العقل إنما هو تفريط في الوحي والمتجاوز لصالح الأهواء والقناعات.
في رأيكم كيف يمكن للشاب المسلم أن يفرق بين مصادر دعاوى إعمال العقل، وليس الجميع بالطبع قادر على التحقق من أصول الأفكار ومآلاتها، بدعوة واحدة أحدهما صادق فيها والآخر غير صادق.

حسب السؤال هذا صراع العقل مع النقل تقصد هذا الموضوع.

بالضبط أقصد حديث كمال العقل قد يأتي من مقاصدي، وقد يأتي من حداثي، فكيف للشاب المسلم الغير متخصص أن يفرق بين الدعوتين؟ قد تشتبِهان في المصطلحات والمفردات أحيانا؟

القرآن الكريم أشاد بالعقل والتعقل كما ذكرنا سابقا، والإسلام كرس موضوع العقل وإن كان مؤخرا نتيجة انتشار المدرسة السلفية.

المدرسة السلفية أشبهها بالدواء، لها إيجابيات كسر الجمود، توثيق الحديث، الرجوع للكتاب والسنة والمصادر، وفتح باب الاجتهاد المعاصر، هذه من إيجابياتها، لكن من سلبياتها والآثار الجانبية لها، وهو ما انتبه له بعض السلفيين فأصبح يسمي نفسه أنا أثري ولست سلفي عندما قيل له يا أخي السلف سلفنا الصالح، كان عندنا مدرسة أهل الرأي، مدرسة المقاصد، مدرسة الرجوع للعَقل وتحكيمه في النقل.

النقل نفسه يشيد بالعقل، والقرآن الكريم يحض على التعقل، وبالعقل عرفنا الله سبحانه وتعالى، وعرفنا صدق الرسالة، وفهمنا به الكتاب والسنة، واستطعنا تنزيل الأحكام للواقع من خلال العقل، فالعقل يحف الدين من قبل بدايته وأثناءه إلى تنزيل الواقع.

العقل دائما حاضر وموجود، هناك جفول من كلمة عقل وتعقل مع الأسف الشديد في ثقافتنا، مما ساعد على هذا الجفول هي المدرسة السلفية أو الأثرية إذا أردنا الدقة، وإلا السلف مرحلة زمنية مباركة، وكان منها أئمة العقل الذي هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى إمام أهل الرأي.

الإمام مالك كان شيخه اسمه ربيعة الرأي، من كثرة ما كان عقله رائعا، هكذا سمي بتاريخنا ربيعة الرأي، نفسه الإمام مالك روى أحاديث في موطئه ولم يعمل بها.

أنت سألت سؤالا خطيرا جدا ما الفرق بين العقل الذي ينادي به الإسلاميون والعقل الذي ينادي به غير الإسلاميين؟ 

الفرق بينهما أن العقل الإسلامي يسترشد بالقرآن الكريم الذي يحدد بوصلته الشرع، محكمات العقل، وهذا يريح العقل من أمور كثيرة، عندنا عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم العقل هو عالم الشهادة، من خلال عالم الشهادة يستدل على عالم الغيب، كل هذا الإتقان بهذا الوجود هل يمكن أن نسقط هكذا عشوائيا؟ فيَستدل على وجود الميتافيزيقا أو ما سماه القرآن الكريم الغيب.

العقل حدوده عند عالم الشهادة، يستدل من عالم الشهادة على عالم الغيب نعم، فالعقل الإسلامي هو الذي يسترشد بالكتاب والسنة، والكتاب والسنة يحددون له مؤشرات وبوصلة، حتى لا يتيه في هذا الموضوعات، فلو تركنا العقل من غير إرشاد الرسل والرسالات سيتيه في عالم الميتافيزيقا، وهذا رأيناه بالكتابات الحداثية وما بعد الحداثية، وجدنا هذا التخبط، ولذلك كثير من فلاسفة التنوير والحداثة وفلاسِفتنا وفلاسفة العالم من خلال العقل وصلوا إلى التسليم بالرسالات.

ما الفرق بين الحض على العقل عند المسلمين وعند غيرهم؟ الفرق أن المفكر المسلم له سقف هو النصوص والمسلمات، لم يُسلّم بها هكذا عبثا، وإنما أعمل عقله واجتهد وفكر، بالنهاية وصل للتسليم بالرسالات، وأخذ هذه الكليات وأصبحت هي المحددات له، هذا هو الفرق بين العقل المسلم أو المفكر المسلم أو الفيلسوف المسلم أو الحداثي المسلم، وبين غيره من الفلاسفة أو المفكرين أو العقلانيين من غير المسلمين، هؤلاء ينطلقون من غير وجود محددات لهم.

