يوم الجمعة 4 أيلول/سبتمبر 2020 الموافق لـ 16 محرم 1442هـ، استضاف أ. شمس الدين حميود معدّ ومقدم برنامج ساعة فكر المفكر عبد الكريم بكار لمناقشة دور الوعي التاريخي في التقدم الحضاري، وفيما يلي التفريغ النصي للمحاضرة الحوارية. 

إن مفهوم التاريخ تناوشته عديد الرؤى وكان عند كثير من الناس مجرد أحداث عفا عنها الزمن إنما تذكر للاستئناس لا باعتبارها مدارا للبحث، غير أن ثلة من المشتغلين بالتاريخ على مدار السنوات قد أدركوا أن له روحًا، وأن لوعي التاريخ عناصر تجتمع لتصنع الحدث التاريخي، كالزمان والمكان والمعادلات الثقافية والاجتماعية وحتى الاقتصادية والسياسية، لأجل هذا كان موضوعنا حول "الوعي التاريخي" للإجابة عن تساؤلات قد تطرأ على عقل كل مسلم، فما هي مشكلات العقل المسلم في التعامل مع التاريخ؟ وما هي مزالقُ النظر إلى تاريخ الأمة الإسلامية وأوطاننا بمنظور القداسة أو بمنظور التسفيه؟ 
وما هي الأدوات التي تساعد الشاب المسلم على بلورة الوعي التاريخي وإبقاء حسّه النقدي يَقظًا؟ وكيف نجعل من التاريخِ أداةً من أدوات تحليل مجريات الواقع وتحقيق التقدم الحضاري؟ 

ونتشرف في هذا اللقاء باستضافة المفكر د. عبد الكريم بكار من سوريا أحد المؤلفين البارزين في الفكر الإسلامي، حيث يحرص على تقديم طرح تجديديّ مؤصل لمختلف القضايا ذات العلاقة بالحضارة الإسلامية والنهضة والفكر، فأهلا وسهلا بكم مفكرنا الكريم وتفضل مشكورا. 

«في ظّل محاولات امتلاكه»..هل التاريخ حُجة مُطلقة؟

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم، بما أن موضوعنا اليوم يتكلم عن الوعي التاريخي فإنه من الواجب أن نعرجَ على تعريف بسيط للتاريخ: 

تعريف التاريخ: 

 يمكننا القول أن "التأريخ" هو عملية كتابة التاريخ، أي ذلك الجهد الذي يبذله المؤرخُ في توثيق وقائع التاريخ، أو ما يراه جديرا للكتابة في هذا السياق. 

أما "التاريخ" من دون همزة فهو السجل الذي أودَعَ فيه المؤرخون اجتهاداتهم بما ينبغي أن يكون وقائع حدثت بالفعل في الزمن الماضي، والمؤرخ ليس مطالبا بتسجيل كل شيء، بل ينبغي عليه فقط تسجيل ما يراه جديرا بالعبرة والحكمة وذي أهمية للناس. 

والتاريخ لا يحمل لنا الحقائق المطلقة وذلك بسبب أن كثيرا من الأحداث التاريخية كانت غامضة تحتمل عدة تفاسير وروايات مختلفة على المؤرخ أن يُرَجِحَ إحداها أو أجزاء من تلك الرواية التي تسرد واقعة ما، كما أن التاريخ ظل مشوبا بعدد من الأساطير والخرافات، بالإضافة إلى المآرب والمقاصد السياسية والحزبية التي تقف خلف عديد من الأعمال التاريخية، ولا ننسى الأوهام والأخطاء والإضافات التي وضعت سهوا من قبل بعض كتبة التاريخ، هذا كله يجعلنا في سياق المحاولة للاستدلال بالنص التاريخي دون منحه التقديس والنظر إليه على أنه حجة مطلقة. 

والمؤرخ غير المحدث فهو لا يحفظ الشيء ليؤديه بالسند المتصل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يجتهد في تكوين صورة يعتقد أنها أقرب إلى الحقيقة وهذا في أحسن الأحوال، وخلال تكوين هذه الصورة قد يبلغ ما يريد وقد لا يبلغ، لأنها عملية اجتهادية والمجتهد يصيب ويخطئ، وأنا حقيقة لا أعرف في ظل الجيوش الإلكترونية التي تسخرها الدول وبعض الأحزاب والجماعات. 

