في الفصل الثاني تناولت ملامح عامة لخطة “الأنشطة الأربعة”، وقد مثل النشاط المعرفي “التعلم” أول أنشطتها. ومحتوى هذا الفصل، سيكون مكملا وداعما لما سبقه، مع التركيز على هواية "المعرفة والتعلم".

بحسب “نموذج ASC لاكتشاف الهوايات” فإن الهوايات Hobbies عبارة عن سلة الأنشطة المفضلة للشخص، وهي في عمومها حسب النموذج، ذات أربعة أقسام تتصدرها “المعرفة” وما يتصل بها من أنشطة التعلم والتحصيل العلمي، بمختلف أدواته وقوالبه وإطاراته. إن ما نطمح إليه من نتائج جيدة وتغير كبير في أداء الطلاب، قد لا يكون بنفس سرعتنا في صياغة الأفكار وإعداد الخطط وتقديم البرامج، لكن المهم قطعا هو نجاحنا في إحداث مستوى من التغيير في مفاهيم المتعلمين، وإعادة رسم الصور الذهنية، في خطوة وصفناها بعملية إعادة “ضبط الإعدادات”. ولعل الاختراق المهم هنا أن يستقر في ذهن الطالب أن المعرفة نشاط مفضل ضمن سلة أنشطته وبرامجه المعتادة، وليست عبئا ثقيلا وجهدا لا يطاق. يقول الكاتب السوداني مجاهد أحمد على: “يعتمد بناء الإعدادات المعرفية الجيدة، على الإدخال المعرفي المنظم.. ليس في مرحلة التعلم بالقراءة (الاطلاع) والكتابة فحسب، بل قبل ذلك في مرحلة ملاحظة السلوك الإنساني. إن ملاحظة السلوك تؤثر في تكوين التصورات الذهنية بدرجة أكبر، حتى بعد مرحلة القراءة والكتابة”.

عمليا، عندما نطلب من الطلاب تحديد أبرز هواياتهم المعرفية، تتوارد إجاباتهم بسلاسة متسقة مع أعمارهم ومستوياتهم الذهنية، وتتكشف بشكل تلقائي، ميولاتهم الدراسية، ودرجات التفاوت في حبهم لما يتلقونه من مواد ومقررات. إن الكشف عن تفضيلات الطلاب قد يساعدنا في معالجة ما يواجهونه من صعوبات أكاديمية، أو ما يعانونه من صعوبات في التواصل مع مدرسي بعض المواد، فضلا عن توفير ما تتطلبه بعض الدراسات من أدوات، قد يكون توفرها سببا حاسما في ارتباط الطلاب بها وحبهم لها وتفوقهم في تعلمها.

قبل أن نلوم الأبناء والطلاب على انصرافهم عن التعلم والمعرفة، يجدر بنا أن نغرس في نفوسهم أن المعرفة نشاط مفضل وهواية ممتعة. إن النقلة الحاسمة في مسار التعلم، قد تكون فكرة أو مفهوما concept فعّال يتبناه المتعلم ويقيم عليه بناءه المعرفي. والملاحظ أن غالب جهودنا في مجال (التعليم والتعلم) إنما تتركز على تكثيف الأنشطة من ناحية، أو التعويل على صور التعلم كإجراءات جوفاء فاقدة للروح والمضامين.

في رحلة التعلم عادة ما نفتقر إلى أفكار كلية وتصورات ورؤى، قبل احتياجنا إلى أدوات التعلم، وخطوات التحصيل المعرفي. وبما أن التعلم في مجمله جهد ذهني مضن، وبطيء النتائج في ذات الوقت، فإن توفير مبررات كافية يصبح من الأهمية بمكان، في ظل التنافس الشرس للاستحواذ على أوقات الطلاب على وجه الخصوص وجذب اهتماماتهم إلى ساحات أخرى أكثر بريقا وأوفر إثارة من ميادين التعلم.

في برامج اكتشاف الهوايات، يقف المدربون على مؤشرات هامة فيما يختص بقدرات المتدربين (الطلاب) واستعداداتهم الذهنية والنفسية.. وذلك من خلال التعرف على مختلف أنشطتهم الجارية، ومنها بطبيعة الحال (الأنشطة المعرفية) وما يتصل بالتعلم والتثقف والمعرفة. يميل الطلاب ذوو النشاط البدني والاجتماعي المحدود إلى أنشطة التعلم بشكل أكبر، بينما تقّل مساحات التعلم لدى الأكثر نشاطا، لصالح الأنشطة البدنية والاجتماعية، هذا بصفة عامة وإن كان بعضهم أقدر على التوازن من سواه.