المسلم ربما ينطلق من عدم وجود محددات، لكن بالنهاية يهتدي أن هذه هي الضوابط ينبغي أن يسلم بها، أنا لا أقول أن كل مفكر مسلم انطلق من مسلمات، كثير منهم كما أشرت أنت للإمام الغزالي فقد الإيمان حتى بالبديهيات، وأصيب بمرض حينها فألزَمه الفراش، ليس أمرا سهلا أن تفقد الوثوق حتى بالبديهيات، من خلال التفكر والتأمل والإشراق الروحي وصل لوضع مبادئ منها انطلق، وهذا أيضا مع ديكارت الذي قال أنا أشك بكل شيء إذن أنا موجود، ومن هنا بدأ الرحلة.

الكتاب والسنة مصادر هدايات تدعو للسير والنظر والتفكر..
دكتور حذيفة حديثك حول المدرسة السلفية وبعض المآخذ حول جانب العقليات يقودني إلى حديث حول إمام عظيم ظلم من محبيه ومن مبغضيه والظلم الأكبر في رأيي هو من محبيه وهو الإمام ابن تيمية رحمه الله تقي الدين حيث أنه تقريبا بعض من اشتهر في هذه المدرسة يعلم ويعرف ابن تيمية فقيه فقط ولا يعرف ابن تيمية الفيلسوف العقلي، فالكثير منهم لا يستطيع أن يفهم أو يقرأ ابن تيمية كما يجب، ولو تحدثنا من الصفحات الأصل لقلنا هو الفيلسوف والناقد، هذا إلى جانب المجال الفقهي فكما ذكرت لنا في سلفنا السابق أسوة وعبرة بمن كان يعمل عقله ويتعامل مع الأمر بتجزئة لا بكلية يرد الأمر كله أو يقبله كله.
على الجانب الآخر دكتور وأنت تحدثت حول العقل وأهميته وضرورته، أيضا بين العقل الذي من خلفية إسلامية والعقل الذي لا ينطلق من هذه الخلفية. 
ألا ترى دكتور حذيفة أن عدم اعتراف العقل بقصوره هو قمة الجمود؟ إذ من واجب العقل أن يفكر ولا يتوقف عن طرح الأسئلة ويكون ذلك القلق المعرفي حتى يقوده إلى نتائج أفضل، إذا العقل اعتقد أنه بلغ مرتبة الكمال وأن حكمه هو القطعي تماما ألا ترى أنه هنا يبدأ الانحدار، فدائما يجب أن يبقى ذلك القلق المعرفي هو حب السؤال والتفكر في كل الأشياء؟

بالنسبة للعقل وحدوده، فعلا المفكرون القدماء عندما راجعوا مهمة العقل وأرادوا أن يعرفوا ما هي حدوده، كانت هذه المعرفة أداة فحص لهذه الآلة التي يستخدمونها، الآن عندما أعرف الحدود أفعل نفسي بالحدود التي أنا متخصص وبارع فيها، أيضا عندما درسوا العقل ومقدرته، وجدوا أن العقل في عالم الشهادة له باع طويل طبعا بالتفاعل مع الواقع، والتجريب، وليس العقل المحض والفلسفي التفكيري فقط، وإنما بالتفاعل مع الواقع بشقيه المحسوس والمعنوي، المحسوس أنتجته العلوم الطبيعية، الواقع المعنوي إنتاج العلوم الاجتماعية، فتَفاعل العقل مع الواقع يعطي هذه الأمور، أما العقل عندما عرف أنه بعالم الغيب لا يستطيع أن يدخل فيه كثيرا، هذا تحرير للعقل بمعنى أن هذا اختصاصك فاعمل به.

أنا كتبت مقالا منذ فترة بعنوان هل في القرآن كل العلوم؟ جواب على بعض الأطروحات الإسلامية أحيانا الخطأ، الأطروحات المخطئة وهي التي تريد العودة للكتاب والسنة واستخراج العلوم منهما.

