"وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" (143- سورة البقرة)؛ ما أول ما يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع كلمة "أمة"؟ هل سبق وجلست تتفكر في معنى أن نكون "أمة وسطا"؟ ثم تأمّلت حال المسلمين اليوم وتفحصّت هل يعكسون -سلوكا وفعلا- صورة الوسط التي وصفها الله عز وجل في هاته الآية الكريمة؟ أم ما زالوا لم يراوحوا موقع "رد الفعل" والحالة الانفعالية عندما يتعرض إخوانهم للظلم والاضطهاد والتقتيل؟؟ وفي حالة ما فسّرت هاته الآية وعَلِمت مرادها، هل تعمل بها وتجاهد نفسك للامتثال لها؟ أم أن حماستك تظهر فقط في بعض المناسبات ثم تخبو في مواقف أخرى فتنتصرُ لقوميتك وجنسيتك وبلدك ولونك على حساب الحق؟    

كيف ينتقل الشعور بالانتماء لأمة الإسلام من مجرد عواطف جياشة إلى استراتيجية طويلة المدى وعمل ملموس يغير واقعنا وواقع الأجيال من بعدنا؟ هذا أهم سؤال حاول الأستاذ نعمان على خان البحث عن إجابات له مستهديا بآيات من سورة البقرة خلال خطبة قدّمها حول "مفهوم الأمة" وذلك تزامنا مع الأحداث الأخيرة في فلسطين والتي جعلت المسلمين في كل أنحاء العالم ينتفضون غاضبين، محتجين على انتهاك حرمة الأقصى وتهويد القدس مساندين مقاومة أهل غزة إثر العدوان الصهيوني عليها. 

تطالعون في هاته الأسطر ترجمة أبرز ما جاء في هاته الخطبة.

 

ما الذي نحتاج التفكير فيه كأمة؟

"أعتقد أنه من المستحيل أن نجهل ما يجري في العالم وألا نتأثر بالأعمال الإجرامية التي تحدث ضد المسلمين على أيدي غير المسلمين والتي تحدث ضد المسلمين على أيدي المسلمين أنفسهم؛ وهذه المآسي، باعتبار نشأتنا كمسلمين، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا.. 

إن أكثر من نصف القرن الماضي كان عبارة عن توالي أزمات الأمة واحدة تلو الأخرى، لدرجة أننا صرنا نعاني نوعا من التخدير بسبب اعتيادنا عليها، فالعديد من الأماكن مشتعلة، ويوجد الكثير من حالات الطوارئ، مثل ما يحدث في فلسطيننا الحبيبة في الوقت الحالي. نشعر بالإحباط ويعترينا العجز واليأس، حتى أضحى السؤال: "ما الذي من المفترض أن نفعله؟" ملحا.

طلب مني الكثير من الناس أن أتحدث عما أفكر به حول موضوع فلسطين أو عما أعتقد أنه يحدث في الأمة.. بقيت صامتًا لبعض الوقت، وقررت أن أستجمع أفكاري أولاً لأن ردة فعلي الأولى كانت هي أنني شعرت بهذا من قبل.. وشاهدت مثل هذه الردود من الأمة من قبل.. كأنها حلقة تكرر بشكل موسمي تقريبًا. 

لذا فإن الغضب والصلاة من أجل أمتنا التي تنزف هو أمر معروف ومعلوم لدى الجميع.. تتعالى صيحات الاحتجاج التي نعرفها والجميع يصرخ ضد الدول الإسلامية التي لا تفعل ما يكفي، احتجاجات ضد الأمم المتحدة.. وضد الولايات المتحدة.. وضد الجناة مثل إسرائيل، إلخ، إلخ. لقد فعلنا كل هذا، وأنا أشعر مثلكم بهذه المشاعر، لكنني أشعر أيضًا أن هذا لا يكفي وأننا نفعله منذ مدة ومن المؤلم والمحبط للغاية أننا في نفس المكان بالضبط إن لم نكن مع مرور الوقت في مكان أسوأ.. لذلك أردت على الأقل، ليس فقط التنفيس عن الغضب وإنما محاولة الرجوع إلى الوراء والوقوف عند ما الذي نحتاج التفكير فيه كأمة؟؟