- أفكار لتعزيز التعلم:

من المهم أن نشجع الأكثر رغبة واستعدادا على المضي قدما، وأن نعمل على دعمهم وتزويدهم بما يعزز استعداداتهم تلك ويحفزها باستمرار وذلك من خلال المقترحات التالية:

  • إن أول ما يحتاجه المتعلم الراغب في تميز معرفي ذي قيمة، أن نساعده في رسم صورة ذهنية جيدة لمشروعه المعرفي وما ينتج عنه من صفات معرفية محددة، ولا بأس من طرح ذلك في شكل سؤال كبير تمثل الإجابة عنه ملخصا للصفات المراد الوصول إليها وتمثل في ذات الوقت “طموحات معرفية” للمتعلم.
  • يتطلب تحقيق طموحاتنا المعرفية وجودنا في “ميدان ما” أو مجال مهني محدد تتراكم فيه معرفتنا النظرية والتطبيقية باضطراد، حتى نبلغ مستوى يؤهلنا للمساهمة في حل مشكلاته أو تطوير أدواته وتقنياته. ويمثل مجالك المهني ساحة لتعزيز التعلم وميدان للإسهام المعرفي في ذات الوقت.
  •  إن اختيارنا للمسارات الدراسية ليس سوى اختيار مهني، وإن كان أوليا وغير حاسم في كثير من الأحوال.. ومما يجدر بالطالب وهو في مراحل دراسية وعمرية مبكرة، أن يعمل على اكتشاف ميولاته وهواياته بشكل مستمر؛ ليمهد لنفسه ويساعدها عند الاختيارات الدراسية والمهنية الحاسمة.
- تحليل شخصية المتعلم:

بحسب مؤشر MBTI الشهير لأنماط الشخصية، فإن سمة (الإنجاز) تعد نمطا شخصيا في مقابل صفة (التشتت) وهما صفتان عبّر عنهما المؤشر في محوره الرابع تحت عنوان (الترتيب). وتقدم أنماط الشخصية عموما، صورة حالية للوضع الغالب والاعتيادي في تصرفات الشخص، بحيث يمكننا البناء عليها في تواصلنا معه، وتجنب الاصطدام. وتعبر الثقافة الشعبية عن الأنماط بالعادات، وترى أن (العادة جبل) تأكيدا على رسوخها وتعذر تغييرها في غالب الأحوال..

في برامج التدريب وتنمية القدرات، عادة ما تواجهنا صعوبات كبيرة في الانتقال بالمتدربين من التفاعل التدريبي القصير، إلى تواصل مستمر لفترات أطول، وبالتالي إتاحة فرص أكبر للانتقال من نقطة إلى أخرى، وتحقيق نتائج ذات قيمة أكبر. في الواقع تتوفر رغبة كبيرة لدى معظم المتدربين، لتحقيق نقلات وإنجازات لكن واقع الحال يؤكد أن الانتقال قدما لا يتحقق بمجرد رغبات صادقة، أو الحصول على دورات احترافية عالية القيمة.

تكتسب دراسة الأنماط الشخصية أهمية كبيرة؛ حيث تعمل على نقلنا من مجرد التركيز على تحصيل كم معلوماتي، إلى نقطة أعمق بالنظر إلى طبيعة ما تتطلبه شخصياتنا من تعديلات في (الإعدادات) أو جهود لتحقيق درجة من التوازن. إن ما يواجهنا من صعوبات في التقدم الشخصي، وإنجاز الأعمال، ذو صلة مباشرة بأنماط شخصياتنا وما يسيطر علينا من (تلقائية) وعدم قدرة على التأني والالتزام والاستمرار في مشروعات طويلة نسبيا. وتعد سمة (الاستعجال) والاندفاع لتحقيق نتائج سريعة، والتحرك بدوافع المنافسة والانتصار، من أبرز ما يحول بيننا وبين تحقيق نتائج ذات قيمة. وما لم نعمل على معالجة المشكلة الحقيقية بكل وضوح وحزم، فإن الوصول إلى نجاحات حقيقية سيظل أمنية وحلما مهما توفرت لنا من أدوات وفرص.