وفي ظل هذا الفيض الهائل من الأقلام المأجورة التي تزور الحقيقة وتبث الخديعة، وفي ظل البرامج الدعائية، لا أعرف كيف يمكن للمؤرخ تصوير الرأي العام السائد لتطلع عليه الأجيال القادمة، بذلك باتت عملية التأريخ لما نحن فيه الآن شديدة التعقيد تحتاج إلى مخاطرة كبيرة ووعي واحتراز كثير. 

تكمن أهمية التاريخ في أن الاطلاع عليه يلبي حاجة غريزية لدى الإنسان، ولأن فهمه يشكل جزءً مهما من فهمنا لقضايانا، يكون من المستحيل علينا أن نفهم شيئا منها دون فهمه، حتى الشركات عندما تهُم بتوظيف عامل تطلب منه سيرة ذاتية، فيروي لهم مراحل تعليمه وشهاداته والدورات والخبرات، فهم يقرأون بذلك تاريخه ليعرفوا من هو، فيما ينفع وفيما يضر، وكيف يمكننا استخدامه استخداما أمثل ... وجهودنا في معرفة الماضي هي جزء من الهجوم الذي يقوم به الإنسان على المجهول الذي لم يكتشفه بعد. 

يمكننا القول أن هناك صراعا مكتوما خفيا، ويظهر في بعض الأحيان مداره الأول وهو امتلاك التاريخ، لما له من هيبة ونفوذ، لأنه مرجعية شئنا أم أبينا، حتى القبائل والدول التي ليس لها تاريخ تحاول أن تصنع لنفسها تاريخا بطريقة أو بأخرى، وأن تصل أنسابها وأصولها بشيء معروف على قدر الإمكان، لذلك ينطوي هذا الصراع على محاولات لتزوير التاريخ والتلاعب به، كل ذلك ليثبت كل طرف أن التاريخ في صالحه. 

كيف نفهم التاريخ الفهمَ الأمثل؟ 

أهم ما نحتاج إليه في فهم التاريخ: 

1.فهم الإنسان

 سلوكه وغرائزه، كيف يتصرف في حالة الضعف؟ كيف يتصرف إذا امتلك؟ كيف يصبح في وقت الشِدّة والهزيمة؟ وكل ما يتطلب فهمه في الطبيعة البشرية سواءً كان مفردًا أم في جماعات. والحقيقة أن محور الكون في الشريعة الإسلامية هو "الإنسان" لذلك كان ثلث القرآن الكريم ومعظم النصوص النبوية حول الإنسان من أجل فهمه وتزكيته. 

2.فهم السُنَن الرّبانية في الخلق

 هي لغة الكون ونحن بحاجة إلى معرفتها لكي لا نصادمها ونتعامل معها بموضوعية ومنطقية، ولعل أعظمها وأحبها هي سنن الله تعالى في الإنسان فردًا أو جماعة. 

في ظل هذين الفهمين للإنسان وللسنن الربانية في الخلق نستطيع فهم التاريخ فهما أمثل.

أما بالنسبة للاتِّعاظ بالتاريخ والتذكر له والاعتبار به، فهذا لعدد ضئيل من الناس من أولي الأبصار، فليس كل من يعرف السنن ويفهم الطبيعة البشرية، يحوز على الوعي الكافي الذي يجعله يتعظ ويعتبر من التاريخ.

 والأمثلة كثيرة للذين فهموا وعرفوا وما لَزموا فلم يكن لهم نصيب حَسنٌ من السيّر والأخبار التاريخية، وكثيرون ممن اطلعوا على التاريخ ولم يستفيدوا شيئا، تراهم يهيمون في وادٍ آخر مخالف لمَا قد يبديه ويوضحه التاريخ للمطالعين، بسبب سيطرة أهوائهم وشهواتهم عليهم. 

«تحويل الماضي إلى قوة فكرية روحية».. ماذا نريد بالوعي التاريخي؟ 

قد يعلمنا التاريخ أمورا عديدة مهمة مثل نجاعة بعض الأساليب الإصلاحية، نتعلم منه أيضا ما يترتب عن الظلم والاحتقان الاجتماعي من أضرار، كذلك نتعرف من خلاله على آثار بعض الإجراءات والقوانين مثل الحكم اللامركزي والبيروقراطية.

