حين خرجت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى، بعث إيماء بن رحضة الغفاري إلى قريش ابنا له بعشر جزائر حين مروا به، أهداها لهم، وقال: "إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال- فإنا معدون لذلك مؤدون- فعلنا. فقال له أبو جهل: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، ولئن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة.

 فهذا أبو جهل واحد من قريش الذين ما فتئ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم لكلمة لا إله إلا الله، ويقول صلى الله عليه وسلم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". فهل كانوا يظنون أنها مجرد ألفاظ وكلمات فقط؟ إذا لأجابوه وقالوها. ولكنهم علموا أنها كلمة لها سلطان على الجوارح والأركان كما على القلوب. فمن يقول لا إله إلا الله لن يسجد إلا لله ، ومن يقول لا إله إلا الله يصير بيعه وشراؤه وزواجه وطلاقه، وسفره وإقامته ، وكل أمره وشانه خاضعا لسلطة شرع الله.

واليوم إذا قرأت كتابا أو حضرت درسا عن العقيدة والتوحيد، هل تجد فيه حديثا عن أخلاق؟ عن معاملات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية؟

أليست هذه العقيدة جاءت لتحقق للإنسان مصلحته في دنياه وأخراه؟ أليس ربنا يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97].

لقد صار أول ما يتبادر إلى ذهنك عند سماع كلمة عقيدة: ردود وتبديع أو تكفير ولمز وتصنيف للناس أو تضليل، وجرأة على علماء أحياء وأموات. مقلدين في ذلك حقبة تاريخية استدعت بعض ذلك لتمييز الصف والحفاظ على عقيدة المسلمين، أو دحض شبه مع تجاوز للحد في كثير من ذلك. دون أن نغفل تداخل السياسي بالديني حتى في أمور العقيدة.

فبعدنا بذلك مرتين عن المعنى الحق للعقيدة، مرة بجعل العقيدة ميدان الردود والطعون لا ميدان إصلاح القلوب والنفوس، ومرة بحصر العقيدة في قضايا اعتقادية دون بيان تأثيرها في أعمال الظاهر.

وعلى قدر تكرار ربنا سبحانه الربط بين الإيمان والعمل الصالح في كتابه "الذين ءامنوا وعملوا الصالحات" يتسع الخرق بينهما في حالنا، وهذا مما لا ينقضي منه العجب.

أليس الإيمان قولا وعملا؟ وبمجرد تساؤلك هذا ينجر الحديث جرا عن الطائفة التي حصرته في القول فقط وعن التي عممت... فنبتعد بذلك عن تحقيق الإيمان لا قولا ولا عملا. أو لا يتأتى لنا أن نصوغ القاعدة بما ينفع ويرفع لا فقط بما يدفع؟ فنقول: الإيمان بالله أن تعتقد بوجود الله تعالى مستحضرا ذلك في كل أحوالك، وأنت في بيتك أو في عملك، بين الناس أو خاليا بنفسك، وأنت غضب أو فرح... والإيمان برسله أن تعتقد بأنهم مبعوثون من عند الله ليبلغوك شرعه، فتؤمن بهم في الشرع الذي جاءوا به لينظموا علاقتك بخالقك، وعلاقتك بأهلك وذويك، بل وحتى علاقتك بمن خالفهم وكذبهم... والإيمان بالكتب التي أنزل الله أن تعتقد بأنها منزلة من عند خالقك فتجزم بتصديق ما فيها وصلوحيته لحياتك وواقعك...

فمثل هذا البيان للعقيدة يبني الإنسان، ولا نشتغل بهدم الذوات المخالفة كما يفعل من يقرر العقيدة في سطر أو سطرين ثم يكمل باقي الصفحات في الردود والتصنيف الذي قد يصل إلى حد التألي على الله والحكم على معينين بجنة أو نار، "متأثرا في ذلك بالنشأة الدفاعية لعلم العقيدة التي حصرته في بعض القضايا الخلافية، وبالتالي أغفلت قضايا جوهرية هي من صميم العقيدة الإسلامية، كقيمة الإنسان التي تتأسس على التكريم، وغاية حياته المتمثلة في خلافة الأرض وتعميرها، والعدالة الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي..."

العقيدة محرك الجوارح، ومتى تعطلت هذه الجوارح دل ذلك على خلل في المحرك. وكثير من آي الكتاب تقرر ذلك. فلا يكاد يذكر الإيمان إلا مقترنا بالعمل الصالح: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)} [الرعد: 29]