التساؤل الذي لطالما أثار اهتمام البعض: لماذا قنينة عطر يساوي سعرها تقريبا 150 دولار، بينما سعر برميل البترول يساوي 70 دولار؟ إذا قررنا التفكير بموضوعية بعيداً عن عقلية المؤامرة، ربما تستطيع نظرية "منحنى الابتسامة" أن تقدم لنا تحليلاً اقتصاديا.

منحنى الابتسامة

طرح رجل الأعمال التايواني (ستان شيه) فكرة "منحنى الابتسامة" الذي يوضح دورة حياة المنتوج؛ فأي منتوج نستخدمه، سواء أكان علبة قشطة أم هاتف ذكي قد مر بالمراحل الموضحة بالصورة أدناه.

وفقاً للمنحنى، يمكن تقسيم حياة المنتوج إلى ثلاث مراحل: مرحلة قبل التصنيع، مرحلة التصنيع، مرحلة بعد التصنيع.

وكل مرحلة من المراحل، تُضيف قيمة إضافية للمنتوج وصولاً لمرحلة بيعه وجنيّ الربح؛ وكلما كانت المرحلة تُضيف أكبر قيمة، كانت صاحبة حصة اكبر من الارباح.

تعتبر (مرحلتي قبل وبعد الإنتاج) هما المرحلتان الأكثر إضافة للقيمة وبالتالي تتلقيان الحصة الأكبر من الأرباح.

أما مرحلة التصنيع، فهي القعر من حيث القيمة، ولذا تتلقى عائداً أقل، والسبب في ذلك، أن أنشطة التصنيع تتطلب قدر قليل من المهارات، والتي تكون روتينية تكرارية، وعليه يتقاضى العاملون في هذه الأنشطة أجوراً أقل من أولئك العاملين في أنشطة البحث والتطوير والتسويق والمبيعات التي تتطلب مهارات أكثر تعقيداً.

تفكيك الأنشطة

لم تعد هذه الأنشطة تتم جميعها في دولة واحدة كالسابق، بل أصبحت أجزاء المنتجات تُصنع في عدة دول للاستفادة من المزايا التنافسية للدول، فبعض الدول أفضل في أنشطة البحث والتطوير بسبب كفاءة نظامها التعليمي، ودولة أخرى أفضل في التصنيع بسبب وفرة الأيدي العاملة فيها، ودولة ثالثة أفضل في التسويق بسبب موقعها الاستراتيجي وسهولة الوصول إليه.

مثلاً، يحمل جهاز الـ (iPod) اسم وشعار شركة APPLE الأمريكية، ولكن تصنيعه في الحقيقة يتم في مصانع شركة (Inventec) التايوانية، حيث تقوم هذه الشركة والعشرات من الشركات الواقعة في مناطق مختلفة من العالم بتصنيع جهاز iPod وتقوم شركة (Inventec) بتجميعه.. فلماذا تضع شركة Apple شعارها وسمها؟

السبب أن شركة Apple هي التي تصورت، بحثت وطورت وسمت الـ iPod، وعليه تحتفظ بحق توزيعه وبيعه في جميع أنحاء العالم.

إن الفكرة الجوهرية لمنحنى الإبتسامة، إن تصنيع المنتج يتم من خلال سلسلة من الأنشطة المتفرقة في عدة دول حول العالم، وإن نجاح هذا المنتج أو ذاك يعتمد بشكل أساسي على أنشطة: البحث والتطوير، العلامة التجارية، التسويق والتوزيع. 

وهذه الأنشطة تتطلب موظفين متخصصين وذوي مهارات ذهنية ومعرفية عالية، وبالتالي فإن العاملين في هذه المجالات يتقاضون أجوراً أعلى، بسبب قيامهم بالأنشطة الواقعة في الجانب العلوي من المنحنى، وبالمحصلة تحصل دولهم على دخل أعلى.

ماذا فعلت الصين؟!

