معلوم أن الله خلق الإنسان ودعاه إلى إعمار الأرض، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة : 30] وقال أيضا (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )[هود : 61]، ووضع له تشريعات تضبط تواجده في هذا الكون وتنظم علاقته بخالقه وبنفسه وكذا بغيره من البشر أو سائر المخلوقات من النبات والحيوان وغيرها.

إن العبادات جاءت لأجل تحقيق الخضوع التام لله والطاعة المطلقة له عز وجل، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : 21]  وقوله عز وجل (وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة : 31] وهو مقصد تعبدي روحي، لكن الله عز وجل لم يشأ أن يترك الناس هملا يعيشون في الأرض محكومين بقانون الغاب (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77] وإنما سن تشريعات مباشرة لتحكم كل علاقات البشر، فجاءت آيات الذكر الحكيم مشتملة على حقوق الله على عباده وحقوق النفس ثم حقوق الغير وذلك أمر لا يحتاج إلى مزيد توضيح وبيان.

إن ما يعنينا في هذه الورقات هو ذلكم التباين الواقعي الذي يلحظه المراقب لتصرفات المسلم، فيكاد يتفق وباقي المراقبين على وجود هوة سحيقة بين الإسلام وتعاليمه وبين تمثلاته في الواقع. فينقدح السؤال الملح: ألم ينظم الإسلام واقع المسلمين كي يزدهر حضاريا؟

إن الجواب عن ذلكم التباين الملحوظ في واقعنا بين تعاليم الإسلام وواقع المسلمين اليوم يحتاج إلى وقفات وتنبيهات، أبرزها قضية أثر العبادات على الواقع وصلتها بالجانب الحضاري؟ أو إن شئت قل: متى تحقق العبادات أثرا حضاريا؟ وهي القضية المركزية التي تنطلق منها هذه الورقات.

يجمل هنا أن نقول إن العبادات فرضت أساسا لذكر الله وطاعته، مصداقا لقوله عز وجل (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه : 14] فهذا هو الأصل وما يذكر بعد فرع عنه.

لقد فرض الله ألوانا من العبادات على عباده وترتب عنها مقاصد جليلة تؤُول في أغلبها مآلا حضاريا، إلا أن هذا المآل الذي حوله دندن السابقون من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورامه المعاصرون لابد له من ضوابط تدفع إلى تحقيق ازدهار حضاري وما أحوج المجتمع إلى ذلك. وهذه جملة منها: 

أولا: أن تكون العبادة وفق الهيئة التي جاء بها الشرع؛ 

فلا يمكن لصلاة عارية عن الخشوع أو الاطمئنان أو الاعتدال أن تحقق مقاصدها، ولن تترتب عليها آثار حضارية، فكيف لشخص لم يلتزم بقواعد أداء العبادة أن يلتزم بما هو حضاري؟ وقد اعتاد التهاون ومخالفة القوانين. وعلى العكس من ذلك الأصل في المؤمن أن يؤدي العبادة وفق المطلوب شرعا فيسري في عروقه ويجري في دمه حب الالتزام بالقواعد والقوانين، فتجده من أشد المنضبطين للمطلوب في الواقع. وبذلك يرقى المجتمع حضاريا. 

ولا يخفى علينا في هذا الضابط حرص النبي على بيان هيئات العبادات، فعلى سبيل المثال نستحضر دعوته صلى الله عليه وسلم الأمة إلى اقتفاء أثره في الصلاة حين قال: "صلوا كما رأيتوني أصلي"، وحين قال في الحج: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي أَنْ لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ"، وعلى إثر ذلك كان قرآنا يمشي صلوات ربي وسلامه عليه.

ثانيا: أن يخلص العبد النية لله، فلا يؤديها رياء أو سمعة؛ 

وبذلك يتعلم المؤمن أن العمل يقوم به لوجه الله سواء كان عبادة أو عادة، فلا ينتظر العامل في مصنع أو متجر أو حرفة أن يقف على رأسه رقيب عتيد لا يفارقه ولا يبتعد عنه قيد أنملة، بل يدعوه إخلاصه الذي اكتسبه من القيام بالعبادات لوجه الله يدعوه إلى الجد والاجتهاد وبذل الوسع كما بذلها في الصلاة وسائر العبادات ولا رقيب عليه إلا الله. فيقترب بذلك من مقام الإحسان الذي قال فيه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ".