غالبًا ما تحدثت خطبي في السنوات القليلة الماضية عن التمكين الفردي وكيف يحتاج المرء إلى تقوية إيمانه وإلى الارتقاء بنفسه مهما كانت التجارب المؤلمة التي يمر بها؛ لأن ديننا هو من جهة، شخصي للغاية! إنه عن إيمانك وحياتك ولقائك بالله وعلاقتك بكتاب الله وعلاقتك بالرسول الله صلى الله عليه وسلم وعن تعاملاتك وعائلتك، وعملك وأموالك وزكاتك، وصلاتك.. إنه فردي للغاية من ناحية، ولكن من ناحية أخرى، نشعر أيضًا بأننا ننتمي إلى شيء أكبر من أنفسنا: نحن ننتمي إلى أمة، نحن ننتمي إلى شيء أكبر بكثير..

وهذا الكيان الذي ننتمي إليه، يتجاوز الأعراق، قد لا نتحدث حتى نفس اللغة، الشيء الوحيد الذي نشترك فيه هو "لا إله إلا الله ، محمد رسول الله"، وهذا كل شيء! هذا يكفي.. يمكن أن نكون من ثقافات وخلفيات وأعراق مختلفة تمامًا وأنماط حياة، حتى ثقافيًا، قد تكون مختلفة تمامًا عن بعضها البعض؛ ولكن هناك رابط يربطنا.. كتاب الله هذا يربطنا ببعضنا البعض..

إذن، هناك شعور بالأمة ولهذا السبب نشعر بألم جماعي بسبب ما يحدث للمسلمين المستضعفين، وما حدث في التسعينات مع البوسنيين وفي كوسوفو، وما وقع على مدى نصف القرن الماضي أو أكثر في فلسطين، وما يحدث في أفغانستان، وما يحدث في اليمن، وما حدث لمسلمي الروهينجا، وما حدث مع المسلمين في سريلانكا، وما حدث للمسلمين في الهند وما حدث في كشمير! إن القائمة طويلة جدا!!

البوسنة - 1996

البوسنة - 1996

لكننا بصفتنا "أمة"، ماذا يعني أن تكون جزءًا من هذه الأمة؟ أردت أن أبتعد عن الحرائق المشتعلة وأعود إلى كتاب الله وأبحث فيه، لا أدعي أن لدي إجابات.. لكن علينا أن نلجأ إلى الله للحصول على إجابات.. 

هذه الخطبة هي في الواقع حول تعريف بعض توقعات الله منا لكوننا أمة. ماذا يعني أنه جعلنا "أمة"؟ لقد أعلن أننا أمة في سورة البقرة، من ضمن مواضع أخرى في القرآن.. ربما يكون هذا الموضع وسط سورة البقرة -أطول سورة في القرآن- من أكثرها أهمية وقوة، حيث يقول "وكذلك جعلناكم أمةً وسطا"؛ وسطا يقصد به التوازن، هذا يعني أنكم جُعلتم أمة بحيث إذا نظر إليكم أي شخص، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه هو التوازن. دعنا نفكر للحظة، قال الله عز وجل لقد جعلنا أنا وأنت أمة تشبه إلى حد كبير تعريف التوازن نفسه، والتوازن موضوع مهم في العالم، إنه مرتبط بالعدالة لذا تجد أنظمة العدالة في أي مكان في العالم يكون الميزان فيها رمزا للمحاكم، أليس كذلك؟ لأنه لا يمكن تحقيق العدل دون توازن، والله سبحانه وتعالى يشير حتى إلى التوازن ويقول إنه جعل الكون في حالة توازن: "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان"، مما يعني أنكم أمة التوازن، وأهل العدل. لذا فإن كونك متوازنا وأن تكون عادلا يسيران جنبًا إلى جنب..

