بداية من الجيد الإنتباه للفرق بين: (إقتصاد يعمل بصورة جيدة) وبين (مصانع تعمل بصورة جيدة)، فمنذ سنة 2003، كان الإقتصاد العراقي يعمل وينمو جيداً، ولكن الجميع يعلم، أن نموه كان نتيجة تصدير البترول، وليس نتاج عمل المصانع، ولذا يعتبر البعض أن الإقتصاد العراقي مشوهاً، وما زال في منطقة الخطر رغم كل معدلات نموه الجيدة.

بعد معرفة هذا الفرق البسيط، يصبح من السهل التطرق للخيارات المتاحة أمام رئيس الوزراء العراقي!

بصورة عامة هناك طريقين أو سيناريوهين، سيسلك رئيس الوزراء أحدهما:

السيناريو الأول: والذي يعتبر الخيار التقليدي للساسة العراقيين، وهو جعل الإقتصاد يعمل بصورة جيدة، من خلال تصدير البترول، ثم توزيع عائداته على شكل:

  •  زيادة التوظيف الحكومي ومنح الرواتب.
  • منح القروض المصرفية، سواء القروض الشخصية، أو قروض بناء المنازل.

وبالتأكيد فإن إتباع هذه الإستراتيجية ساهمت سابقاً، وستساهم مستقبلاً بنمو الإقتصاد العراقي حيث سيُقاس هذا النمو بمؤشر الناتج المحلي الإجمالي GDP.

ومن ثم، في نهاية الأربع سنين، سيتحدث رئيس الوزراء في مؤتمره الصحفي: أنظروا (الإقتصاد العراقي ينمو، إن الإقتصاد بحالة جيدة). ولكن أصبح من المعلوم أن نمو الإقتصاد، لم يأتي بسبب إزدياد إنتاج المصانع، بل جاء من الثروة البترولية التي تُستنزف.

والسؤال الآن: هل قروض البناء والقروض الشخصية، هي أمر سيء؟

حسناً، في الإقتصاد الأمريكي مثلاً، فإن إرتفاع مؤشر بناء المنازل يعد دلالة إيجابية على صحة الإقتصاد الأمريكي، لأن المنازل الجديدة تتطلب موادًا أولية وأثاثا وهذا ما سيجعل المصانع الأمريكية تعمل بصورة جيدة، أما في العراق فإن بناء المنازل سيُترجم لمزيد من الإستيراد الأجنبي، والمزيد من العجز التجاري... هذا أولاً.

ثانياً: إن منح القروض الشخصية وقروض البناء، سيزاحم القروض المفترض منحها للمصانع والمشاريع الإنتاجية، فالبنوك تفضل القروض الشخصية وقروض البناء، لأنها قروض مضمونة السداد، نظراً لأنها تُمنح بكفالة موظفين حكوميين، بينما القروض التجارية والرأسمالية، هي غالباً أعلى مخاطرة، و لذا تكاسلت البنوك عن إدارة المخاطر الإنتاجية، وإتجهت  للقروض المضمونة الإستهلاك.

التأثير الثالث: أن تقديم البنوك للقروض الشخصية وقروض البناء، يساهم بإرتفاع التضخم، وهذا دفع البنك المركزي العراقي لرفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، وبالنتيجة تحمل القطاع الإنتاجي في العراق فائدة أعلى على قروضه نتيجة الإنفاق الإستهلاكي. كرأي شخصي، فإن رئيس الوزراء سينحى بإتجاه هذا السيناريو السهل في تسيير عجلة الإقتصاد العراقي خلال المرحلة المقبلة.

السيناريو الثاني الأقل احتمالاً: وهو أن يتبنى رئيس الوزراء إستراتيجية أن (تعمل المصانع بصورة جيدة)، وهذا أمر جيد، ولكنه تحدي كبير أمامه، فالإقتصاد الذي ينمو بسبب عمل المصانع هو إقتصاد حقيقي منتج، وليس إقتصاد إستهلاكي ريعي قائم على تصدير النفط.

أفضل مؤشر لمعرفة أن رئيس الوزراء بدأ بتبني سيناريو (المصانع تعمل بصورة جيدة)، هو مؤشر سوق العراق للأوراق المالية، (ISX 60) يتألف مؤشر البورصة العراقية من 9 قطاعات (المصارف، التأمين، الإستثمار، الخدمات، الصناعة، الفنادق والسياحة، الزراعة، الإتصالات، التحويل المالي).

طبعاً إن لفظة "المصانع" هي مجازية، وهي يمكن أن تعني بصورة عامة المنشآت الفندقية، المصارف والمنشآت الزراعية والحيوانية، وشركات التأمين.

يمكن إعتبار هذا المؤشر أكثر صدقاً من مؤشر الناتج المحلي، وأن نمو هذا المؤشر يعني أن الشركات تنمو و ستحتاج لتوظيف المزيد من الأفراد، الذين سينتجون منتجات وخدمات حقيقية، يتم توفيرها للشعب وتصديرها للمجتمع العالمي.

عندما تعمل (مصانع العراق بصورة جيدة)، فإن استثمارات ضخمة ستتدفق لشراء أسهم هذه المصانع والشركات، ولهذا سينمو هذا المؤشر، ولكن ما حدث أن هذا المؤشر إنهار، فبعد أن كان في 2015 عند مستويات 1000 نقطة، أصبح اليوم يتداول عند مستويات 500 نقطة!

وبهذا فإن هذا المؤشر هو أفضل تعبير عن واقع الإقتصاد الإنتاجي في العراق، وهل هو يتجه للنهوض أم المزيد من الإنهيار. إن العودة بهذا المؤشر لمستوياته الحقيقية، وجعل (المصانع تعمل بصورة جيدة) يتطلب كبح جماح السيناريو الأول! ومن هنا إعتبرنا الأمر تحدياً لرئيس الوزراء الذي يُعتبر بمثابة الإبهام الذي يستطيع الوصول إلى جميع الأصابع وتنسيق حركة فريقه الإقتصادي وضبط إيقاع إستراتيجية العراق الإقتصادية.

إن الإنتقال من (الإقتصاد الذي ينمو) إلى (المصانع التي تعمل بصورة جيدة)، هي عملية تغيير، وأي عملية تغيير هي صعبة بطبيعتها، وتستغرق وقتاً وتتطلب تضحيات ودبلوماسية عالية، فهل سيسلك السيد المهدي طريق السيناريو الأول السهل ويعتمد على البترول، أم سيقبل التحدي وينهض بالمصانع العراقية؟! هذا ما سنراقبه خلال السنين الأربع القادمة.