يا أخي الكتاب والسنة مصادر هدايات وأحكام وقيم وضوابط لنمشي عليها وتحدد لنا الصحيح من الخطأ، ببعض سلوكنا، بأقوالنا، بأفعَالنا، القرأن الكريم نفسه يقول لنا انطلقوا امشوا سيروا أنظروا تفكروا، يعني القرآن الكريم يرشدنا إلى خارجه، ونحن نعود إلى داخله، واستشهدت بقول لا أدري مدى صحته (كم من تال للقرآن والقرآن يلعنه)، هناك أثر بهذا المعنى، بمعنى الذي يقرأ القرآن ولا يطبق تعاليمه، أيضا الذين يقرأون القرآن ويعودون للقرآن لاكتشاف السنن الكونية، واكتشاف المخترعات في الكون، هذا يخالف القرآن الكريم.

القرآن الكريم فيه لافتة كبيرة تقول انطلقوا، النبي عليه الصلاة والسلام عبّر عنها في الحديث المشهور (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، نحن نريد أن نكتشف في الأمور الدنيوية الحياتية من خلال القرآن الكريم، يا أخي القرآن الكريم يضبط لك التعامل مع الدنيا، أما علوم الدنيا موجودة في الدنيا، يعني هذا الكلام أحيانا يستشكل على بعض الاخوة، مثلا التجارة أو الصناعة أو أي علم من العلوم، هذه الأمور الإبداع فيها في الحياة، اعتمد على عقلك وتجربتك، اعتمد على اجتهادك، كيف تنضبط في التجارة؟ هذا موجود في القرآن الكريم، لا تغشوا، لا تسرقوا، لا يبيع بعضكم على بيع بعض، هذه المنهيات وهذه الضوابط، كيف نتعامل مع التجارة؟ أما كيف تنجح شركتك فهذه مشكلتك أنت ووظيفتك أنت، الصناعة كيف نتعامل معها؟ هذه وظيفتنا نحن، لكن للأسف لدينا هذه العقلية تريد أن تخرج العلوم من الكتاب والسنة، العلوم موجودة في الكون، الكتاب والسنة يرشدنا كيف نمشي بهذا الكون.

دكتور لدي سؤال قد يبدو خارج السياق، لكنه دائما ما يثار خاصة مع فطرة المتحدثين والمنظرين في الشأن الفكري والثقافي الإسلامي، ألا يرى الدكتور حذيفة أن الكلمة التي سوف تسهم في تشكيل العقل المسلم يجب أن تكون مدروسة ومسؤولة أيضا، وهذه المسؤولية تستلزم جهدا جماعيا لأبناء الأمة لا جهدا فرديا، أحيانا البعض يعتنق الأفكار فتراه مدافعا عنها دون أن يعفو، ثم منظرا لها دون أن يعطيها فرصة التمحيص والغربلة، وهذا يسبب هزات معرفية شديدة، إذ ما زلت أذكر حديث الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله وهو يتحدث عن كتاب أزمة العقل المسلم للدكتور عبد الحميد أبو سليمان، وكيف مكث هذا الكتاب خمس سنوات حتى سُمح بطباعته وراجعه مئات من المتخصصين، ورغم ذلك بقي بحالة التنقيح حتى بعد الطبعة الأولى.
في رأيكم ومع واقعنا الحالي المعاش ألا ترى أن الكلمة التي ننشد أنها ستشكل العقل المسلم المعاصر يجب أن تكون مدروسة بعناية وأن يشارك في بلورتها وصياغتها العديد من العقول حتى لا نتصارع في المصطلحات وأيضا الرؤى والغايات؟

لا أحد يختلف لو سألت مئة من الأشخاص الآن هل الفكرة التي نعرضها على عدد كبير من المتخصصين أفضل أم الفكرة التي يخرج بها شخص واحد لوحده أفضل.

لا شك أن المئة سيقولون الفكرة المعروضة على الكثيرين، لكن الذي أخشى منه بكل صراحة كثرة القيود، نحن نعاني وأمتنا مكبلة بالأصفاد والأغلال.

