في الفلسفة الاسلامية بشكل عام تعتبر الموارد الطبيعية ملكا لله تعالى سخرها للإنسان بشكل عام، وحرم عليه المبالغة في استغلالها من أجل الثراء فضلا عن اكتنازها واحتكارها ومنع الناس عنها، لذلك نجد آيات عديدة تحرم الإسراف والتبذير ونصوص أخرى تدعو المسلم الى الاقتصاد في الاستهلاك و تردعه من المبالغة في الاستهلاك. 

فنجد القرآن يقول "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" وفي الآية الأخرى "ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا" كما نجد في النص النبوي أيضا ما يدعم هذا، فقول المصطفى لسعد: لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جار، و قوله أيضا بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه. فضلا عن ممارسته الميدانية للاقتصاد في المأكل والمشرب والملبس وغيرها من الأمور.

كما نجد الفهم العمري للفلسفة الاسلامية في التعامل مع الاستهلاك ملخصة في قوله لأحد الرعية التي كان عمر خليفة عليها: أو كلما اشتهيت اشتريت؟ في سؤال استنكاري يلخص المسلك العام في ضبط السلوك عبر ضبط الشهوة.

كل هذا يجعلنا نقف على فلسفة متكاملة يندب الاسلام معتنقيه على ضرورة التحلي بها في حياتهم بشكل عام، وفي رمضان على وجه الخصوص يدخل المسلمون الى هذه الدورة التدريبية المكثفة لمدة شهر كامل حتى يُوطنوا أنفسهم على التعامل الرشيد مع ثقافة الاستهلاك، فيرشدهم الى الصيام عن كثرة الأكل والشرب فضلا عن التبذير والمبالغات في الموائد.

ولقد جُعل الصيام وسيلة تقنع المسلم، وغير المسلم، أن الانسان في مقدوره العيش متحكما في رغبته نحو النزوع الاستهلاكي، كما أنه يدخل درسا حقيقيا يشعر فيه بمغبة المبالغات في الاستهلاك و الاسراف، ويذكره شعوريا بمن يعيش  بشكل يومي إجباريا هذه الحالة التي هي عنده في رمضان اختيارية ومؤقتة عبر الصيام من الجوع والعطش والحرمان.. فتجتمع على المسلم النصوص النظرية والممارسة الميدانية فيزداد وعيه بأهمية الاقتصاد في الاستهلاك كل سنة. 

والاسلام في دعوته الى هذه السياسة العامة في الاستهلاك المرشّد إنما يسعى لتعليم الانسان كيف يبقي على قدر عال من قدرته على التحكم في غرائزه المنفلتة طيلة السنة.

في المقابل تسعى العلمانية بكل تفريعاتها الى العكس النقيض تماما

فالليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية المتوحشة) التي هي أخت العلمانية من الرضاعة المعرفية، لا تجد نجاحها الا في المجتمعات الاستهلاكية، ذلك أن الربح المادي يحتاج الى انتاج متواصل يقابله استهلاك متواصل، وأي توقف في الانتاج أو الاستهلاك يعني بشكل مباشر توقف في الارباح.

إن أي ثقافة معرفية تجعل من الانسان مقتصدا في الاستهلاك، ثقافة لا ترحب بها العلمانية أبدا، فهي ثقافة تساهم في ركود السوق وتكدس السلع وضرب المبدأ الليبرالي الأول (عرض/طلب) لذلك تسعى شركات التسويق بكل ما أوتيت من وسائل إغراء لاقناع الناس أنهم في حاجة ماسة الى المنتج الفلاني، الذي لم يشعر بالحاجة اليه الانسان يوما، إنما طريقة الإغراء جعلته يشعر بفقره المدقع أمامه.

العلمنة لا تسأل عن الضرائب باهضة الثمن التي ستدفعها الاجيال اللاحقة نتيجة الاستهلاك اللامحدود للسلع من تلوث بيئي وجفاف في الموارد فضلا عن انحسار في مواد أساسية ما كان ينبغي أن يتم هدرها بشكل مبالغ فيه كالثروات الناضبة، فضلا عن النفايات التي تتكدس بشكل كارثي مسببة ما لا يحصى من الامراض و العاهات.

انما سؤالها الأساسي كيف يمكن أن نحقق مزيدا من الارباح وكيف ننتج الانسان الذي يستهلك ولا يسأل سؤال المعنى، والغاية من الاستهلاك!!

في الفلسفة العلمانية التي غلبت اليوم، الانسان في حد ذاته ليس أكثر من تطور نوعي للمادة، فإذا كان الانسان مجرد مادة متطورة، فمن الغباء أن يدخر جزءا من اللذة كما ينسبون ذلك الى فرويد، واللذة في أقصى مدخلاتها تحتاج الى استهلاك مستعر.

إن التنافس على الاستهلاك ومزيد من الاستهلاك الذي تروج له الآلة الاعلامية والثقافية وحتى الفكرية والفلسفية العلمانية لتحقيق الذات، التي لا تجد نفسها في منظومة العلمنة الا بمزيد من الاستهلاك، لا توائمه الجموع الصائمة نهارا والتي تعمل بقول النبي: بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، في المساء التي تجد ذاتها في معنى مختلف تماما.

لا توائمها الغرائز المنضبة طيلة شهر كامل لا تستهلك الا ما يفي بالحاجة، نفوس تبحث عن لذة من نوع مختلف متسامية عن اللذة التي يوفرها السوق.

لكن: 

دعونا نرجع للواقع و نتساءل، هل يعي المسلمون اليوم خطورة ما هم والغون فيه من الاسراف والتبذير والاحتشاد في الاسواق في سُعار استهلاكي مبالغ فيه؟ في شهر هو أصالة يفترض به وفق الفلسفة الاسلامية الكبرى أن يكون مقوضا لجذور العلمانية الاستهلاكية من أساسها؟

هل يعي المسلمون خطورة ما يتعرضون له من قصف اعلامي وتزوير مفاهيمي يعيد ترتيب الانسان في مكانته على قدر ما يجلبه من السوق في الوقت الذي يراد لهم في رمضان أن يفوز فيه الانسان الأكثر انضباطا واتزانا وقدرة على التملص من لوثات الماديات المفرطة؟

إن المسلم اليوم مطالب بشكل مباشر أن يستحضر في رمضان أنه دخل دورة تدريبية مكثفة لتخليصه من السعار الاستهلاكي الذي يتماهى مع فلسفة معرفية تنطلق من كون الانسان مادة تبحث عن السعادة عبر اللذة التي يحققها الاستهلاك (بكل انواعه).

وإن أول خطوة ينبغي أن يقوم بها في رمضان في سبيل النجاح في هذه الدورة هو النجاة من القصف الاعلامي الذي تمارسه الأذرع المختلفة كمواقع التواصل والمحطات التلفزية الرسمية والخاصة التي تبيع اوهام اللذة للناس وتعويضها بالمتع المعنوية التي جاء رمضان لتعزيزها في نفس المسلم وروحه وعقله وقلبه عبر تفريغه لقضايا أكبر وأهم من كونه مجرد مادة تستهلك مادة في طاحونة مادية تنتج الارباح الخيالية لمنظومة هيمنة تقضي على الطبيعة وجهود ملاين البشر من أجل ايهامك بلذة مدة دوامها لا تصل لفترة قراءتك لهذا المقال.