شهد العالم طفرة في عالم التعليم والتدريب منذ بدأ جائحة الكورونا واضطر للتوجه للتدريب والتعليم عن بُعد. أدى هذا إلى العديد من النتائج، منها انبهار الجميع بإمكانية الاستغناء عن النظام الروتيني المعتمد على الذهاب للمدرسة أو قاعة التدريب وشعورهم بالراحة لعدم الاضطرار لاستخدام المواصلات أو تجهيز الوجبات وغيرها من تبعات التدريب والتعليم الحضوري. أدى هذا إلى تكهنات بإختلاف عالم التدريب والتعليم كليًا وتحوله بالكامل إلى الطرق الإلكترونية وأدى إلى مطالبات بألاّ يعود التدريب والتعليم لسابق عهده بعد انحسار جائحة الكورونا بإذن الله. 
بالتأكيد لن تعود الأمور إلى سابق عهدها بشكلٍ كامل في أي وقتٍ قريب لأن الأزمة قد تستمر لسنة أو أكثر قبل أن يُصبح الفيروس مرضًا يمكن التعامل معه كبقية الأمراض. ولكن، هل حقًا نريد أن تستمر أنظمة التعليم والتدريب في الاعتماد على المنصات الإلكترونية بشكلٍ كامل؟ لا أعتقد ذلك وأشرح السبب فيما يلي طبعًا مع مراعاة الفوارق بين قطاع التعليم وقطاع التدريب. هناك العديد من الجوانب التي ينبغي علينا مراعاتها قبل رسم شكل التعليم والتدريب في المستقبل بعد جائحة الكورونا. 

الجانب التقني

يقف أمامنا تقنيًا أربعة عوائق رئيسية: سرعة الانترنت وتكلفتها، واتاحة الأجهزة من عدمها، والمشكلات التقنية وتأثيرها على الخبرة التعليمية، هذا بالإضافة بالطبع لاحتمالية الأمية التقنية. 

  • لا يخفى على أحد أن تصوّر الاعتماد الكلي على التكنولوجيا في التعليم والتدريب هو خيار صعب بل ومستحيل التحقيق في بعض الدول والبيئات. ما بين صعوبة الوصول للمواد التعليمية بسبب بطء الانترنت وما بين وجود تكلفة مالية مقترنة بخدمات الإنترنت ولا يستطيع البعض تحمّلها، يُصبح هذا النوع من التعليم غير واقعي وغير ممكن في كثيرٍ من الأحيان. 

سأضرب لكم مثالاً من خبرتي الشخصية على مدار الأسبوع الماضي فقط. المثال عن تجربتي الأولى من نوعها لإعطاء محاضرة "صوتية" عبر واتسآب لمجموعة من العاملين بمنظمات العمل المدني في اليمن الشقيق وانضم لها الكثيرون من دول أخرى كالعراق الحبيب أيضًا والشمال السوري. السبب طبعًا في كونها صوتية هو صعوبة تحميل مقاطع الفيديو واستحالة متابعة بث مباشر لأسباب تقنية. ومع أن المحاضرة اعتمدت على المقاطع الصوتية، كان لدى بعض الحضور تأخيرٌ في وصول المقاطع الصوتية القصيرة. 

  • كما أنه هناك اختلاف بالطبع بين قطاع التعليم وقطاع التدريب. فقطاع التعليم معني بأعداد بشرية كبيرة على مستوى الدول وهو إلزامي لكل طفل وشاب في كل أسرة، بينما التدريب هو اختيار ربما لشخصٍ واحد في الأسرة وفي الغالب هو بالغ ولديه وصول لجهاز حاسوب أو هاتف ذكي موصول بالانترنت. أما في حالة التعليم، فقد يكون لدى كل أسرة طفلين أو أكثر. وسيحتاج كل منهم جهاز حاسوب خاص به ليستطيع التعلّم عن بعد. فإذا لم توفر الدول جهاز لكل طالب، ليس من السهل أبدًا على الكثير من الأسر أن توفر هذا لكل طفل لديها. 