الصين التي بنت اقتصادها خلال العقود الماضية على استراتيجية جذب الأعمال التي تتطلب عمالة كثيفة، انتهى بها المطاف بفخ (الدخل المتوسط)؛ حيث يصنف البنك الدولي، الدول على أساس حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، إلى ثلاث فئات:

  • دول ذات دخل منخفض (أقل من 4,000 دولار)
  • دول ذات دخل متوسط (بين 4,000 و10,000 دولار)
  • دول ذات الدخل العالي (أكثر من 10,000 دولار)

أدرك الصينيون بأن انتقالهم إلى فئة ذات الدخل العالي، يتطلب منهم تسلق أعلى سلسلة القيمة، والبدء بالتركيز على الأنشطة ذات الطابع المعرفي أكثر من الأنشطة ذات الطابع البدني، لهذا اطلق الصينيون مبادرة "صنع في الصين 2025"، وهي استراتيجية بعيدة المدى تستهدف تشجيع الابتكار المحلي في الصناعات المتطورة، وزيادة كفاءة الصين في صناعات التكنولوجيا الفائقة، ونقل الصين إلى قمة سلسلة القيمة، وفي النهاية مساعدة الصين على الإفلات من ما يسمى "فخ الدخل المتوسط" الذي تشكو منه الدول النامية الأخرى.

وبالفعل فإن شركات التكنولوجيا الصينية "بايدو" و"علي بابا" و"تينسنت" قد زادت عمليات استحواذها في جميع أنحاء العالم، حيث أنفقت الشركات الثلاث 25.1 مليار دولار للاستحواذ على شركات التكنولوجيا الأمريكية على مدى السنوات الخمس الماضية، وهذا ما أثار ذعر الأوربيين والأمريكيين، وهو ايضاً السبب الرئيسي لخلاف ترامب مع الصينين؛ حيث يتهمهم بانتهاك حقوق الملكية الفكرية للتكنولوجيا الأمريكية.

ماذا عن العراق؟!

إذا كانت أنشطة التصنيع هي "القاع" بحسب منحنى الابتسامة، فإن صناعة استخراج البترول العراقي تعتبر (قاع القاع) لسلسلة القيمة العالمية، التي تتطلب – غالبية وظائف هذه الصناعة – الحد الأدنى من المهارات المعرفية والذهنية، بل ويذهب العراق للاستعانة بالشركات الأجنبية، صاحبة الخبرات، ورأس المال والقدرة التنظيمية.

بحسب الصورة أعلاه، يبلغ معدل دخل الفرد العراقي بحدود 4000 دولار، وهذا الدخل يتأثر بالدرجة الأساس بـ:

  • أسعار النفط العالمية، التي من المتوقع أن تراوح هذه الأسعار بمكانها لفترات طويلة.
  • تعداد نفوس العراقيين الآخذة بالزيادة.

إذا أراد العراق وضع خطة استراتيجية لتسلق سلسلة القيمة العالمية، فعليه الاستفادة من تجارب بعض الدول البترولية، التي أفلتت من فخ الدخل المنخفض، بسبب استثمارها لثرواتها ليس لتعيين وتوظيف مواطنيها، بل لإنشاء صناديق سيادية تستثمر أموال البلد في شركات التكنولوجيا، وهذا ما ساعدها على الإفلات من مستنقع صناعة البترول.

أما على جانب التعليم، فإن نقل التعليم العراقي، من التعليم القائم على تلقي المعلومة إلى التعليم الهادف للابتكار، يشكل تحدياً عويصاً أمام المخطط الاستراتيجي العراقي، ويتطلب ذلك أولاً، تنوير عقلية القائمين على ملف التعليم قبل تغيير الآليات والشعارات.

وأخيرا، إن الثروة لم تُعد تُصنع من الثروات الطبيعية، بل من المعرفة والخبرات المتراكمة، وإن الأسرار وحقوق الملكية الفكرية التي تحتفظ بها الشركات هي أعظم ثروات الدول والشعوب!