كل هذا نتعلمه من التاريخ ونستدرك به الأخطاء الفائتة، نستطيع التدقيق في مدى إيجابية أو سلبية السلوكيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومن خلاله أيضا نكتشف العلاقات الجدلية بين الأشياء، كالعلاقة بين الدين والدولة والسياسة، والعلاقة بين المال والأخلاق، والعلاقة بين العقل والعاطفة، والعلاقة بين الفقر والتمرد، والعلاقة بين العلم والتماسك الاجتماعي.

فنحن نريد من الوَعي بالتاريخ تحويل الماضي إلى قوة فكرية روحية لإصلاح الحاضر والتخطيط للمستقبل، وعندما نتكلم عن الوعي نحن نقصد التفكير في أسلوب تعاملنا مع الماضي لنتمكن من خلاله الإدراك العميق لأحداث الماضي ولتأثير الإنسان وتأثره بها.

ما هي مرتكزات الوعي التاريخي؟   
 1-التَشوق إلى السلطة (الصراع على الحكم)

 وهو مفتاح مهم من مفاتيح فهم الحدث التاريخي، في ظله تنكشف عدة حقائق وتُفسّر عدّة معطيات، وجدير بالإشارة أن السّعي إلى السلطة ليس في كل الأحيان شرا، بالعكس هناك من يسعى للسلطة من أجل خدمة الفكرة الفاضلة، وتحسين المجتمع، والنهوض بالدولة، وهو حق دستوري مشروع لكل مواطن وفق ما يصفه القانون، ونبيّ الله "يُوسف" عليه السلام طلب المسؤولية حين قال: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"، وليس في ذلك عيب أو حرج.

وفقهاؤنا يقرون هذا، بل في بعض الأحيان عندما يكون هناك شخص ما مجتمع عليه بأنه هو الأنسب والأليَق لهذه المهمة وإذا ما لم يستلم سيحصل فساد عميق، ربما تصدر فتوى بوجوب تسلمه لذلك المنصب. وأنا أقول هذا حتى لا يفهم أن التشوق إلى السلطة أمر سيء دائما، رغم أنه غالبا ما كان هو السبب لدفع الإنسان نحو تصرفات غير شريفة، لكن السعي وراء السلطة من أجل الإصلاح ودرء المفاسد أمر واجب وهو من صميم فكرتنا الإسلامية، وإلا لمَا كان من بين السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم القيامة كما جاء في الحديث "الإمام العادل". 

تأثر الفكر الإسلامي بالفكر اليساري في منتصف القرن العشرين بإعطائه أهمية مبالغ فيها للدولة بسبب اجتياح النظم الشمولية لأجزاء مهمة من العالم، وفي هذا ما هو سلبي وإيجابي، أمّا ما هو مذموم فيتمثل في التعجل للوصول إلى السلطة، وحرق الأشواط، والانشغال بالوصول إليها عن التعليم والتربية والدّعوة. لكن إذا كان هناك توازن بنسبة 90% على سبيل المثال تهتم بالإصلاح الاجتماعي، و10% نذرت نفسها للنضال السياسي فهذا ليس خطأ.

 والسياسية ليست نجاسة، والشيخ "محمد عبدو" غفر الله له عندما قال "لعن ساس ويسوس وسائس" لم يكن مصيبا في ذلك. 

 من أجل السلطة بقطع النظر عن النية الكامنة لامتلاكها وحسب الواقع يمكن للمرء أن يقتل أخاه أو ابنه، أن يغدر بأبيه وهذا مثبت تاريخيا، إنما نريد أن نبرهن أنه من التسابق نحو السلطة والتسلط مفتاح من مفاتيح فهم التاريخ، على حدّ قول الإمام الشهرستاني: "ما سُلّت السيوف ولا أريقت الدّماء في أمر كما أُريقَت في أمر الإمامة (ويقصد بها الخلافة أو السلطة)". 

والسلطة ليست سياسية فقط فقد تكون إدارية أو قضائية أو سلطة القبائل والعشائر... وغيرها من مناصب التكليف. 