إنه مظهر حضاري راق لن تجد له مثيلا إلا عند المؤمن الحق المخلص عبادته لله المخرج من نفسه رقيبا على نفسه، وهو بذلك يقوم بواجبه المطلوب سواء حضر مراقبه أو غياب لأنه يعتبر العمل عبادة ويستحضر رقابة الله عليه؛ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : 4]. وهو والله ملمح نكاد نفتقده في مجتمعنا نظرا لغياب الإخلاص في عباداتنا فسرى ذلك إلى باقي تصرفاتنا. 

 

ثالثا: المداومة على العبادات وعدم استعجال أثرها على السلوك؛ 

فالعجلة من الشيطان، ذلك أن هذه العبادات تروم بناء الإنسان درجة درجة، رويدا رويدا كما يقال. فلا يمكن أن تُقوم سلوكَ الإنسان بين عشية وضحاها، وإنما لابد من المداومة عليها والصبر على أدائها يوما بعد يوم، كي يتشبع المؤمن بالقيم الحضارية الثانوية وراءها، فيجد نفسه معتادا على الصبر وهو خلق حميد من مقومات الحضارة، فلا حضارة ولا رقي دون صبر، ولا أثر بلا تأن وتؤدة. 

ومن ثمة فالشريعة الإسلامية لم تبرز كثيرا من نتائج العبادات بل جعلتها آجلة في الآخرة كي يبقى المؤمن يقظا مداوما على الأعمال غير مستعجل أثرها، فيترتب عن ذلك استمرار الإنتاج في مختلف المجالات دون انقطاع وهو ما يوفر نتاجا استهلاكيا يسد الحاجة المجتمعية ويديم النعمة على العباد. وهو كما تبين ملمح حضاري تساهم العبادات فيه إن التزمت باقي الضوابط.

 

رابعا: ألا يستهين بقليل العبادة؛ 

وهذا لعمري أمر جليل في جانب العبادات وكذا في الجانب الحضاري. فالشريعة كي لا تحمل الإنسان أكثر مما يطيق خففت العبادات ودعت إلى المدوامة عليها وإن قَلَّت. كما في حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ". وذلك ما يربي المؤمن على المداومة على أعماله؛ فيبدأ باليسير القليل كي يصل إلى مبتغاه، فالبناء لا يستوي قائما بلمسة واحدة، وإنما يتدرج فيه العاملون تدرجا يفي بالغرض. وذلك ما تُعلمنا إياه العبادات. فالذي يريد حفظ شيء ما، لابد أن يضع خطة يقلل المقدار المحفوظ ويداوم عليه، فيصل إلى مبتغاه، أما إن أخذ من اليوم الأول مقدارا كبيرا فربما مل وشعر بعدم القدرة فتوقف عن الحفظ، وتلك خسارة ما بعدها خسارة. وهذا نلاحظه في الذي يوغل في العبادات منذ الوهلة الأولى فلا يكاد يستقر له حال حتى تجده ارتد عن الدين أو رجع حال أسوأ مما كان عليه، ولذلك قال النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ".

فلابد إذن لكي تحقق العبادات مقصدها التعبدي ثم الحضاري لابد من عدم الاستهانة بالقليل كما أسلفنا.

 

خامسا: أن يحترم مواقيتها ومقاديرها وأماكن القيام بها؛

وهو ضابط مهم، فعدم احترام هيئات ومقادير العبادات يجعلها غير مقبولة عند الله، ومن ثمة يغيب أثرها الحضاري؛ خذ على سبيل المثال صلاة الجماعة واصطفاف المصلين في الصفوف أثناء الصلاة، فحين يحترم المسلم هذا الهيئة خمس مرات في اليوم بعدد الصلوات الخمس فإنه يكتسب سلوكا حضاريا جميلا؛ وهو حب النظام وحب الاتفاق مع الجماعة وعدم الخروج عنها ويكتسب أيضا خلق الرفق بإخوانه، كما في الحديث "أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنَّمَا تَصُفُّونَ بِصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا، وَصَلَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى". ويتجلى أثر مثل ذلك حضاريا بعد أثره الروحي التعبدي حين يجد أناسا قبله في محطة طرقية أو متجر أو أي مكان يجتمع فيه الناس، فإن هذا النوع من العبادة وهذه الهيئة في صلاة الجماعة تكون قد أكسبته سلوكا حضاريا رفيعا، فيصطف دون إملاء من أحد في طابور منظم ولا يثير مشاكل لأنه تربى في العبادة الجماعية على هذا السلوك فلن يتدمر من الالتزام بالنظام إن وجد أو أن يبادر إلى خلقه عن غاب بل قد يسعى بحكمة ولين اكتسبهما من العبادات إلى رد المخالفين له إليه، وكم من مرة حضرت لأناس سعوا إلى هذا فأفلحوا، فأضحى ذلك سنة معمولا بها في المعيش اليومي.  