وجود هذا التصريح "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" في سورة البقرة يدعونا للتفكر، ذَكر الله أمة جاءت قبلنا وأعطيت كتابا (بنو إسرائيل)، ونحن كذلك أمة نزل إلينا كتاب؛ لقد أعطوا الكتاب وأمضوا قرونًا عديدة معه واليوم في عام 2021 عندما نقرأ ذلك، فنحن الآن من الذين حصلوا على كتاب (القرآن الكريم) وذلك منذ قرون عديدة، لذلك لدينا بعض الأشياء المشتركة مع الأشخاص الذين نتحدث عنهم. ثم يقول الله تعالى أن ما فعلوه بكتابهم هو بدلاً من استخدامه كوسيلة للوحدة، تفرقوا وتصارعوا وقتل بعضهم بعضا، ويستخدمون علمهم بالكتاب كوسيلة لإعلان تفوق وسيادة بعضهم على بعض "وما تفرقوا إلا بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم".

لقد أرادوا إيجاد طريقة ما للشعور بالرضا عن النفس رغم عدم الامتثال لما جاء به الكتاب وقد تحدث الله عن هذه الأمة أنهم إذا ذكّرهم أحد بما يقوله الكتاب، فإنهم يعلنون الحرب عليه..

لقد منحوا هذا التفويض لأنهم كانوا أمة، ومن المفترض أن تكون الأمة مثل ما قال النبي جسدًا واحدًا، لذا قال لهم الله عز وجل "وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم"، قال لمسلمي ذلك الوقت، أي أولئك الذين سبقونا لن تريقوا دماء بعضكم البعض، ولن تطردوا بعضكم البعض من دياركم وبيوتكم، "ثم أقررتم" ووافقتم جميعًا، "وأنتم تشهدون"، "ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم" ثم أنتم نفس الأشخاص الذين كانوا يقتلون بعضهم البعض، "وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم" تطردون مجموعة منكم من ديارهم "تظاهرون عليهم بالإثم" وتعاملونهم بعدوانية.. بمعنى: أنتم المسلمين، الذين كنتم بني إسرائيل ذلك الوقت، كنتم تتخذون خطوات عدوانية ضد المسلمين الآخرين، بني إسرائيل ذلك الوقت..

 

من أنجع وسائل إضعاف الأمة: دفع أفرادها على قتال بعضهم بعضا

وعلاوة على كل ذلك، عندما تسوء الأمور كثيرا ويقاتل المسلمون بعضهم البعض، ماذا يحدث؟ عندما حارب بنو إسرائيل بعضهم البعض، أصبحت إمبراطوريتهم ضعيفة وجاءت الدول الخارجية وغزتهم لأنهم لم يعودوا أقوياء.. وكلما ضعفت أمة ما تتدخل قوى أخرى، أليس كذلك؟ لذا فإن واحدة من أفضل الطرق لإضعاف الأمة هي حملهم على قتال بعضهم بعضا.. لذلك عندما حارب مسلمو ذلك الوقت بعضهم البعض، فإن الآشوريين والبابليين، القوى العظمى القديمة حينها والتي كانت في الواقع على قدم المساواة مع الأمة الإسرائيلية، لاحظوا ضعفهم وبدؤوا في غزوهم.. فأسر العديد منهم، وتعرّضوا للقمع وللاضطهاد.

اليمن - 2015

اليمن - 2015

"وإن يأتوكم أُسارى تفادوهم" عندما يأتون إليكم كسجناء تعطون الفدية لتحريرهم، لكنكم أنتم من تسببتم في هذا الضعف بداية! لقد كنتم أمة قوية، وكان الله معكم "فضلناكم على العالمين"، وأعطوا الأفضلية على جميع شعوب ودول العالم وتمتعوا بالاستقرار والازدهار.. 

يمكن للفرد المؤمن أن يعيش حياة صعبة، وهذا قد وقع حتى مع للأنبياء؛ لكن معادلة الله للأمم وصيغة القرآن عن ذلك مختلفة، يقول الله "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم".. كان من الممكن أن يغمرهم الرزق ويمن الله عليهم بحفظه وبركاته..

فماذا يقول الله قبل أن يخبرنا في سورة البقرة بأننا أمة التوازن؟ السبب في معاناتهم هو تخليهم عن كتاب الله.. لقد فقدوا التوازن، قاتلوا بعضهم البعض حتى أضحوا ضعفاء ومثيرين للشفقة وأصبح سهلا على أعدائهم قتلهم، ثم يقول الله عز وجل ثم شعر بعضكم بالسوء على ما وقع لهم! 

هذا ليس تاريخنا، هذا تاريخ بني إسرائيل الذي قال الله تعالى إنه أعطاهم شرف أن يكونوا أمة وشعبا مختارا، وقد أفسدوا ذلك، ولم تعد لهم تلك المكانة، والآن قرر الله أن يختبرنا بنفس الموقف بالضبط. 

الآن لماذا في رأيكم نصف السورة تصف إخفاقاتهم ثم يقول الله عز وجل "إنا جعلناكم أمة وسطا"؟! هذا حتى لا نعبث كما فعلوا، لأنه "ولن تجد لسنة الله تبديلا" لن تجد تغييراً في طريقة عمل الله.. هذه سنة الله في صعود وسقوط وقوة وضعف الأمم المؤمنة! أنا وأنت لا نستطيع أن نعتقد أننا استثناء وما حدث للناس قبلنا لا يمكن أن يحدث لنا لأننا مميزون! 

ما أقوله لا يخفف بأي حال من مآسي أولئك الذين يعانون في هذه اللحظة ولا يدينهم أن الله يحاكمهم لأنهم أصبحوا مثل بني إسرائيل! سيكون الأمر صعبًا للغاية بالنسبة لي ولك أن نلقي نظرة صادقة في المرآة كأمة ونكشف ما انتقده الله في بني إسرائيل مما جعلهم ليسوا الشعب المختار! أن نلقي تلك النظرة على سلوكنا وصفاتنا، الطريقة التي نتصرف بها، الطريقة التي ننظر بها لأنفسنا، وأن لا نجد أوجه التشابه بيننا وبين بني إسرائيل..

 

"أمة وسطا".. كيف يسترد المسلمون هاته المكانة؟

لذلك عندما يقول الله عز وجل "جعلناكم أمة وسطا" لماذا "لتكونوا شهداء على الناس"، هذا ما تبدو عليه أمة التوازن لا تتلاعب بكتاب الله فهي تتميز بالعدالة والوحدة ولدى أفرادها حب لبعضهم البعض، ليس فقط عندما ينزف الناس لأن هذا نفاق.. لأنه عندما تكون في المسجد وأنت من بنغلاديش وشخص آخر من ماليزيا وآخرون من الصين ومن السنغال ومن فلسطين ومن المملكة العربية السعودية والهند وباكستان.. وأنت تتصارع حول من يجب أن يكون الإمام، فأين حب الأمة هنا؟ ألا تظهر قوميتك وينكشف تحيزك في كل شيء آخر؟ لكن اللحظة "وإن يأتوكم أسارى تفادوهم" ولكن عندما يكون أحدنا في مأساة فجأة نصبح أمة واحدة!! 

كما تعلمون، من الصعب سماع هذه الحقيقة.. من الصعب علي أن أقول ذلك لأنني لا أتحدث عنك، أنا أتحدث عن نفسي، عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم إننا جسد واحد.. ثم انتقادي لما تفعله الأمة مثل انتقاد يدي أو ذراعي أو ساقي.. فذلك ليس خطأ شخص آخر.. يجب أن ندرك أن هذه ليست مشكلة الآخر.. إنها ليست مشكلتهم.. إذا أصبح هؤلاء المسلمون أفضل، فسنكون كذلك. علينا التوقف عن قول "هؤلاء" و"هم".. إنها مشكلتنا، عندما تكون هناك مشكلة في عائلتك، فأنت لا تقول إنها ليست من شأني، إنها مشكلتهم. 

هذه الأمة هي أسرة واحدة، بل الأمر يتجاوز الأسرة الواحدة إلى الجسد الواحد، لذلك يجب أن أقلق إذا كانت يدي تعاني من الألم، أو مشلولة.

إنها لا تفعل ما يفترض بها أن تفعله، ثم إني لن أنعتها بالغباء وأتمنى لو لم تكن جزءًا مني.. بل ستفعل أي شيء بوسعك لتعالج يدك، وأحيانًا قد لا يكون الحل بين عشية وضحاها..