2- الجمع بين إثبات الوقائع التاريخية والتحليل

القيام بعملية التأريخ والتحليل مزلة أقدام ومضلة للواقعة التاريخية بقصد أو بغير قصد، فعمل المؤرخ ليس تحليل التاريخ بل تصوير الوقائع كما حدثت قدر الإمكان دون التطرق إلى الأسباب والنتائج وتفسير الصراعات والانحياز إلى طرف دون الآخر، لأن تحليل وتفسير الوقائع يعني بالضرورة تسخيرها لدعم مذهب معين، وهذا الأمر وقع فيه معظم المؤرخين.

 وبالتالي فهذه نصيحة موجهة للمجتهدين في كتابة التاريخ: "لا تجمعوا بين تدوين الوقائع التاريخية وتحليلها وتفسيرها وتأويلها، لا بأس أن تأخذ واقعة تاريخية مثبتة من قبل وتقوم بتحليلها ومناقشتها، وليس لك حق إثبات واقعة غير مثبتة وتحليلها ووضعها في قالب يدعم فكرتك فهذا في الحقيقة زلة قدم وضلال تاريخي، ومن الخطأ أيضا أن يكتب التاريخ أولئك الذين ساهموا في صناعة أحداثه، لأن الناس قد جُبلوا على بيان محاسنهم وتبرير أخطائهم". 

 3-السلطة المطلقة وانعدام الرقابة: 

كلما منحنا الناس سلطات أوسع زادت الإغراءات أمامهم في استخدامها وبشكل أكبر وأكثر طغيانا، والاستبداد بها وإساءة استخدامها إلا قليلا من البشر، لذلك قالوا قديما "السلطة المطلقة فسادٌ مطلق" وقال الله تعالى:"إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"، لذلك فإن السلطة التي لا تخضع لرقابة وقضاء يسائل ويحاسب الظالمين ستكون حتما سلطة طاغية مفسدة جائرة.

أما اليوم فالعالم يدعم مبدأ الفصل بين السلطات خاصةً في الدول الحرة، فتعمل كل سلطة على حدة وتقييد السلطة الأخرى وفق ما يتماشى مع المصلحة العامة. 

4- لا يمكنك أن تقيم نظاماً معصوما من الفساد

 تبقى كل الأنظمة التي يضعها البشر قاصرة قصورا يناسب طبيعة البشر الذين أشرفوا على برمجتها، حتى الشريعة الإسلامية لم تضع قانونا خاصا أو نظام حكم معين ولم تحدد عدد الوزراء ولا صلاحيات الرئيس، بل جاءت بالقيم كالعدل والنهي عن المنكر والشورى، لأن النظم متغيرة وفق ما تقتضيه الظروف.

 ونحن كبشر يستحيل أن نضع نظاما مثاليا خاليا من الفساد لأننا نحن البشر نتعامل بتفكير محدود، ولا نعلم الغيب، والنظم في النهاية ليس الخلل فيها عند التشريع والدسترة بل عند التطبيق والإسقاط على الواقع.

 لأن النظام يحتاج إلى من يُشغله ومن يراقبه، وكل هذا يقوم الإنسان، وبالتالي فإن عملية الأتمتة التي تنتشر مؤخرا بشكل واسع تساهم كثيرا في الحد من الفساد، فكلما أعطينا مساحات واسعة للإنسان ليتصرف بها كلما ازداد الفساد، لذلك الشريعة الإسلامية لم تضع تفاصيل للنظم، فهي بحاجة مستمرة للتطوير والصيانة. 

فكرة الانتخابات وتحديد عدد سنوات العهدة، تنبع من أن أي حزب أو جماعة تطول فترة حكمها تفسد بتمدد الصلاحيات وارتفاع الرفاهية والمصالح وفساد العلاقات. 

 5- لا يمكنك معاداة التيّار العام للتاريخ 

 في كل مرحلة من مراحل التاريخ تكون هناك أفكار جوهرية سائدة، وعلى كل من له أحلام وأمنيات وخطط سياسية أو تجارية، عليه أن يجعلها على نحو ما غير مصادمة للموجة التاريخية السائدة، أحد المفكرين قال: "فكرة آن أوانها جيوش لا تهزم". اليوم مثلا فكرة التحرر والعدالة والمساواة أمام القانون واستقلالية الفرد، هذه هي أفكار الموجة التاريخية الحالية، وكل من يقف بوجه هذه الأفكار مهما طال صموده سينكسر لا محالة لأنه يعادي التيّار التاريخي الغالب.