ولا أنسى هنا أن أغلب العبادات مؤقتة بمواقيت إن فاتت لم تجز إلا من باب قضاء الفوائت الذي يمكننا أن نعده فرصة ثانية لمن أضاع الأولى، نعم إن المؤمن يخرج منها وقد تشبع بخلق احترام الوقت والمواعيد فلا يخلف ميعاد زميله الذي اتفق معه على الحضور على الساعة العاشرة فلا يأتيه إلا بعدها بساعات كما نشاهد ونعاين في واقعنا المتملص من أثر العبادات، وما تقدم الغرب عنا إلا بأشياء أدركناها ولم نعمل بها مثل احترام الوقت والمواعيد، ومدرسة ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً) [النساء: 103].

 

سادسا: أن يستعين بالجماعة المسلمة على القيام بالعبادات الجماعية مثل الصلاة والحج، ويعينهم على ذلك؛

وهو مرتكز تعبدي ومقصد حضاري، فالمسلم ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، فكم من أمر تنجزه الجماعة المتحدة في مدة قليلة وبأقل المجهودات، فيفسح لها المجالَ للتفكير في أمر آخر ترقى به ذاتيا وتعلو به اجتماعيا، عكس العمل الفردي الذي يحتاج طاقة أكبر ويستهلك وقتا ومالا وجهدا، ولا شك أن ثمة أعمالا تقتضي عملا فرديا كي تحقق انعكاسها الحضاري المطلوب وهو أيضا له قبيل في العبادات فمنها المرتبط بالفرد ذاته لا غير كالصوم مثلا.

وعليه، فالمسلم ينبغي أن يستفيد من العبادات هذا المقصد الحضاري فيكون محبا للجماعة ساعيا إلى خدمة الصالح العام معينا لإخوانه، دابا على وطنه ساعيا إلى ازدهاره ورقيه، ولا يغيب عنا أن البركة مع الجماعة، كما في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران : 103]، وحديث ابن عباس رضي الله عنه: "يَدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ".

 

سابعا: المداومة على النظافة والتشبع بها؛

فجل العبادات تنبني على هذا المقصد الحضاري وهو حب النظافة الشاملة بدنيا ومعنويا؛ طهارة البدن والثياب والمكان وطهارة الأخلاق. فالطهارة المادية شرط أساسي في كثير من العبادات كالصلاة، كما في حديث "لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ" بل عدها في حديث آخر شطرا من الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم: "الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ". فالمؤمن حريص على النظافة الشاملة فما جاءنا من تعليمات أهمية النظافة عن طريق الأطباء قد نصت عليه الشريعة واعتبرتها كما تقدم شرطا من شروط العبادات. فلذلك تجد المؤمن الحريص على العبادة كأن بين يديه نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقي ذلك من درنه شيئا؟ سيكون جوابنا مثل جواب الصحابة الكرام رضوان اللهم عليهم أجمعين، المضمن في هذا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ: ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ قَالُوا: لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا".

وهنا أستحضر هذه تعليمات النظافة المصاحبة لظهور كورونا (كوفيد 19) التي كان من سبل الوقاية منها غسل اليدين بمطهر باستمرار. وذلك مظهر حضاري لنا في العبادات ما يغنيه وربما يغني عنه. 

 

ثامنا: أن يجدد العزيمة بين الفينة والأخرى كي لا تصبح العبادة عادة؛ 

وهو مشكل عويص له أثر تعبدي ثم حضاري خطير. فالعبادة إن أضحت عادة فقد انتقلت إلى طقوس وحركات وسكنات لا تؤثر على فاعلها نفسه، فلا شك أن أثرها الحضاري سيغيب وبشدة. وهو ما يفسر الفساد المجتمعي الذي نعيش فيه، فنسب كثيرة من القائمين بالعبادات لم ينتبهوا إلى أنهم انتقلوا من العبادة إلى العادة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. فتجديد الإيمان والعزيمة للقيام بواجب العبادات أمر جليل، وإلا ضاعت العبادات فغاب انعكاسها الحضاري المأمول.

