يمثل الإنسان العنصر الأساسي في معادلة الحضارة حسب مالك بن نبي، وبالتالي فإن مجال التربية هو مجال حيوي وحساس في المشروع الحضاري إذ من شأنه أن يهيئ الإنسان للاضطلاع بدوره في عملية النهضة، لذلك اهتم المفكر الجزائري مالك بن نبي بالتربية ومن أهم أفكاره في هذا المجال:

1- التربية كإستراتيجية ضرورية للتغيير الإجتماعي

يَعْتبر المفكر الجزائري مالك بن نبي أن كل إصلاح لا ينطلق من تغيير الإنسان سيكون عقيما، معللا رأيه بالسنة الكونية المستمدة من القرآن الكريم إذ يقول الله تعالى (إنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [سورة الرعد الآية: 11]، كما أن المرض الذي يصيب الأمة يكمن سببه الأساسي في شخص الإنسان المسلم وهو ما يستوجب إجراء عملية جراحية تربوية له لتوجيه سلوكه نحو بناء الحضارة، لذلك يجب أن يقوم الإصلاح على إستراتيجية ورؤية تربوية، لا على تكديس القيم الأخلاقية والنظريات التربوية، ويجب أن تقوم هذه الإستراتيجية على ركيزتين أساسيتين هما:  

  •  معرفة معوقات التغيير ومن ثم تصفيتها وإزالتها، وذلك لقطع كل رواسب وموروثات الماضي السلبية وهو ما يعرف في التراث الصوفي بالتخلية.
  •  معرفة عوامل التغيير ومن ثم العمل على ترسيخها، وبالتالي تطعيم الثقافة بأفكار بناءة جديدة تصلها بالمستقبل وبالحياة الكريمة وهو ما يعرف في التراث الصوفي بالتحلية. 

وقد قام مالك بن نبي بتحديد العوائق وعوامل التغيير الأساسية في العديد من كتاباته ومن أهمها:  

  • تمزق شبكة العلاقات الإجتماعية.
  •  مرض الشيئية والتكديس.
  • غياب الفعالية.
  • غياب التخطيط.
  • القابلية للاستعمار. 
2- التربية على تقديم الواجب على الحق

يعتبر مالك بن نبي أن القيام بالواجبات يجب أن يتقدم على المطالبة بالحقوق في كل نهوض حضاري، حتى يتكون ذلك الفائض من العمل الإيجابي الذي يُمَكِنُ الحضارة من الإقلاع، وكان منهج الأنبياء والمصلحين عبر التاريخ شحذ الهمم إلى القيام بالواجبات لأجل الحصول على الحقوق.

 ولتحقيق ذلك لابد أن يُرَبَي الإنسان منذ صغره على هذا الجانب، ويضرب لنا في هذا السياق مثالا تربويا تطبيقيا عن كيفية تنشئة الطفل على المطالبة بالحقوق، فالرَضيع عندما يبكي للمطالبة بشيء ما ثم نعطيه إياه يربى على البكاء للحصول على ذلك الشيء، وهو ما سيترجم عندما يكبر بالاكتفاء برفع الشعارات للحصول على الحقوق والتباكي ورمي المسؤولية دائما على الغير. 

ويضرب لنا مثلا للقيام بالواجب وضعية الجالية اليهودية في الجزائر في فترة الاحتلال الألماني حيث منعت من حقها في التعليم، رغم ذلك شهدت تلك الفترة انخفاض نسبة الأمية لدى هذه الجالية وذلك بسبب ثقافة الواجب المتجذرة لديها، إذ هب المتعلمون لتعليم الأطفال تطوعا عوض التباكي والتنديد بفعل النازية.  

كما أن مالك بن نبي يرى أنه لغرس ثقافة الواجب يجب تعويد المسلم القيام بالأعمال، والمداومة عليها وإن كانت بسيطة، وهو ما يؤهله إلى تحمل المسؤولية، مما يجعله عنصرا فاعلا في عملية التغيير الاجتماعي وينقله من العبثية الفارغة إلى الفاعلية المنتجة.

