تفاصيل كثيرة تتردد في أذهاننا أو نتداولها في مجتمعاتنا بعضها كقناعات مثل: البكاء للنساء، أو: لا تبك مثل النساء. ولماذا نبكي أمام الشاشة مع كامل إدراكنا بأن ما يحدث هو تمثيل وحتى لو انطلق من قصة واقعية فإن حبكة الدراما والمبالغة والموسيقى التصويرية هي الطاغية على المشهد، وهل البكاء ضعف أم حالة سوية، وهل يزيد في وقت الخوف والاضطراب، ولماذا نبكي مرة أخرى على مشهد شاهدناه فبكينا عليه سابقا؟

تعد نظرية أبقراط من أقدم النظريات حول وظيفة البكاء في الإفراج عن المزاج السيئ من الدماغ وتبعه أرسطو بقوله: أن البكاء ينظف العقل.

عام 1981 أجرى الدكتور ويليام فراي في جامعة مينيسوتا دراسة توصل خلالها أن البكاء يؤدي للراحة، وذلك أن البكاء يأتي نتيجة الألم الجسدي والنفسي، فيفرز الجسم هرمون الإندورفين الذي يساعد على تخفيف الآلام ويعطي شعوراً بالراحة والتحسن. ولذلك اشتهر في بعض المجتمعات العربية " #ابك_بترتاح! ".

عام 2012 أصدر الطبيب النفسي مايكل تريمبل كتابه: «لماذا يحب البشر البكاء: المأساة، التطور، والدماغ» والذي توصل فيه إلى خلاصات عديدة منها؛ أن سبب البكاء العجز عن التعبير عن الألم والتفاعل، وأن ظاهرة البكاء الفريدة التي تميز بها الإنسان قد استخدمها للتغلب على العواطف كوسيلة للتواصل بالمشاعر مع الآخرين قبل ظهور اللغة .

عام 2013 توصل عالم النفس الهولندي فينجرهوتس في كتابه «لماذا البشر هم من يبكون فقط، كشف أسرار الدموع» إلى أن الجوانب الشخصية للبكاء قد تُفسر بشكل خاص اقتصارها على البشر بحكم تطورها ضمن مجموعة من السلوكيات الاجتماعية، وهو في المحصلة سلوك أساسي للتهدئة الذاتية. 

فالبكاء شكل من أشكال التواصل الاجتماعي غير اللفظي بهدف الحصول على المساعدة والراحة والدعم الاجتماعي من الآخرين، فعند رؤية الآخرين للبكاء فإنهم يدركون ذلك على أنه إشارة موثوق بها على الحزن أو الضيق بطريقة أكثر إقناعًا من الكلمات، والتي تؤدي عادةً إلى الشعور بالآخرين وتحقق الاستجابة.

كذلك قام معلم الدموع في اليابان هيدفومي يوشيدا بدراسة توصل خلالها إلى أن الدموع تحفز نشاط العصب الودي، والذي يؤدي إلى إبطاء معدل ضربات القلب، وتخفيف ضغط الدم وتوسيع الشعيبات الهوائية في الرئتين لزيادة استيعاب الأوكسجين، مما يساعد في تهدئة العقل. وعبر عن خلاصة دراسته: "إذا كنت تبكي مرة في الأسبوع، يمكنك أن تعيش حياة خالية من التوتر".

أنواع البكاء

تتعدد أنواع البكاء فمنه بكاء الفرح، ومنه بكاء الشفقة والرحمة، ومنه بكاء الاحتياج كبكاء الأطفال، ومنه بكاء الحزن، ومنه بكاء الخداع، ومنه بكاء الضعف والتوسل كما في الدعاء، ومنه بكاء العاشقين كما ذكر ابن حزم في طوق الحمامة.

هل يبكي القادة؟

نعم، يبكي القادة في الوضع الطبيعي في العلن وقد بكى صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة عند سماعه للقرآن الكريم، وعند زيارته للمريض، وعندما مات ولده إبراهيم وغيرها، على أن القائد في الأزمات ينبغي أن يبكي في الخفاء حتى لا ينعكس أثر البكاء على الأتباع فتضعف الهمم وتخور العزائم.

هل النساء تبكي أكثر من الرجال؟

لم أطلع على دراسة ثابتة حول هذا الموضوع إلا أن بكاء النساء في مواطن العاطفة  والرحمة مشهورة، وذاك ربما يعود للحنان والعاطفة التي فطرت عليها، وبما تتناسب مع وظيفة الأمومة التي تميزت بها عن الرجال. وقد اشتهر أثر أبو مريمَ السلوليُّ عندما قالَ: إنما يبكي على الحبِّ النساءُ!

نتيجة للدراسات التي ذكرت بعضها آنفا، والتي توضح أن البكاء عند التفاعل الإنساني نتيجة طبيعية لجسم سليم، ولمشاعر فطرية، ولقلب حي لين، لامس الألم والشفقة والرحمة فينا، وهو ضرورة لأنه في الغالب يعبر عن الجانب الصادق في الإنسان، ويؤدي إلى عدم الكبت بل إلى تنظيم الأفكار والمشاعر، ويؤدي إلى تحسن الصحة نتيجة فرز الهرمونات وتفاعل الجهاز العصبي، ويشير إلى تقدم الجانب المعنوي الإنساني على الجانب المادي، ويجدد العزيمة نحو قرارات جديدة وجيدة تنعكس على المجتمعات بالتكافل والرحمة. 

مصداقه ما قاله صلى الله عليه وسلم عندما فاضت عيناه بعد رؤية حفيده ميتا: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء!