"كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل «ورقة المآلات»، فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله، فإن ما كتبتُهُ قبل «ورقة المآلات» يستحق اللوم والتقريع، وأنا أبرأ إلى الله من كلّ حرفٍ خططتُهُ قبل ورقة «مآلات الخطاب المدني»، وأُحذر كل شاب مسلم من أن يغتر بمثل هذه المقالات التي كنتُ فيها ضحية الخطاب المدني المعاصر الذي يغالي في الحضارة والتسامح مع المخالف".
بهذه العبارات المجملة خط الشيخ إبراهيم السكران الحد الفاصل بين منهجين مختلفين في التعاطي مع النص الديني وغائية الوجود، فكانت بمثابة اعلان البراءة وإقرار التوبة والانتقال من الفسطاط الحداثي للفسطاط الإسلامي مع ما سيليها من كتابات ومقالات تذود عن العقيدة، وتدفع التّهم عن الدين وتحول دون الطعن فيه، بتقنيات المناقشة وأدوات المجادلة مستحضرة النفس القرآني التدبري الذي لا تُخْطئه عيون قراء كتب الشيخ الزاخرة بالاستنباطات القرآنية، والردود الإيمانية. 

«بسبعة مؤلفات في ثمانية أعوام».. كيف صنع السكران أنموذجا تأصيليا مُنفتحا؟

أبو عمر إبراهيم بن عمر السكران المشرف الوهبي التميمي، محامي سعودي وباحث ومفكر إسلامي، له اهتمام بالفلسفة والحداثة والمذاهب الفكرية والعقدية؛ حاصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود، والماجستير في السياسة الشرعية من نفس الجامعة، وكذا الماجستير في القانون التجاري الدولي من جامعة إسكس بمدينة كولشيستر البريطانية. 

 

له مؤلفات بارزة ذاع صيتها وعم نفعها، تمتاز بسهولة اللغة، ورصانة الألفاظ وبديع المعاني، كانت على الترتيب «مآلات الخطاب المدني» (2007). «الطريق إلى القرآن» (2012). «مسلكيات» (2014)، «رقائق القرآن» (2014)، «سلطة الثقافة الغالبة» (2014)، «التأويل الحداثي للتراث» (2014)، «الماجَرَيات» (2015). إضافة إلى عشرات المقالات والرسائل و الجوابات على شبكة الإنترنت؛ جُلها في موضوعات شرعية وفكرية واجتماعية يتجلى فيها ذلك النفس القرآني التدبري المذكور آنفا، كما لا يغيب عن أنظار المتابعين ملاحظة التأثر البالغ بالتراث التيمي واستحضاره والاستشهاد به في غير موضع واحد. وفي هذا السياق يصفه الباحث المصري عمرو بسيوني فيقول: «السكران نموذج خاص من العمق التأصيلي الشرعي بمعناه الفني التقليدي، مع الانفتاح على الواقع الغربي وأسسه النظرية والفلسفية، مع حرارة إيمانية وحركية حاضرة باستمرار في أطروحته»، إلى أن يقول «وهو لون متفرد في واقعه المحلي السعودي، وقليل في الواقع الإسلامي».

اعتقل في ماي 2016 ليتم الحكم عليه بعد مرور سنة من الاعتقال بخمس سنوات سجنا نافذا جراء مواقفه من الوضع العام والسياسات المنتهجة من قبل "ولاة الأمر".

من مآلات التصعيد الديني إلى مآلات الخطاب المدني .. القرآن محلُّ التأمل المنظّم فحَاكمٌ للتصورات

مع نهاية سنة 2003م، كان موعد الإصلاحيين السعوديين مع مؤتمر الحوار الوطني الثاني بمكة المكرمة، والذي جلب فيه الشيخ السكران الأنظارَ رفقة الباحث والقاضي السابق عبد العزيز القاسم بورقة بحثية مصادمة تحت عنوان «المقررات الدراسية الدينية: أين الخلل؟» في تلك الورقة النقدية خلص الشيخ إلى أن المناهج الدينية تشهد اضطرابا شديدا يموج بمحتوياتها، في قضايا جوهرية تمس طمأنينة الطالب، وحقوق المسلمين، وأصول التعامل مع غير المسلمين من أهل الكتاب والمشركين، وقواعد التعامل مع المعارف والحضارات، وهو اضطراب يخالف أصول الشريعة كما أنها لا تخلو من النزعات التكفيرية التي تضطرب بها الأذهان.

تلى ذلك تأليفه لكتاب جديد استمر فيه على نفس المنوال في نقد ما يسميه «التصعيد الديني» فكان العنوان «الخطاب التعبوي: تحليل مقارن لميكانيزمات التصعيد الديني»، دراسة الحالة السعودية حذر فيه من ما سماه مآلات التصعيد الديني.

غاب الشيخ إبراهيم السكران عن الأنظار ليعود سنة 2007 مع أعظم منتج فكري تشهده الساحة السلفية السعودية حسب تعبير الشيخ عبد الله العجيري، والذي تمثل في كتاب مآلات الخطاب المدني، فكان بمثابة بيان التوبة والعودة من الخط التنويري إلى الخط السلفي المعتاد، وقد أسس أفكاره على المشروع القرآني جاعلا النص حاكما على التصورات وممثلا لمرجعية حقيقية في البحث الفكري، وفي هذا يقول الشيخ السكران نفسه عن قصة الكتاب والملابسات والظروف التي ولدت ورقة البحث الأولى:

"في مطلع ربيع الأول 1428هـ، مارس 2007م، كانت الطائرة قد حطَّت بي وبزوجتي في نيوزيلاندا لأتم دورة في اللغة الإنجليزية، وكانت مدتها خمسة أشهر على حسابي الخاص، وحين بدأت الدراسة في المعهد وجدت نفسي بعيدًا عن معمعة التجاذبات الفكرية المحلية في المشهد الفكري المحلي السعودي في قرية صامتة خارج الوطن، لا تسمع فيها كل سادسة مساء إلا حفيف الأشجار، وكانت أدغال مهجورة، وكانت فرصة حقًا للتأمل المنظَّم، وخصوصًا أنني حين أعود من المركز وأنهي التكليفات المدرسية فإنه يتبقَّى لدي وقت طويل، فصمَّمت على أن أُعيد دراسة كل الملفات الفكرية التي عشت أسئلتها على ضوء القرآن، فابتدأتُ بالمصحف من الفاتحة إلى الناس، أقف عند كل مقطع وأتأمَّل ما فيه من الشواهد والإجابات على الأسئلة الفكرية التي أُثيرت في مرحلة سابقة، ثم أسجل الآية مع الإشارة إلى وجه الاستشهاد بها في ملف خاص، وبعد شهرين وصلت إلى خواتيم جزء عم وأنهيت المهمة. فبدأت بتحرير خلاصة النتائج، واستغرق التحرير زهاء أسبوعين وانتهيت من آخر حرف خططته فيها في 10 ذي الحجة 1428هـ، الموافق لـيوليو 2007م"[1]. 

بواعث المآلات.. «الخطاب المدني» في مواجهة أصول الوحي

مع تنامي صدى التحولات العالمية عشية وداع القرن الماضي، اشتغل الداخل الإسلامي بحركية فكرية حاولت استثمار التراكم الحاصل في الأطروحات التجديدية عبر الحاجة للاجتهاد ومشروعية المراجعة، هذه الحركية الفكرية كانت في مجملها تنطلق من العمق الإسلامي وتتحاكم للمعايير الشرعية وتحاضر في التجديد، رجاء تجويد أدبيات الإسلاميين وأنساق تفكيرهم وتحيين برامجهم واختياراتهم الفكرية والسياسية بما يخدم الداخل الإسلامي ولا يتعارض مع الحكم الشرعي.

غير أنه ما لبث أن تغير الحال غداة أحداث سبتمبر سنة 2001، فتغيرت معه نبرة الخطاب التجديدي وتنصلت من مقتضيات الانتماء وانتقلت لمعسكر المناوئين، هذا المعسكر الذي يمارس صراحة التحييد العملي لدور النص في الحياة العامة ويتبرم من الفتاوى الدينية واللغة الإيمانية، كما لا يتورع عن التصريح باعتراضات تعكس غبشا وضبابية حول أسئلة وجودية كبرى، دون إغفال استبداله لمرجعية الدليل بمرجعية الرخصة المطلقة، فترك أولوية تنمية الخطاب الإسلامي إلى حتمية الوشاية السياسية ضده. هذا الواقع الأليم يستوجب إعادة قراءته وتأمله ومن ثم تحليل الفروض الداخلية لهذا الخطاب الذي قادته لهذه المآلات الموحشة، فغاية ما ابتغاه الشيخ قياس علاقة هذا الخطاب المدني بأصول الوحي.

«التراث في قفص الإتهام».. هذه أبرز تنقلات الخطاب المدني!

 

اعتبر الشيخ السكران أن الخطاب المدني ومن خلال سيرورة تغيراته المؤلمة قد آل إلى حالة انقلاب معياري ومفاهيمي مست العناصر الجوهرية للرؤية الفكرية، "فقد تم إنزال التراث من كابينة القيادة إلى قفص الاتهام!"[2] ولم يعد يقبل منه إلا ما كان داعما ومؤكدا لمخرجات عصر الأنوار عبر القراءات المدنية بمفهومها المادي والتي لا يخفى كونها قراءات تم تحديد مبتغاها ومنتهاها قصد البحث عما يدعم المدنية المادية داخل النصوص التراثية، أما ما تعارض منها فيتم تأويله وتخريجه على بعض الأقوال الفقهية هنا أو هناك.