3- ربط التعليم بالحاجات الاجتماعية:

يرى مالك بن نبي أن تعامل المسلمين مع العلم والتعليم يحكمه داء التكديس، ويظل غير مفيد للتغيير الإجتماعي لأنه لم تتم صياغته حسب ما تمليه الحاجات الإجتماعية التي تفرضها وضعية المسلمين في الدورة الحضارية، فالتعليم لا يكون إنسانا صالحا إنما يكون مجازا له مجموعة من المعارف والعلوم أغلبها لا يفيد في إصلاح الوضع الراهن، لذلك يرى بن نبي ضرورة إعادة النظر في مناهج التعليم، وإعادة صياغتها وفق هدف مركزي هو صناعة الإنسان الجديد، إنسان الحضارة، وذلك بالتركيز على بعث قيم الفعالية وتوفير أدوات الوعي بالمشكلات والأهداف العليا للمجتمع.

4- التربية على استغلال الزمن والتراب 

تقوم الحضارة حسب مالك بن نبي على معادلة الإنسان والتراب والوقت، فإن أي نهوض حضاري يستوجب تأهيل الإنسان حتى تصبح علاقته بالتراب والوقت قائمة على الفاعلية والإيجابية، وأول خطوة في سبيل ذلك هي توعية المسلم بأهمية الوقت وتأهيله إلى حسن استغلاله، "فإذا استغل الوقت أحسن استغلال، ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسَترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة".

"وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا، هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة، والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء، فالحياة والتاريخ الخاضعين للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهُما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا، ووقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباءً"

 ويرى ابن نبي أن الوسيلة الضرورية للفت نظر العالم الإسلامي إلى أهمية الوقت وغرس فكرة الزمن عمليًا في عقل المسلم هي التربية وذلك بغرس أهمية الزمن في نفسية المسلم، ويتم ذلك بتَعويده على تخصيص فترة زمنية يومية قليلة للقيام بعمل مفيد، وهو ما سينتج عنه بمرور الزمن عمل عظيم، وبالتالي يدرك المسلم قيمة الدقائق التي كان يهدرها ولا يحس بمعناها.   

"فينبغي أن نحدد التجربة المطابقة لمقتضى الحال لكي نعلم المسلم علم الزمن، فنعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يوميا لأداء واجب معين، فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية. 

وسيثبت هذا عمليا فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا ولم يضع سدى ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسَترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة." 

من ناحية أخرى يجب تربية المسلم على حسن إستغلال التراب، أي الأرض التي يعيش فيها لتحقيق المعادلة الحضارية الناتجة عن التفاعل بين الإنسان والتراب والوقت، إذ أن إصلاح الأرض يعد من شروط إقلاع المجتمع، "وإذا كانت الدراسات الاقتصادية لمشاكل العالم الثالث ترى أن الأرض هي الوسيلة الأصلح لتأمين (إقلاع) مجتمع ما يمر في مرحلته البدائية، ويتأهب للانتقال إلى مرحلة ثانوية كالصين الشعبية منذ عام 1951، إلا أننا نلاحظ أن أكثر الأراضي خصوبة توجد في العراق وأندونيسيا دون أن تمكن هذين البلدين من الإقلاع"، حيث تهمش الأرض في البلدان الإسلامية وهو ما يعيق تقدمها.

 "إن التراب في أرض الإسلام عموماً على شيء من الانحطاط، بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه" "ذلك أن الأرض الزراعية في بعض البلاد كالجَزائر مثلاً بدأت تتقهقر رويدا أمام غزو الصحراء، فكُثبان الرمال تمتد هناك حيث كان يوجد قطعان الماشية، والأرض الخضراء."

وعوض الحلول السهلة المتمثلة في النزوح والهجرة إلى الأماكن الخصبة والمدن يجب تعليم المسلم كيفية  

مجابهة الصعوبات الطبيعية وتحويلها من عراقيل إلى عوامل إيجابية، كما فعل الغرب بفضل ما وصلوا إليه من علوم كونية وإرادة حضارية: "إنهم وقفوا منه موقف الضعيف الجبان! لقد فر ساكن البادية، ذلك الرحالة الذي لم تبق له أرض يحرثها، ولا ماشية يحلبها، لم تبق له إِلا دابة يركبها ليفر، فهو الآن تائه حائر بين الصحراء التي تبدده، وبين المدن الساحلية التي ترفضه أو تبتلعه حيث تجعل منه إنسانا منبوذا."