وهنا قد أستطرد إلى قضية مهمة وهي أن بعض من تحولت عبادته إلى عادة يدرك ذلك ويسعى جاهدا إلى الرجوع إلى الجادة، فتجده يردد عبارات من قبيل: (لا أجد لذة العبادة)، وهذا شخص ما زال فيه خير، ولعل يقظته تعيده إلى الصواب، فيتقن العبادة على أنها عبادة ولست عادة، فينتج عن ذلك الأثر الحضاري المنشود. 

وهذه طائفة محمودة دينيا وحضاريا، لكن الطامة الكبرى في أولئك الذين لا يدركون أنهم أضحوا يقومون بالعبادات على أنها عادات فلم تعد تحرك فيهم ساكنا بل هي طقوس ينتظرون الخلاص منها ولسان حالهم يردد بقوة وبصوت مدوّ: (أرحنا منها يا بلال) محرفين بذلك القول الحق الصادر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين كان يرقب العبادة بعد العبادة: "يا بلالُ، أقِمِ الصَّلاةَ، أرِحْنا بها".

 

تاسعا: أن يجتنب الشواغل التي تحول دون إتقانها؛ 

فالمشغول مثلا بمدافعة الأخبثين في الصلاة لن يتحقق عنده مقاصد العبادة/ الصلاة، مصداقا لحديث: "لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ"،  فالإنسان المنشغل عن العبادة بشيء من أمور الدنيا لا شك أنه لن يتقنها، وهو ما يؤدي إلى عدم إقامتها من اجل ذكر الله، فيترتب عن ذلك غياب الأثر الحضاري أيضا. وفي هذا السياق تستحضر أيضا الأحاديث النبوية المنبئة بأهمية الخشوع في الصلاة، كحديث: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا نِصْفُهَا". 

إن هذا الحديث عن الابتعاد عن الشواغل كي تصح العبادة يثوي وراءه مغزى حضاري مفاده أن المؤمن حين يتعود على درء الشواغل في عبادته كي يؤديها بشكل سليم فإنه يتحلى بالسلوك ذاته حين يقوم بسائر أعماله اليومية فتجد إتقانا وإبداعا فيها، وهو ما يسهم إسهاما حضاريا جميلا.

 

عاشرا: استحضار النفع العام بجانب الانتفاع الشخصي؛

فالعبادات التي لا يتعدى أثرها إلى الغير قليلة في الإسلام، بل أغلبها منوط بالمنفعة العامة وهي ما يطلق عليه بعض العلماء حق الله. ألم نسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول بملء فيه: "أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ..."، وقال صلى الله عليه وسلم عن عبادة الصوم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ". وهذا الضابط من ضوابط العبادة مهم ويحقق وجوده أثرا على الفرد والمجتمع، فأما عن انعكاسه حضاريا فعلى سبيل المثال حين يكون للشخص مشروع أو شركة يشغل فيها يدا عاملة فإن أراد الفلاح وتحقيق الريادة فلابد من تحقيق نفع خاص له دون نسيان النفع العام لتلك اليد العاملة التي ستتحفز حين ترى ذلكم النفع الكافي يشملها، أما عن تصرف رب العمل بأنانية فإن العمال مهما حرصوا على إتقان العمل لابد أن يهنوا ويضعفوا وبذلك يضيع العامل ورب العمل والمعمل. إن العبادة إجمالا تروم تحقيق النفع العام زيادة على النفع الخاص. 

وفي الختام، أقول: إن الالتزام بما سبق من ضوابط تضبط العبادات كي تحقق الغاية المثلى منها وهي إعمار الأرض وفق السنن الكونية ووفق شريعة الله، يجعلها تحقق جانبا حضاريا مهما فيَسعَد الإنسان ويُسعِد من حوله من البشر وغيرهم. وهو لعمري مقصد حضاري يروم وحدة الأمة وتكافل أفرادها حتى يكونوا كالجسد الواحد.

تلك إذن جملة من ضوابط العبادات وآثارها الحضارية التي أبتغي من ورائها تذكير النفس والغير بانسجام الأثر التعبدي مع الأثر الحضاري للعبادات، فيجوز لي أن أعدهما وجهين لعملة واحدة.

وهكذا فحري بالمسلمين أن يكونوا خير خلفاء اللهِ في أرضه، يجمعون بين العبادة وحسن الإعمار، مصداقا لقول الله عز وجل: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء : 73]. 

وعليه، فالعبادات تصنع لنا إنسانا صالحا أمينا قويا، قادرا على خلافة الله في أرضه وبناء حضارة نافعة يتحضر كل القيم والأخلاق النبيلة التي بعث النبي ليتممها...