التشبيه الذي يتبادر إلى ذهني هو أنه إذا كان الشخص مريضًا مرضا مزمنا، ثم يبقى فترة طويلة دون أن يهتم به.. يسعل ويزداد ضعفا، لكنه لا يتناول أي دواء، بل يستمر في نفس الممارسات، وتزداد حالته سوءًا حتى ينتهي به الأمر يوما من الأيام في المستشفى، لأن الألم أصبح شديدا لدرجة أن الجسم أصيب بالشلل؛ بعد ذلك، يجري بعض العمليات الجراحية لعلاجه ولتقليل الألم ويعود الشخص مرة أخرى إلى نفس السلوك.. وهذا ما نفعله عندما تحدث اشتباكات في هذه الأمة، فجأة نتصرف وكأننا أمة واحدة وتنمو هذه المشاعر، لكن ماذا عن المدى الطويل؟؟ 

علينا معرفة كيفية استعادة مكانتنا كأمة مرة أخرى.. كل واحد من الشباب والشابات الذين يستمعون إلي سواء كنت تستمع عبر الإنترنت أو كنت هنا أمامي، إذا لم ندرك أن الله لم يجعلنا على هذه الأرض مسلمين حتى نأكل الطعام الحلال ونعانق بعضنا البعض في العيد وستستمر الحياة كالمعتاد فلن ندرك ماذا يعني أن نكون أمة.. ربما تعرف ما يعنيه أن تكون مسلمًا بمفردك ولكن ليس لديك أدنى فكرة عما يعنيه أن تكون جزءًا من الأمة..

هناك شيء أكبر مني يجب أن أهتم به.. يجب أن يكون هناك بعض القلق، وأن يترجم إلى نوع من مسار عمل ملموس. لا أقول إن لدي إجابات، قلتها بداية، ولكن على الأقل، نحتاج إلى أن يكون لدينا هذا القلق العميق وأن نتجاوز ما هو ضحل وسطحي.. ونتحرك أبعد من من مجرد التنفيس عن المشاعر، لقد فعلنا ذلك منذ وقت طويل..

هذه أمة تاريخها أناسٌ صنعوا تغييرات في العالم، أليس كذلك؟ "وسطا" يتعلق الأمر بالتوازن والعدل والإنصاف. إنه في الواقع في كل شيء تجده في العالم .. والمشاكل تحدث مع التطرف.. في الثراء وفي الفقر.. التطرف في استعمال السلطة.. المشاكل تقع عندما يصبح الناس أناركيين للغاية.. عندما يكون لديك الكثير من الحرية.. في كل مكان تذهب إليه، تلحظ عدم توازن..

في حين أن الله يقول: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" بحيث عندما تبحث البشرية أين تجد التوازن؟ هل هذا مجرد شيء نظري افتراضي؟؟ ولا يمكن للبشر أن يكون لديهم التوازن؟ لا.. لديهم هذه الأمة للنظر إليها وعندما ينظرون إليها، يجدون ذلك التوازن المفترض.. يرون كيف تبدو العدالة وكيف يبدو الانسجام.. هل هذا حقًا ما نبدو عليه الآن؟ من المفروض أن نشعر بالرضا عند قراءة هذه الآية "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" وننظر إلى أنفسنا ونقول الحمد لله.. لدينا الكثير من الوسطية .. والجزء المخيف من الآية، شهادتنا على الناس، ومن ثم شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان من المفترض أن نظهر للإنسانية هذا التوازن لأن الله جعلنا مسؤولين عن القيام بذلك كأمة ولأنه في يوم القيامة رسول الله سيشهد صلى الله عليه وسلم أنه ترك أمته في حالة وسط، أعطاهم هذا التفويض وفهموه وكان من المفترض أن يظهروا ذلك لبقية العالم..