 وخير مثال على ذلك ثورات الربيع العربي، التي مهما خمدت سيندلع لهيبها من جديد لأن الذاكرة التاريخية مملوءة بأفكار العدل والحرية والكرامة التي هتفت بها هذه الثورات.

 كذلك هو الأمر بالنسبة للمطالعة، حيث أن الناس انصرفوا إلى مطالعة كتب الإدارة والتنمية البشرية والروايات، في مقابل أنه لا أحد يهتم بكتب التراث، ولا أحد يستطيع ردّهم إليها، لأنها موجة تاريخية. 

 6-كلما ابتعدنا عن الحدث التاريخي تلاشى تأثيره وتحول إلى معنى رمزي ذا تأثير معنوي فحسب.

كغزوة بدر التي نصر الله -عز وجل- فيها رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضوان الله عليهم- كان وقع الحدث ذلك الوقت أكبر بكثير منه الآن، حيث كان النصر فيها مفصليا فإمّا أن ينتصروا وإمّا يزول الإسلام من على وجه الأرض، وكلما زادت التقنية في حياتنا قلّ تأثير الحدث، لأن التقنية تصنع تغيرات هائلة بسببها تزداد الهوة بين الماضي والحاضر، فعلى سبيل المثال في يومنا هذا ما الذي يفيدنا إذا كان معظم الأطباء والمهندسين والفيزيائيين في القرن 16م كانوا مسلمين! حتما لن يقدم هذا الأمر ولن يؤخر شيئا في مجالات الصناعات الطبية والفيزيائية، وسيبقى مجرد رمز معنوي نفخر به لا أكثر ولا أقل من هذا. 

«مغزى الحوارات التاريخية».. كيف ندير الصراع على السلطة؟ 
هناك عديد من الأحداث التاريخية التي لم يفصل فيها الأولون ولم يتفق في أحداثها المؤرخون فيجعلها البعض مادة جدلية لإذكاء الفرقة لا لاستنباط السنن، فما هي نصيحتكم للشباب عامة عند الخوض في الأحداث التاريخية التي يتكرر الجدل حولها؟ 

 أول ما يمكننا قوله للإجابة عن هذا السؤال قول الله تعالى: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون"، وقد أفضوا إلى الله تعالى هو وحده من له سلطان لمحاسبتهم، فلا نخسر نحن علاقاتنا ببعض، كالذين يتجرأون على سبّ الصحابة الكرام وهم يعلمون أن فعلتهم هذه ستفسد العلاقة مع العالم الإسلامي من أجل صراعات تاريخية فهذا لا ينبغي ولا يحسن، وإن فعله غيرنا فنحن نترفع عنه.

 وبالعودة إلى الارتكازات التي تبني الوعي التاريخي نجد أن المغزى من الحوارات التاريخية جدلي، فلا داعي لأن نتشاجر وتتجادل على أمر فرّق بين الأولين واختلف فيه السابقون.

والصراع على السلطة على وجه الخصوص يعطينا وعيا حول كيفية إدارة هذا الصراع، فمن الممكن أن يصل الأمر إلى القتال والحروب الدامية، وبما أنه حادثة تاريخية كما سلف ووضحنا حتمية الحدوث لماذا لا نتفق على إدارته سلميا قبل فوات الاوان، وأول مراحل إدارة الصراع هو الاعتراف بوجوده، ثم الاتفاق على نقاط مشتركة تتيح حلولا سلمية بين الطرفين، وأن نبتعد عن تخوين الشخصيات التوافقية التي تجمع الناس تحت راية واحدة، وأن ندرك أن السياسيين بشر وليسوا ملائكة ولهم إكراهات تواجههم، فلنلتمس لهم الأعذار، كي لا يبقى الشعب يتيما دون شخصية تجتمع عليها مختلف التوجهات والأحزاب، فينزلق بنا الأمر الى الصراع والانقسام. 