وقد شاركت معي صديقة غالية تجربة حديثة لها تتعلق بموضوع الأجهزة. صديقتي تعمل في مجال تدريس اللغة الإنجليزية عن بُعد. وفي الفترة الأخيرة، كانت تود التطوع لتدريس اللغة الإنجليزية لعدد من اللاجئات في تركيا ولكنها لم تستطع لعدم توافر أجهزة حاسوب لديهن وبالطبع عدم توافر خدمة الأنترنت. 

1

 

  • العائق الثالث والذي هو يُعتبر الأهم من وجهة نظر تعليمية، هو تأثير الأعطال التقنية على الخبرة التعليمية للمتعلّم وللمعلّم أو المدرّب أيضًا. لا يخفى على كل من شارك في أي خبرة تعليمية عن بُعد أنه في كل جلسة تعليمية أو تدريبية، يكون هناك دومًا أعطال فنية أبسطها أن تظهر فجأة الضوضاء من طرف أحد المشاركين وانصراف اتجاه الجلسة لمساعدته على وضع جهازه على الصامت أو التحكم عن بُعد في جهازه.

وهناك أعطال تقنية على مستوى إعدادات الحواسيب المنفردة للمشاركين. أو قد تكون المشاكل بسبب مشاكل الانترنت أو الضغط على الشبكات وغيرها. وكل مرة تحدث فيها هذه الأعطال أثناء الجلسة، يحدث ارتباك وإيقاف لسير الأفكار وتسلسلها وتركيز وانتباه المعلّم والمتعلّم بالإضافة طبعًا لضياع الوقت. لا يمكن أبدًا التغاضي عن هذه المشكلة إذا اهتممنا بالنتائج المرجوة من الخبرة التعليمية. 

  • العائق الرابع يكمن في عدم الكفاءة والوعي التقني للكثير من المتعلمين، والمتدربين، بل والمعلمين، والمدربين أيضًا. هناك الكثير من قطاعات المجتمعات لا يمكن أن نطلب منهم أن يهتموا بالتعلّم التقني والكفاءة في التعامل مع الأجهزة والبرامج المتنوعة. وإذا كان جيل المتعلمين هو جيل شاب ويتمتع بوعي تقني، فالأمر ليس كذلك لأجيال المتدربين الذين يأتون من كل المستويات التعليمية والفئات العمرية والذين يمكن أن يكونوا غير مرتاحين لاستخدام التكنولوجيا.

كما أن المعلمين والمدربين أيضًا خبراء المواد والمتخصصين في علوم ودراسات بعينها، ربما لا يكونون على وعي تقني عالي. يضيف هذا الاضطرار للتعامل مع التكنولوجيا، عبئًا عليهم لتعلّم مهارات لم تكن في خطتهم ويأخذ من مساحة تركيزهم على المادة العلمية. وقد يستتبع الأمر الاحتياج للاستعانة بمسؤول تقني لكل جلسة تدريبية أو تعليمية؛ وهو أمر ليس دومًا متاح بدون تعيين شخص متخصص وتحمّل تكلفة خدماته. 

رغم التقدم العالمي، ستبقى هناك مجتمعات بأكملها وأسر بعينها في مجتمعات أخرى، لا يمكنها الاستفادة من خيار التعليم عن بُعد لأسباب تقنية. وهذا واقع لا مفر منه في عصرنا الحالي بمعطياته الحالية. 

الجانب العلمي والمعرفي والمهاراتي

من البديهي أنه هناك مواد لا يمكن أن نحصل على نفس النتيجة عندما نتعلمها عن بُعد. مثلاً المواد المعتمدة على الأبحاث المعملية أو المهن الحرفية اليدوية، أو المهارات الفنية، كل هذه أمثلة على مواد تحتاج الإندماج الجسدي للجوارح مع المشاعر والأفكار أثناء التعلّم. هذه المواد والمهارات، لن يأتي تعلّمها بنفس النتيجة عن بُعد عن طريق الفيديو. فهذا الافتقاد للخبرة المباشرة، يؤثر سلبًا على انتقال المعرفة واكتساب المهارة. 