ويتم ذلك عبر نشر ثقافة العمل والواجب وبالبحث عن السنن الكونية والعلوم التي تمكن المسلم من إخضاع الطبيعة وفهم قوانينها: "ومهما يكن من بدائية وسائلنا فإن علينا أن نعمل، فالعمل لازم لزوم دراسة طبيعة الأرض والمناخ، لن نستطيع إنقاذ ذريتنا من الأجيال القادمة إلا بالعمل الشاق الذي يقوم به جيلنا الحاضر، وعندما نحقق تلك المعجزة التي تكون بانتصارنا على أنفسنا"

5- غرس المبدأ الجمالي وتكوين الذوق العام للمجتمع:

تنتشر في كل مجتمع مجموعة من الأفكار والأصوات والأشكال والحركات والروائح منها الجميل ومنها القبيح، وكل هذه المظاهر يتمثلها الإنسان في ذاتيته شعوريا أو لا شعوريا، وهذا الإنطباع يؤثر على عمله وسلوكه سلبا أو إيجابا، "لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، لأن لمنظرها القبيح في النفس خيال أقبح" 

لذلك فإن غرس القيم الجمالية في المجتمع ستؤدي إلى تفعيل العمل الإيجابي والإحسان وتغيير السلوك نحو الأفضل، لذلك لا بد لكل مشروع تربوي أن يولي أهمية لهذا الجانب، فالهدف التربوي المنشود هنا يتمثل في خلق هذا الجو المنعش الجميل الذي يحمل الإنسان على التفكير المؤثر والعمل الفعال، ويبعد عنه التفكير السلبي والعمل العقيم.

6- تربية الإرادة:

يرى مالك بن نبي أن الإنسان المسلم اليوم بحاجة ماسة إلى تربية الإرادة لديه، لتَجاوز واقعه الثقافي والاجتماعي المتخلف، ودفعه في طريق تغيير هذا الواقع بما يتناسب ورسالته في الحياة بصفته إنسانا مكرما، وبصفته مسلما، فهذه الإرادة من شأنها أن تعينه على تحدي العقبات في طريقه نحو التغيير، وتشحذ فعاليته الحضارية، كما يجب تحطيم الحواجز الذهنية المنتشرة والمثبطة على العمل والتغيير وأهم هذه الحواجز التعلل بالجهل أو الفقر أو الإستعمار لتبرير عدم محاولة التغيير. 

7- تنمية الوعي:

يؤكد مالك بن نبي على ضرورة تنمية الوعي لدى الإنسان المسلم اليوم، بمعنى تنمية شعوره بالذات وبوضعيتِها ومصيرها التاريخيين، واستشعار واقعها الاجتماعي المتخلف وتبعيتها للآخر، وفي نفس الوقت إدراك خصوصيتها الثقافية وانتمائها الحضاري، مع معرفة إمكانياتها وقدراتها المادية والمعنوية المتاحة في إطار طبيعة الصراع الحضاري التاريخي.

 ويكون تربية الوعي بتغيير نظرة الإنسان لنفسه ولأحْداث التاريخ فيتَحدد بذلك موقفه ومسؤوليته إزاء وضعه المجتمعي ومصيره وبالتالي يتغير سلوكه نحو الإيجابية والبناء الحضاري، كما يؤكد أيضا على ضرورة إثارة وعي هذا الإنسان عن طريق بث وإثارة قلق الحاجة إلى التغيير، والدعوة إلى تجاوز الواقع الراهن وفي هذا الإطار يقول: "من أثر هذه الحالة في نفس الفرد أنها تحرمه الشعور بالاستقرار، بما يعتريه ويسيطر على مشاعره من قلق، لا يمكن دفعه إلا بتغيير الوضع، بتغيير الأشياء، بالوقوف أمام الحوادث لتوجيهها لغايات واضحة وقريبة من شعور الفرد".