بعد هيمنة الكنيسة في العصور الوسطى، ثم نجاح ثورة الإصلاح الديني، وصولا الى عصر النهضة والتنوير، فمركزية الانسان عبر الذاتية، مرورا بالعقلانية وصولا الى الحرية، دخل العالم الغربي مرحلة العلمنة بشكل كلي، لتفرّخ الليبرالية مفاهيم جديدة عن الانسان والطبيعة والمجتمع والسياسة وكل ما له علاقة بالتجمع البشري.

لقد انتهت العلمانية كما أسلفنا في مقال سابق الى ذاتية المعرفة لدى الانسان واعتبرت العقل مركز تلك الذاتية، وكانت في نظرتها تلك، تراعي مفهموم الحرية المقدس باعتباره نهاية المطاف في سبيل إبداع الانسان وهيمنته على الطبيعة.

لقد كانت الفردانية تشكل النموذج الذّري للمجتمع الذي نتج عن الفلسفة الليبرالية بكل تفريعاتها فالمجتمع ليس اكثر من مجموع أفراد، وكلما تحقق القدر الاكبر من ارتقاء الفرد وتحريره كلما تحقق رقي المجتمعات تبعا لذلك، وهي نظرة كما هو ملاحظ لا تخلو من ابتسار وتشييء للإنسان ودمجه في حتميات البعد المادي، الى أن انتهى بها المطاف الى حربين عالميتين عصفتا بكل الوعود التي أطلقتها الحداثة في قدسية العقل والانسان، وتبين أن الإنسان ذاته لم يكن مقدسا ولا مركزا،إنما هو مجرد فرع بسيط يمكن تشييئه ثم يُضحى بالملايين منه، وأن شعارات العقلانية والذاتية لم تحققا أية حرية للإنسان الليبرالي، لا في الاقتصاد ولا في السياسة فضلا عن الاجتماع والثقافة وغيرها من مظاهر الحضارة.

في الضفة المقابلة كان الماركسيون يرقبون ما يحدث من طحن لطبقات من البشر، فانطلقوا من زاوية مختلفة للإنسان واعتبروا الاقتصاد عبر الديالكتيك الطبقي هو المحرك الاساس لرقي المجتمعات وليس الفرد، فالانسان الفرد لا يجد معناه الا في الطبقة التي ينتمي إليها حتى يصنع بها ومن خلالها الصراع الداخلي، سواء كان كادحا من البروليتاريا أم هو من الطبقة الوسطى البرجوازية أم هو من الطبقة المتموّلة الحاكمة الأرستقراطية، حتى ينتهي المطاف بانتصار العمال الكادحين ونشوء عالم الشيوعية في حالة ما بعد الدولة ودكتاتورية البروليتاريا، لكن ليس يخفى على أحد كيف آلت إليه الامور بالاشتراكية الماركسية في الاتحاد السوفياتي وما دار في فلكه، وكيف كان الشيوعيون أنفسهم طرفا فاعلا في رفس الانسان وطحنه، لكن هذه المرة باسم دكتاتورية البروليتاريا التي كانت البروليتاريا نفسها أكثر من طحن بها.

في زاوية بعيدة من كل هذا، وقبل هذا الصراع المرير حول طبيعة الانسان، كان الإسلام قد حسم النظرة للإنسان باعتباره فردا متفاعلا مع الجماعة يحقق بها ذاته من ناحية، وتحقق الجماعة بها معناها في جهة مقابلة، وهي علاقة متوازنة لا تجنح الى طغيان الفردانية فتدمر اللحمة المجتمعية تحت شعارات الانفلات التي تسمى حرية، ولا تذيب معنى الانسان وطاقاته وقدراته في صراع طبقي ليس له داع من أساسه، ترعى ذلك التوازن نصوص دينية وأعراف مجتمعية وأدبيات تم التعارف عليها وتوريثها كابرا عن كابر.

في هذا السياق يمكننا فهم الكثير من التشريعات التي تقصّدها الاسلام في رمضان، فتوحيد المسلمين كلهم في حالة الصيام، ومن ثم القيام في صلاة التراويح، بالاضافة الى اجتماع الأسرة كلها على موائد الافطار وغيرها من التشريعات، تدمج الفرد المسلم كعضو فاعل في جسم الاسرة التي هي بدورها عضو فاعل في جسم المجتمع، الذي هو نفسه عضو فاعل في جسم الدولة، التي هي بدورها عضو فاعل في كيان الأمة ككل. 

في الوقت نفسه الصيام جهد ذاتي، يقوم به كل فرد على حده وتلاوة القرآن وتدبره وتزكية النفس ومجاهدتها والمصابرة على ذلك، كله يصب في تحقيق الذات المنفردة، بالموازاة مع دمجها في المجتمع ككل، وهي بنية حضارية في غاية التوازن تحارب الفردانية والطبقية في آن واحد وتقف حاجزا دون التفلت الفردي من ناحية والصراع الطبقي من ناحية أخرى.

إن المسلم الذي يبحث في كثير من مقاصد التشريعات التي يندب الاسلام اليها معتنقيه في رمضان، سيكتشف أن المآلات التي انتهت اليها العلمانية بشقيها الليبرالي والماركسي قد سبق الاسلام منذ قرون خلت وسعى في تلافيها وتجفيف منابعها عبر الاعتناء بالذات في الجماعة والاعتناء بالجماعة في تطوير الذات وتزكيته.


لكن السؤال الذي ينبغي طرحه كالعادة:

كيف ضيع المسلمون هذه المفاهيم وجنحوا الى كثير من ممارسات العلمنة وتكسرت الكثير من العلاقات التي حرص الاسلام على ترميمها؟

ففي الوقت الذي ندب فيه الاسلام أبناءه الى التوحد ولم الشمل تحت راية هلال رمضان، نجد الكثير من دول الاسلام متفرقين شذر مذر، بل لا تمانع بعض السياسات حتى في تفريق الامة بإعلان الصيام في أيام مختلفة.


وفي الوقت الذي ندب فيه الاسلام أفراده بالتفرغ النفسي والروحي للتزكية والتهذيب والتشذيب، حتى يعودوا بأخلاقيات عميقة تخدم الجماعة المسلمة، نجد الكثير من الشبان قد انعزلوا عن أسرهم ومجتمعاتهم بغية الاندماج في عالم آخر يتواصلون معه بحثا عن المتع واللذات السمعية والبصرية التي تقتل الوقت و تستنزف الروح.


إن استشعار المسلم لفلسفة الاسلام في تحقيق المعادلة المتوازنة في علاقة الفرد بالمجتمع، والمجتمع بأفراده، سيدرك كيف يكون رمضان مدرسة حقيقية لترسيخ هذه القيم وتلك المفاهيم، ولن يتأتى ذلك لأي مسلم يعيش بعقلية علمانية حتى وان كانت ممارساته في رمضان كلها دينية، إذا لم تكن تراعي طبيعة العلاقة، فالسعي للتوازن يحقق المقاصد ويفاصل بين المسلم والعلمنة الممنهجة.