وحيث أن كل خطاب فكري ينطلق من فروض أساسية أو مسلمات ضمنية تتفرع عنها التطبيقات وتتحاكم إليها الإشكاليات، "فإن معرفة أصول الأشياء... من أعظم العلوم نفعا، إذ المرء ما لم يحط بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة"[3].

إذ لا يغيب عنا اجتهاد النقاد في تفسير نواة هذه التحولات المعيارية، بين من يرجعها للانبهار بالغرب ومن ينسبها للعقلانية أو الاعتزال، غير أن الشيخ السكران رأى أن المغالاة في قيمة المدنية والحضارة بتعريفها المادي هو ينبوع الغواية الفكرية والانحراف الثقافي الذي اكتنفته أربعة ظروف رئيسية شكلت أضلاع الوعاء الجوهري لتناميه، ألا وهي مناخ سبتمبر، والضخ الفرانكفوني "الذي يتصفح التراث بعدسات فرانكفونية"، وحفاوة وسائل الإعلام، ورد الفعل تجاه البغي الإلكتروني.

غائية الحضارة ووظيفة الإنسان.. بين المعنى المادي والبُعد التعبدي! 

إن سؤال وظيفة الإنسان هو المدخل الذي تعود إليه الاختلافات الجوهرية للاتجاهات الفكرية و التي تكاد تنحصر في اتجاهين رئيسيين، اتجاه مدني وآخر شرعي، فأما الأول فإنه يرافع عن أولوية الحضارة بمعناها المادي المجرد مع ما يصاحبه من رفاه بشري، وأما الثاني فينافح عن أولوية تحقيق العبودية بمعناها الشامل وما العمارة والحضارة والمدنية بمعانيها المادية سوى وسيلة لإظهار الدين وإقامة الشرائع والشعائر، وانطلاقا من هذا الاختلاف في تحديد الوسيلة والغاية ترتبت أغلب الفروقات والتأصيلات المتعلقة بتوصيف الحالة وسبل النهوض.

والحقيقة الصارخة التي يتلعثم الكثير في التصريح بها رغبة في كسب تعاطف النخب المثقفة اتجاه الإسلام أن الحضارة قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي وليست الغاية، والتساهل والاستخفاف بانقلاب سلم الأولويات مؤداه الزلل والخضوع فإن "ما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد"[4].

ثم إنه لمن المخجل حقا أن نورد شواهد القرآن في التأسيس لمركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا عبر تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة.

وبعد هذا العرض لوظيفة الإنسان وغائية الحضارة، يدحض الشيخ السكران الدعاوى التي يرددها غلاة المدنية حول معاداة الإسلاميين للحضارة، فيقرر الركائز الثلاث التي في استيعابها استيعاب للموقف الإسلامي المعاصر من الحضارة عموما والحضارة الغربية خصوصا، وهذه الركائز هي التمييز بين الحضارة كغاية والحضارة كوسيلة، بحيث تكون الحضارة موجهة بهدف تحقيق العبودية أولا، وثانيا التمييز بين الوجه العلمي والفلسفي والسياسي وأخيرا التمييز بين الانتفاع والانبهار وبيان عدم تلازمهما.

معارك تفسير النص.. «القراءة المدنية للإسلام» وخطابات الأنسنة! 

 في خضم التجاذبات الفكرية الحالية، تصدرت معارك التفسير لائحة السجالات الفكرية المعاصرة عبر محاولات الإجابة عن أسئلة تفسير النص وتفسير التاريخ وكذا الحديث حول النماذج التفسيرية وتقنيات التأويل، ومع فشل محاولات النقد الفارغ للقضايا المحسوم فيها شرعا ونصا كان لزاما على النخب الثقافية المأزومة مع الإسلام أن تبحث عن أساليب وتقنيات جديدة لخلق الفجوة بين القواعد الشبابية الإسلامية وبين النماذج التراثية الملهمة عبر خطاب الأنسنة والذي يستعمل في سياقي أنسنة العلاقات وأنسنة التراث، وفي هذا السياق يشير السكران إلى المدارس التفسيرية التي سيطرت على القراءة المدنية للإسلام ومرورها بمراحل ثلاث، انطلاقا من مرحلة المؤلف ومرورا بمرحلة النص ووصولا إلى مرحلة القارئ.