البحث عن منقذ الأمة صاحب الحلول لكلّ مشاكلنا! 
في ثنايا حديثك، لفت نظري فكرة التركيز على النظام والمؤسسات والابتعاد عن عقلية الفرد الأوحد والقائد الفذ، ألا ترى أن النفسية العربية المسلمة المعاصرة تميل ميلا عظيما نحو نموذج المنقذ والمخلص، وتتمسك بحكم الفرد دون الأنظمة والمؤسسات؟ 

أولا هناك فرق في أن نقول أن هذا من طبيعة العرب وأن هذا ثقافة مجتمعية، أنا أقول أن البحث عن المخلص والمنقذ لهذه الأمة وصاحب الحلول لكل مشاكلنا ليس طبيعة بل ثقافة، والفرق بين الطبيعة والثقافة أن الطبيعة يصعب تغييرها لأنها جينات وراثية تنتقل عبر الأجيال، أما الثقافة فهي مجموع الأفكار والتأثيرات التي تخلفها الأحداث والآراء وهي سهلة التغيير والإصلاح، ويجب علينا أن نغير هذه الثقافة، لأن العالم مؤخرا قد خلص إلى أن حكم الفرد آخره البوار، حتى الجماعات يجب أن تكون لها نظم حتى إذا مات قائدها لا تموت معه الجماعة. 

الحديث عن الوعي التاريخي لابد أن يقودنا إلى تأثير الحدث التاريخي ومدة زواله، وقد ذكرت ذلك في المرتكز الخامس وعلاقة الثورة التقنية بالحدث التاريخي، يتساءل كثيرون عن الإنجازات التاريخية، أرمزية هي أم ذات تأثير؟ وهل الاتكاء عليها مورث للاتكال والبكاء على الأطلال، دون التوجه لصناعة حدث آخر؟ 

نعم أنا قلت أن الحدث التاريخي كلما ابتعدنا عنه يصبح تأثيره رمزيا، لأن الظروف المحيطة بنا الآن غير الظروف التي أدت لصناعة الحدث، وصناعة الظروف تخضع لتغيرات تلك الفترة، لذلك أنا أدعو للمشاركة في صناعة التقنية والتحكم فيها وفق ما تقتضيه مبادئنا لأنها ستقود ثورة للتغيير والتأثير بدل الأحداث التاريخية. 

تنمية الحس النقدي والتاريخ لا يُكرر نفسه! 
كيف نحُد من تأثير التزوير والنسخ في الأحداث التاريخية، وتقليل مقدار التشويش؟ وما هي درجة الوعي المطلوبة بالنسبة للشاب المقبل على القراءة في التاريخ ليتمكن من معرفة ما يصدق وعلى أي أساس؟ 

التاريخ مهم جدا ويقدم لنا معلومات مهمة جدا لكن لا تمنحه القدسية، فليست كل رواية تاريخية حقيقة، بل علينا إطلاق العنان للحس النقدي، وليس من الحكمة والمنهجية أن تأخذ مرجعا تاريخيا وتقرأ منه كل يوم عشر صفحات وتظن أن كل ما تقرؤه حقيقة، الأفضل من هذا أن تقرأ في الدراسات التاريخية، كأن تقرأ عن الفقر في زمن العباسيين، أو النزاع عن السلطة أيام الدولة الأموية، أو المدارس التي بنيت في عهد نور الدين الشهيد مثلا ... فنأخذ الدراسات التي حققت ومحّصت الأحداث التاريخية، وحتى هذه الدراسات لا يجب أن نأخذها بعين القدسية لأنها قد تكتب بنية الانتصار لرؤية معينة على حساب رؤية أخرى، فتنمية حاسة النقد التاريخي عند دارس التاريخ أمر مطلوب وأساسي للتعامل مع الأحداث التاريخية. 

إسقاطات الشواهد التاريخية على واقعنا الحالي، هل تشير إلى أن "التاريخ يكرر نفسه"؟ 

التاريخ لا يكرر نفسه، فقد تحدث وقائع وأحداث فيزيائية وكيميائية وعادات وتقاليد مجتمعية مع الأيام تمنع تكرار الحادثة التاريخية، وبالتالي فإن التاريخ لا يكرر نفسه، لكن سنن الله تعالى في خلقه هي التي تتكرر، وهو ما يتجسد في مضامين وأحداث متكررة، بمظاهر مختلفة.