أحد مهمات الرسل كما سمعت من الدكتور جودت سعيد حفظه الله وشفاه، أن يضع عنهم إصرهم والأغلال، أعتقد أن العقل المسلم في أغلال وقيود، دائما يتحدثون عن حدود العقل وعن محدوديته وعن شيطنة العقل، وعن الانضباط والضوابط، والشروط، مثل أحد الكتب، الدكتور البوطي عنده كتاب الدكتوراه أعتقد ضوابط المصلحة، فالأصُولي المقاصدي الكبير مصطفى شلبي أستاذ محمد سليم العوا ينقل عنه محمد سليم العوا يقول هذا الكتاب هو تكبير للمصلحة وليس ضوابط مصْلحة، فأحيانا كثرة الكلام عن الضوابط والشروط والقيود، تجعل الإنسان يجلس مكبلا ويستسلم.

ماذا يخاف علماؤنا الكرام ونحن معهم؟ يخافون من الفوضى، لماذا تسمونها فوضى ولا تسمونها ازدهارا، يقولون هذه الفوضى العلمية، والله كتب التراث تنقل إلينا بعض الأقوال الشاذة أقل ضررا من بعض الأقوال الشاذة في عصرنا، دائما عندما تريد أن تسمح بالعمل هناك جانب للخطأ، لذلك نحن دائما في حاجة لموضوع الاجتهاد والتجديد والكتابة والتأليف، لأننا عندنا قيود كثيرة تكبلنا، طبقات فوق بعضها البعض، هناك ثقافة تكبيل موجودة، فنَحتاج إلى نشر ثقافة تقابل وتذيب هذه الأغلال وهذه القيود التي صفدنا بها، هذا هو السبب وإلا موضوع يعرض على اللجان والعلماء.

أقول لا تخافوا الأمة ليست كلها واقفة طابور خلف أحدهم، لو انحرف الأمة كلها تنحرف، ولو كتب مجلدات ودافعت عنها وبكل مكان تكلم بها، العقل المسلم الجمعي، المسلمون لن يقبلوا هذه الأقوال إلا بعد التمحيص، فلا تخافوا... عندنا فوبيا من الأقوال الجديدة.

هل نحن نحتفي ونفرح بالفكرة الجديدة المختلفة عنا ونرحب بها ونبحث عنها أم أننا نضيق ذرعا بها، ونشك بها وننْبذها احتِياطا؟ هل نتلقى الأقوال الجديدة بألسِتنا أم بأذاننا؟ القرآن الكريم ذَمَّ من يتلقى القول بلسانه، اللسان يحتمل شيئين:

القبول المباشر وهذا مذموم ويحتمل الرفض المباشر أيضا، فهل نحن نتلقى الأقوال بألسنتنا مباشرة قبولا أو نشرا، أم أننا نتلقاه بألسنتنا ويدخل إلى عقولنا ونفكر فيه ونمَحصه؟

أزعم أننا كثيرا ما نقبل الأقوال بألسنتنا مباشرة قبولا أو رفضا، وغالبا العقلية المحافظة هي الاحتياط والرفض.

تحدثنا عن المحددات التي يمكن أنها تسهم في التفريق بين من ينشد الصلاح والخير ومن ينشد غير ذلك، وعلى الأقل يخطئ في الأدوات والآليات بين المدرسة المقاصدية التي ننشدها، ومدرسة الحداثيين التي أرادت هنا وهناك فرق كبير في المنهج والأدوات والمآلات وإن اشتركا في بعض المنطلقات والمصطلحات، وكما تعلم دكتور لا بد في نقد كل علم من استيعاب أصوله ومنهجيته.
الملاحظ ونحن نتحدث عن العقل، ولأن هذا الموضوع قد تحدث فيه أقصى اليسار وأقصى اليمين، الملاحظ ولا أدري إن كنت توافقني في هذا الأمر أن نقد الحداثي للتراث وكأنه شحرور ينقل طه عبد الرحمن أو مثل هذا، لا أدري إذا المثال مقبول أولا، لكن وددت القول أن التفريق بينهما، أقصد هنا المدرسة المقاصدية وأنت ذكرت في البداية أن المدرسة الحداثية بعض المصطلحات التي تستعملها قد شوشت على المدرسة المقاصدية وجعلت طريقها أكثر صعوبة في بعض المواضيع والقضايا.
في رأيك كيف نسهم في دعم المدرسة المقاصدية دون الوقوع في تخبيصات بعض الحداثيين الذين يريدون إلغاء القطعيات والأصول؟
كيف يكون الاستيعاب شرطا للتجاوز؟