2

كما أنه من الصعب على المعلّم مراعاة مشكلات التعلّم عن بُعد بحيث لن يكون لديه رؤية أو اطلاع على معاناة المتعلّم إذا لم يفصح هو عنها. بعكس الفصل الدراسي الذي يمكن للمعلّم من خلاله قراءة وجوه المتعلمين وتشجيعهم على المشاركة وسؤال الأسئلة ويمكنه أن يستشعر النقاط التي لم يفمهما جميع المتعلمين بشكل عام والنقاط التي يحتاج بعض المتعلمين لاستيضاحها بشكل خاص. 

جانب مهارات التواصل ومهارات الذكاء العاطفي والوجداني

تشير العديد من الدراسات المتفقة مع خبراتنا الشخصية أن تواصلنا مع الآخرين هو 10% تقريبًا بشكلٍ "لفظي" بينما 90% من طريقة تواصلنا مع الآخرين هي "غير لفظية" nonverbal. وبغض النظر عن مدى صحة النسبة، لا يخفى علينا أننا نأخذ الكثير جدًا من المعلومات في أي موقف تواصل، من خلال تعابير الوجه، ولغة الجسد.


كما أن التواصل الحضوري المباشر هو من أهم وسائلنا لتطوير مهارات الذكاء العاطفي عن طريق شعور الشخص بمشاعره ومشاعر الآخرين جراء التصرفات التي تحدث في الموقف، ثم سعي الطرفين للتعامل مع الموقف من خلال مهارات تُكتسب وتُمارس في الموقف نفسه. 

حتى المواقف التي لا تسعدنا، نتعلم منها الكثير من المهارات في محاولاتنا للتعامل معها. مثلاً عندما يتعرض ابنك للتنمر في المدرسة أو يعتدي هو على طفل آخر، في هذا الموقف تعلّم مباشر للأطفال المعنية ولأولياء أمور الأطفال أيضًا ولإدارة المدرسة ويحدث هذا التعلّم أثناء محاولة الجميع للوصول لحل لهذه المشكلة. 
أيضًا عند التعليم عن بُعد، نفقد الكثير من مشاعر الترقب، والاحتفال، والتعبير عن المشاعر لفظيًا وغير لفظيًا، مما يحرمنا من النمو العاطفي الذي نكتسبه عن طريق التفاعل المباشر مع الآخرين. 
إن التواصل الحضوري المباشر ومتابعة المعلّم أو المدرّب لوجوه المتعلمين ومتابعة المتعلّم أيضًا للغة جسد المعلّم أو المدرّب، هي من أهم جوانب العملية التعليمية. كما أن عبر التفاعل مع الآخرين، ننمي مهارات التعاطف، والاحترام، وتقدير الآخرين، والتسامح، والحسم، والحزم، والدافعية وغيرها الكثير من المهارات. 

3

كل هذا يُفقد بشكل كبير أو يُفقد تمامًا في التعليم عن بُعد لعدم اضطرار أي شخص للتفاعل مع الآخرين أو التعامل معهم في سياق طبيعي. نحن لا نريد أجيالاً لا تُحسن التعامل مع الآخرين ومفتقدة للذكاء العاطفي والوجداني. 