تضيع كثير من جهودنا في التعلم على وجه الخصوص، والعمل والعلاقات، بسبب عامل جوهري يتصل بعدم معرفتنا وعدم (اهتمامنا) بأنماط شخصياتنا أو شخصيات من نتفاعل معهم، في خضم انشغالنا المستمر بما يحقق أسرع نتائج وأفضل بريق.

ولنقترب من الهواة؛ لنتعرف على أبرز قدراتهم وملكاتهم، ونكتشف أنماط شخصياتهم، واحتياجاتهم النفسية الدافعة لممارسة الهوايات والشغف بها ودورها في تعزيز هواية التعلم والمعرفة.

 

للتعرف على “هواة المعرفة” مثلا، نستخدم حزمة أدوات وتطبيقات، بحيث تعرفنا كل أداة، على جانب أو أكثر في شخصية “هاوي المعرفة”. سنستخدم كلا من نموذج ASC ومؤشر MBTI وأسلوب الاحتياجات النفسية الستة، حيث يتميز آسك بخاصية اكتشاف العلاقات بين القدرات والأنشطة والميول، بينما يمتاز مؤشر مايرز بريغز بتركيب نمط code الشخصية من دراسة عدة محاور أما تحليل الاحتياجات النفسية، فيقدم لنا تفسيرا لدوافع السلوك، ويمنحنا إجابة عن “لماذا نفعل ما نفعله”.

حسب نموذج ASC فإن هواة المعرفة، هم من تسيطر الأنشطة المعرفية وأنشطة التعلم على معظم اهتماماتهم، وتبدو قدراتهم وملكاتهم الذهنية أكثر بروزا، وتظهر طموحاتهم في قوالب غير مهنية، حيث يطمح معظمهم لأن يصبح مخترعا، مكتشفا، مطورا، ونحو ذلك من صفات العلماء والباحثين.

ونلاحظ تناغما كبيرا بين كل من نموذج آسك ومؤشر الأنماط، حيث يطلق المؤشر وصف “العالم” لأصحاب النمط INTJ ويعني أن الشخص أكثر ميلا للنشاط الداخلي (التفكير)، وأكثر استخداما للخيال، ويتخذ قراراته بعقلانية، ويتصف بالحسم والإنجاز. في نموذج آسك كان ناتج العلاقة بين القدرات الذهنية والانشطة المعرفية، طموحات “عالم”. وفي مؤشر الأنماط كان نمط “العالم” نتاجا لتفاعل سلة صفات شخصية، من بينها التفكير، الخيالية والعقلانية.

ويأتي استخدام الأداة الثالثة (تحليل الاحتياجات النفسية)، أكثر تناغما مع كل من الأداتين السابقتين (النموذج والمؤشر)؛ حيث يميل “هواة المعرفة” عادة، للبحث عن أكثر الأماكن هدوءا وأبعدها عن الضجيج والصخب، ويتناسب هذا الميل مع المكون الأول في نمط العالم “النشاط الداخلي” ويتماهى مع طبيعة ميولاتهم البحثية.. ويمثل “اليقين” certainty (الثبات، الأمان، التحكم،…) احتياجا نفسيا عاليا لدى هواة المعرفة والتعلم والبحث، إلى جانب احتياجهم النفسي الأبرز “النمو” growth (التعلم، التطور، التقدم).

إن تحليل شخصيات الهواة، يمنحهم رؤية أوسع مدى، ويحفزهم على الاستمرار بوعي وثقة.. ويتيح أمامهم فرصا أفضل لتعزيز هواياتهم، لا سيما “هواية المعرفة”.

إن طريقنا نحو “تعزيز التعلم” عادة ما يبدأ عند اكتشافنا لقدراتنا واستعداداتنا وما يتصل بها من أنشطة وهوايات، مرورا بالاختيارات الدراسية والمهنية المرتبطة بميولاتنا واستعداداتنا.. ومن ثم بوجودنا في مجالات مهنية متصالحة مع شخصياتنا، وأخيرا بمدى قدرتنا على الانتقال من صورة المهني التقني أو مجرد الممارس لمهنة ما، إلى خانة المهني الباحث المساهم في تعزيز المعرفة في مجاله، وتقديم حلول لمشكلات المجال وتطوير أساليب العمل.