أشرت أستاذ شمس الدين إلى موضوع هام جدا وهو الاستيعاب، فعلا شرط التجاوز هو الاستيعاب، لكن هذا نحن عادة نطرحه من الوسط الإسلامي في سياق التراث، يقال إذا أردتم أن تتجاوزوا التراث وتجَددوا ينبغي أن تهْضموا التراث حتى تتجَاوزوه، وهذا كلام حق وصحيح، كثير من الأقوال التي تحلم بها تجدها في تراثنا، لكن أيضا بالمقابل هل نستعمل نفس الطلب الحق مع الآخر؟

كثير من الكتابات التي تنقد الحضارة الغربية بصراحة لم تقرأ الحضارة الغربية، أو قرأتها قراءة الناقد فقط، بمعنى البحث عن النقد وجمعه، هل نفسية الباحثين التي ننطلق بها هي نفسية الباحث عن الحق؟ طالب العلم الباحث عن الحق بنفسية القاضي الذي يجمع الأدلة، بنفسية المحامي الذي يتبنى مسبقا القضية ثم يبحث عن ما يؤيد هذه بل كثيرا ما نستخدم آليات المحامي، عندنا في السنن يقال المحامي كذاب وهذا من الثقافة الشعبية، أحيانا نحن نستخدم الكذب بذم الآخرين، بما أني أنقُد فرويد لا مشكلة لو قلت كذا وكذا، لا أتحرى الدقة بالنقل عنه، أو عن ماركس، أو لينين، أو أي واحد من الذين أريد نقدهم، على الأقل الاستيعاب لا أستَوعبهم بشكل جيد. 

لذلك بعض المتخصصين بالحضارة الغربية والفلسفة الغربية يقول أنا لا أقرأ مترجمات، لا ثقة لي بها، لأنها غير أمينة، تصور، حتى المترجمين هم ممن يصنفون بين قوسين بالمَبهورين، رغم هذا لا يثقون فكيف تنقد إذا كان المترجمون ليسوا دقيقين بالترجمة، يوجد عندنا جرائم بهذا الموضوع. 

كما نطالب بموضوع الاستيعاب للتراث نطالب بالاستيعاب للفكر الغربي من مصادره.

بالنسبة لموضوع الحداثيين والمقاصديِين، الآن عندنا جناية في المصطلحات وهي أن كلمة حداثة كل واحد له تصور عنها، الحداثة هي بمعنى المعاصرة أنا أفهمها.

مرة كنت أناقش أحد الإخوة الكرام فتكلم عن الحداثة بشكل سلبي جدا، فلاحظت أنه يحمل إرثا سلبيا كبيرا عنها، سألته ما تعريف الحداثة؟ فعرفها بتعريف فقلت له إن كانت الحداثة ما تقول فهي الكفر عينه. الحداثة ليست فقط الذي تقوله، الحداثة تحمل حداثات كما قلنا في البداية، الاختزال جريمة المصطلحات.

الدكتور حذيفة أحيانا لا مشكل في الاصطلاح لكن إذا تحدثنا عن الحداثيين، لا نقصد بالطبع الغربيين وإنما نتحدث من الداخل الإسلامي، وإذا تمثلنا بعض الرؤوس والأسماء قد يفهم الأمر، إذا تحدثنا عن حسن حنفي، عن نصر حامد ابن أبو زيد فهؤلاء الأسماء ممن انطلقوا حسب زعمهم من داخل الفضاء الإسلامي.

حتى هؤلاء هل قرأنا لهم؟ أزعم أن كثيرين يعادون فقط الاسم، على السمعة، ولا يقرأون لهم. سؤال بصيغة أخرى، هل أفكار كل هؤلاء ضالة مضلة؟ ألم يأتوا بشيء من الحق أبدا؟ بصراحة عندنا اختزال وعندنا إسقاط وتسقيط وشخصنة، واحد أبيض أبيض نأخذ منه كل شيئ، أسود أسود لا نقبل منه شيئ، المفروض أن نقرأ لهم، أنا أتمنى من الإسلاميين وطلبة العلم الشرعي والملتزمين أن يقرأوا لمثل هؤلاء لنأخذ الإشراقات الفكرية التي عندهم، ثم نستفيد منها ونترك الأفكار الخاطئة، لكن قبل أن نقرأ لهم ويكون عندنا هذا الحوار والجدل الداخلي لا نستطيع أن نستفيد منهم.