جانب خصائص التعليم عن بُعد

للتعليم عن بُعد خصائص بعينها وتبعات ترافقه يمكن أن تضر كثيرًا بالعملية التعليمية إذا لم ننتبه إليها. مثلاً التعليم عن بُعد يُتيح الوصول بالمادة إلى عدد غير محدود من المشاركين. وهذه الإمكانية المميزة يمكن أن تُغري المعلمين والمدربين بالاستفادة منها لتوسيع قاعدة الاستفادة من الجهد. ولكن بالطبع كلما زاد عدد المتعلمين في الجلسة الواحدة، كلما قل التفاعل وقلّت فرص الالتفات لأسئلتهم أو التعرّف عليهم عن قرب. وبالتالي تتحوّل الخبرة التعليمية لمحاضرة من اتجاه واحد لا تبالي بمدى الاستفادة الفعلية للمشاركين. ومما يُزيد الأمر تعقيدًا هو معاينة المدرّب لأرقام الوصول. من منا لا يسعد بأن يرى أن ورشته التدريبية قد حضرها 300 شخص أو 3000! ولكن ماذا يعني هذا تحديدً؟ ربما لا شيء إذا لم تحقق الأثر المطلوب في نفس كل متعلّم. 
التعليم عن بُعد أيضًا قد لا يُتيح الكثير من الفرص للمعلّم أو المدرّب لاختيار آليات قياس إبداعية وتتناسب مع المهارات التي ينبغي قياسها. فمعظم البرامج (خاصة رخيصة السعر) تتيح فقط الأسئلة من نوعية الصواب والخطأ، والاختيار من متعدد. يُجبر هذا مُعد المحتوى على التقيّد بالتكنولوجيا وليّ ذراع المحتوى ليناسب التكنولوجيا وليس العكس. أيضًا هناك الكثير من التمارين والتدريبات العملية التي لن يمكن إجراؤها وبالتالي تفقد الخبرة التعليمية الكثير من جوانب الدهشة، والصدمة، والتفاعل، وإثارة الوجدان، وغيرها من الآثار المطلوبة المترتبة على التمارين العملية. 

حتى القصص المؤثرة تفقد قيمتها تمامًا ويتم ذبحها بقسوة عندما ينقطع صوت المدرّب أثناء رواية القصة أو يعلو صوت طفلٍ باكٍ في خلفية أحد المشاركين الذين تعطلت خاصية الصامت لديهم فجأة لأي سبب! وكعرض وجداني آخر ربما يجده البعض غير هامٍ ولكنه حقًا مهم، يفتقد المعلّم أو المدرّب لشعور الرضا المصاحب لرؤيته أثر جهده على المشاركين وربما ابتساماتهم أو إشراقة وجوههم في لحظات التنوير! فهذه حالة وجدانية فريدة لا تتحقق بالتدريب والتعليم عن بُعد. 

كما أن الوجود في الفصل الدراسي وقاعة التدريب يضع المشارك تحت ضغط حميد يجعله في حالة من التيقظ والترقب والانتباه. وأيضًا النهوض والاغتسال والتهيّؤ والخروج لمقابلة الناس والتشوّق للتواصل معهم ومشاركة اليوم وتناول الوجبات معًا، جميعها جزء محفّز من الخبرة التعليمية أيضًا. كل هذا لا يُقارن بحالة الاستكانة النفسية والتراخي التي يمكن أن ترافق المتعلّم من المنزل بما تشتمل عليه من خمول وعدم دافعية وربما الدخول للفصل الدراسي الافتراضي بملابس النوم. 
بالإضافة إلى ذلك، وعندما يتوجه الجميع دفعة واحدة إلى مجال التعليم الافتراضي، يزدحم هذا الفراغ الالكتروني فجأة بالعديد من الفرص والمواد والمصادر مما يخلق حالة من التشبّع لدى المتدربين والمتعلمين إذا لم يحددوا أهدافًا واضحة لهم وينتقون فقط ما يساعدهم على تحقيق الأهداف بدون الشعور بالذنب والخسارة على كل "الفرص الضائعة".

جانب التصميم التعليمي 

الإشكالية المتحققة حاليًا أن كل من كان لديه محتوى مُصمّم للتدريب الحضوري أو التعليم الحضوري، أعتقد فقط أن الأمر يقتصر على تحويل المحتوى تقنيًا في صورة ملفات Word  أو PDF أو يقتصر على تصوير مقطع مرئي أو الدخول لبرنامج تدريب افتراضي. هذه جميعها آليات للتعامل مع الأزمة وقت الطوارئ وعند الحاجة للانتقال السريع. ولكن التصميم التعليمي instructional design بخطواته ومراحله المتعددة، يختلف كليًا حسب آلية التطبيق المُتاحة. 


الأمر ليس عشوائيًا وكل نوع من أنواع المهارات له طرق للتقديم والعرض، وطرق للقياس. لا ينبغي أن نعتقد أن الأمر سهلٌ، بل هو يتطلب وضع المزيد من الجهد النوعي والكمي لتقريب الخبرة التعليمية الافتراضية من النتائج المرجوة بقدر الإمكان. 

العبء الأسري

وضع التعليم عن بُعد الأسرة في موقف لا تُحسد عليه. فولي الأمر الآن مُطالب بمتابعة الأبناء وتلقي الرسائل المتعددة من مدرس كل مادة لكل طفل بشكلٍ منفصل. 

CHILD

يضع هذا ضغوطًا إضافية على الأسرة منها ما هو متعلق بالوقت والجهد ومنها ما هو متعلق بالاحتياج لمواكبة التطور التكنولوجي أيضًا. هذا بالطبع بالإضافة إلى الالتفات لكسب العيش والقيام بمهام الحياة اليومية. 

الاعتمادية الالكترونية وازدياد العزلة

نحن بالفعل في معاناة حاليًا وقبل أزمة الكورونا لتقليل تأثير الإدمان الإلكتروني للكبار والصغار على حدٍ سواء بدرجات متفاوتة. وكنا نقول أن الطفل أو الشاب على الأقل يقضي معظم نهاره خارج المنزل في صف الدراسة وبعيدًا عن الألعاب والشاشات. ولكن الآن، تزداد الاعتمادية الالكترونية ويزداد الالتصاق بالشاشات. يزيد كل هذا من فرص العزلة وربما إدمانها أيضًا. 


على صعيد آخر يمكن ألا ننتبه له، ستقل فرص اكتشاف المشكلات التي يعاني منها الطلاب والمتدربين. 

فذلك التواصل اليومي والدوري والالتقاء تجعلنا نستشعر التغيرات التي تطرأ على الأفراد من ميول انتحارية مثلاً، أو تطرف فكري يمكن أن يؤدي إلى الإرهاب، أو تعرّض لعنف منزلي، أو انحرافات أخلاقية وسلوكية وغيرها من المؤشرات التي يمكننا أن ننتبه لها مبكرًا قبل أن نُفاجيء بدون سابق إنذار بمن يقتحم متجرًا ويفتح النار على الناس. أو قد نُفاجئ بانتحار أحدهم والذي لم تُتح لنا فرصة استشعار معاناته في بدايتها.
كما أن حرمان المتعلّم من التواصل الاجتماعي الطبيعي في الفصل الدراسي، يقلل فرص بنائه لصداقات وعلاقات صحية. وبالتالي تقل فرص حصوله على دعم وجداني من هؤلاء الأصدقاء في أوقات الأفراح أو الأتراح. مما يعمّق مشكلة العزلة بكل تبعاتها النفسية الفردية والمجتمعية.  

الجانب الصحي

كل ما سبق بالتأكيد سيكون له أثر واضح وجلي على الجميع من ناحية نفسية وصحية. فالضغوط والصعوبات السابق ذكرها ستؤدي إلى زيادة التوتر وإلى معاناة الفرد من آثار الوحدة والعزلة أيضًا! ناهيكم عن الآثار الجسمانية الناتجة عن الجلوس لفترات طويلة أمام الشاشات من آلام في الظهر والرقبة، وإجهاد لعضلات العينين، والصداع والاستثارة العصبية المستمرة، وغيرها من الأعراض المزعجة التي تشير إلى تغيرات غير صحية في الجسم. 