لا أقول هذا الكلام للمُبتدأ، أنا أتكلم عن النخب الفكرية، بدل أن نقرأ لمدرسة واحدة سواء كانت فكرية أو حركية أو فقهية أو عقدية ومذهب واحد، يصبح عندنا عقلية البعد الواحد وتتصلب هذه الأفكار لدرجة لا نستطيع الفكاك عنها، لدرجة نشعر أنها هي الثوابت، وأي فكرة أخرى عقلنا يجفل منها وينبذها، فنحتاج أن نقرأ لهؤلاء ولا نكلف شخصا بعينه للقراءة لأحدكم بحكم التخصص كأن نطلب منه قراءة مشروع فلان الفلاني ونقول له أعطينا الخلاصة، وتُعتمد في النهاية هذه الخلاصة بالإجماع وانتهى الأمر.

ينبغي أن تبقى هذه الأفكار في مصاف الجدل والحوار، وعلينا أن نأخذ ما صفى منها ونترك ما لا يوافقنا ويفيدنا.

كتب تسلط الضوء على أزمة العقل وإشكالية التجديد
دكتور حذيفة ربما موطن الاعتراض على بعض هؤلاء الأسماء محدد، وأنا أتحدث عن تجربة عندنا هنا في المغرب العربي، هذا التجاوز والاستيعاب الذي تحدثت عنه هو بالفعل حدث عند الكثير من أساتذتنا في الجامعات وغيرهم من المفكرين والنقاد، وهم قرؤوا وفهموا هؤلاء جيدا ونقَدوا مواطن الخلل في فكرهم، وكما ذكرت ليس من المعقول أن ترفض الشخص كله وتَنبذه، لكن مواطن الخلل في فكرِه خاصة إذا كانت في أصل فكْره ومنبعه ربما يبين أن الخلل يضطرد فينتج مخرجات تكون عرجاء نوعا ما، لكن كما ذكرت التجاوز والقراءة حتى لمن هو خارج ليس السياق الفكري فقط وإنما خارج الدين هو مطلوب وإلا لن تستطيع أن تفهم الآخر لتتَجاوزه.
في الختام ما هي العناوين أو الكتب التي ينصح بها الدكتور حذيفة خاصة التي تسلط الضوء على أزمة العقل وإشكالية التجديد، كتاب لؤي صافي أمان العقل، وكتاب الدكتور محمد عمارة بعنوان الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديل الأمريكاني، وكتاب الدكتور عبد الحميد سليمان أزمة العقل المسلم، هل تنصح بعناوين أخرى تكون مصدرا للتوسع في هذا الباب الذي تحدثنا فيه اليوم.

يوجد الكثير من الكتب تتحدث عن العقل منها "القبعات الست" وهي كتيب صغير لكن الكثير أخذوا منه ولكن مع الأسف ولم ينسبوا له، وهو مؤسس علم الإبداع، وهذا الكتاب جيد جدا.

كتاب الدكتور عبد الكريم بكار بعنوان "التفكير الموضوعي"، وله عناوين أخرى تأسيس عقلية المسلم وكتاب آخر عن التفكير الموضوعي.

كتاب "التفكير فريضة إسلامية" لعباس محمود العقاد رحمه الله.

كتب الدكتور أحمد الريسوني مفيدة جدا وهو إمام من أئمة المقاصد في عصرنا وعطاؤه رائع في موضوع المقاصد.

أنصح أيضا بسلسلة الدكتور جاسم سلطان بعنوان "أدوات القادة" وهي مفيد كلها. 

كتب عابد الجابري تحرك العقل بشكل ممتاز.

استمتعنا جدا بهذه الساعة التي جلسنا فيها إليكم، في الختام أترك لكم المجال لقول ما تريدون.

لا تخافوا من الانفتاح بل من الانغلاق وبخاصة في عصرنا هذا الذي انفتحت فيه الدنيا من اليمين واليسار، فلا تخافوا على الإسلام من الانفتاح، نحن نخاف عليه الانغلاق، ودينا يحفظه الله، وهو غال على المسلمين ولا يمكن أن ينجرفوا خلف أي ناعق، فالدين الإسلامي راسخ رسوخا عميقا في أمتنا.

شكرا لك دكتور على هذه الجلسة التي شرفتنا بها، وأتمنى أن تكون لنا جلسات أخرى في قادم الأيام، وشكرا للجمهور الكريم الذي تابعنا ونضرب لكم موعدا في قادم الحلقات والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.