تأثير بالتجزئة وبالجملة

كل جانب من هذه الجوانب يقدّم لنا عددًا من التحديات في حد ذاته. ولكن في الغالب، تجتمع التحديات بمستوياتها المتنوعة من جميع هذه الجوانب. تخيّل متعلّم لديه مشاكل في حاسوبه، وتتعرض الجلسة التعليمية لمشاكل تقنية، ويفتقد المتعلم التواصل الاجتماعي والانتباه لمشكلات التعلّم الخاصة به ولا يتم الالتفات لأسئلته والمعلّم لا يلاحظ تفوقه أو معاناته. بالإضافة إلى ذلك طبيعة المادة هي عملية أكثر تحتاج لتفاعل. 


ويرافق كل هذا آلام في الظهر والرقبة! عندما تجتمع كل هذه العوامل وأكثر منها، أي خبرة تعليمية يخرج بها المتعلم؟ وأي صحة نفسية وجودة حياة تتحقق له!

الحاجة للتغيير مُلحة بالتأكيد


تسابق الشركات والجامعات والمدارس الزمن الآن لإضافة خدمات تقنية لإتاحة التعليم والتدريب عن بُعد. في المقابل، تخرج علينا شركات التقنية بأحدث وأفضل ما لديها لتسهّل هذا الانتقال للعالم الافتراضي. يجعل هذا الجميع في سباق ولهاث وشعور بالانتصار لإمكانية تحقيق هذا الانتقال. وبالتزامن، تتعالى الأصوات بضرورة الانتقال لهذا العالم الافتراضي وتفعيل هذا التغيير. 
نعم نحتاج للتغيير بعد جائحة الكورونا بإذن الله. ولكن لا يعني هذا أن ننبهر بقدرتنا على التحوّل للتعليم عن بُعد بالكلية ونعتقد أن هذا هو كل ما نحتاجه. وأتمنى ألا ننساق في هذا الاتجاه بتوجهٍ جمعي ثم نضطر لاكتشاف جميع مساوئه ونحاول الانتقال مرة أخرى لنموذج عمل أكثر توازنًا ولكن بعد وقوع أضرار جسيمة. وجديرٌ بالذكر أن قطاع التدريب والتطوير يختلف تمامًا في احتياجاته عن جوانب بقية الأشغال التي يمكن بالفعل أداؤها عن بُعد بدون خسائر أو أضرار تُذكر. 


وجديرٌ بالذكر أيضًا أن النظام التعليمي العالمي بحاجة إلى إصلاح، ولكنه ليس بالضرورة في آلية تقديم المادة. بل نحتاج تغيير في المناهج ومراعاة لفردية المتعلّم والاهتمام بما يحييه ويساعده على بناء الحياة الطيبة، والسعادة، والعلاقات وغيرها من الحاجات الإنسانية. 

نحتاج لمنهجية تعليم مرنة تتيح للمتعلم التركيز بتوازن على جوانب التعلّم النفسية الوجدانية، والروحية، والمعرفية، والمهاراتية وغيرها من جوانب النمو الهامة. كما نحتاج لمنهجية اختبار مختلفة ترفع الضغط العصبي عن المتعلم وأسرته وتساعده على التركيز على التعلّم فعلا وليس على الحفظ والتكرار. نحتاج لبيئة تعليمية معتمدة على  blended-learning أو التعليم متعدد الوسائط تتكامل فيها الخبرات الحضورية والتفاعلية على مواقع التواصل الاجتماعي، والعمل الفردي الإلكتروني في المنزل، والرحلات التعليمية، والأنشطة الترفيهية والرياضية، والقراءة الحرة وغيرها من الوسائط التعليمية. 

BLEANDED

هذه هي التغييرات التي نحتاج أن نُحدثها. قمة الكوارث من وجهة نظري، أن نُبقي على عوامل الهدم الكامنة حاليًا في منهجية التعليم نفسها ونضيف إليها عوامل الهدم السابق ذكرها والمترتبة على التعليم عن بُعد، فنفقد جيلاً ونفُسد الحياة زيادة على الضرر المتحقق بالفعل!
سيبقى خيار التعليم عن بُعد هو حل مؤقت وقت الأزمات أو تكميلي بعدها ولكني لا أتوقع ولا أتمنى أن يصبح هو الخيار الأوحد أو السائد في مجتمعاتنا.