لذا في يوم القيامة، سوف تشهد الإنسانية ضدنا إذا لم نقم بعملنا ولم نظهر للعالم كيف يبدو التوازن.. سيقولون: لماذا ننجذب للإسلام؟ ولهذا النبي؟ ولهذا الكتاب؟ هل رأيت هؤلاء الناس؟ هذا ما كانوا عليه، هكذا كانت بلدانهم من أكثر الدول فسادًا في العالم.. المرة الوحيدة التي تعرضت فيها للغش كانت على يد مسلم.. الوحيدون الذين كذبوا هم المسلمون.. لماذا قد أنجذب يوما ما لدينهم؟ لقد رأيتهم من أكثر الناس تعصبًا وبعضهم من أكثرهم عنصرية وقسوة ودائمًا ما يقاتلون بعضهم البعض.. يمكن للإنسانية أن تشهد ضدنا ليس كأفراد وإنما كشعب وكأمة.. ورسول الله لديه قضية ضدنا لأنه تركنا لمواصلة مهمته، أظهر للعالم معنى أمة وسطا في المدينة المنورة، لقد أظهرها عندما فتح مكة، ومن المفترض أن نسير على نفس المنهج.. من المفترض أن يكون رمضان احتفالاً بكوننا أمة مختلفة.. نحن الآن أمة وسطا.. 

كان رسول الله يصوم في نفس أيام صوم اليهود، فأنزل الله رمضان ليذكركم أنكم أمة مختلفة وستخالفون اليهود في أيام صومهم، كل شيء في سورة البقرة يشير إلينا.. لتصبحوا أمة جديدة، كتاب الله الأخير معكم والقبلة مختلفة.. عاصمتنا مختلفة.. عاصمتنا الروحية غيرت كل شيء.. 

حسب السورة من المفترض أن نشكل معًا أمة جديدة متوازنة.. نعم.. هذا ما كان من المفترض أن نكون عليه.. 

هذا الإحساس بالعبء يحتاج أن يُترجم إلى شيء يرضي الله.. الشعور بوجود غاية.. بوجود هدف.. ولا يوجد فرد مستثنى من هذا الإحساس.. لا أحد، كل واحد منا لديه ما يساهم به في هذا الأمر، وإذا لم نكن قادرين على التأثير على أي شخص باستثناء أسرنا، فمن الأفضل أن نربي أطفالا يساهمون في تحقيق هذا الهدف المتمثل في أن نصبح أمة وسطا.. علينا أن نحرر أنفسنا قليلاً من تربية أطفال يريدون فقط الحصول على وظيفة وجعل العائلة فخورة بالسيارة الجديدة التي اشتروها.. نحن نربي أطفالنا ليقيموا حفلات الزفاف الفاخرة.. هذا كل شيء، ولا يوجد شيء آخر للتطلع إليه..

ضعوا إحساسًا بالمَهمَة.. بالرسالة في أطفالنا.. إنهم لا يحملون اسمك الأخير فقط.. أطفالنا أجيالنا. عليهم أن يحملوا مهمة رسول الله.. يجب أن يحملوا معنى الأمة الواحدة.. 

نزلت فيهم عبرة لنا..

علينا إعادة مراجعة أنفستنا.. أين أسقطنا الكرة؟ هل أصبحنا مثل الإسرائيليين الذين سبقونا؟ هل نجد أنفسنا في نفس التجارب والاختبارات التي وصفها الله ووجدوا أنفسهم فيها؟

لا تأخذوا كلامي على محمل الجد، ادرسوا السورة بأنفسكم.. ادرسوها ببصيرة.. لماذا يتحدث الله عنهم؟ ليس لكي يمكننا أن نلعن بني إسرائيل.. كان الصحابة يقولون نزلت فيهم عبرة لنا، حتى لا نصبح مثلهم، ومع أن القرآن يجعل من الواضح صراحةً في نهاية هذه السورة أننا ندعو لله ونقول "ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا"..

نأمل ألا نسقط الكرة، ولا نعبث كما فعلوا.. أدعو بصدق أن تستيقظ أمتنا بالطريقة التي يريدها الله حتى نتمكن من استعادة مكانتنا كأمة كريمة، تقف أولاً وقبل كل شيء في سبيل الله.. حتى نكون جديرين بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

ونتيجة لذلك، لا أقول إن الأمور ستزداد سوءًا لأن الأمة لديها الكثير من النعم والكثير من الإمكانات.. أؤمن بهذا كثيرا.. يمكننا تحويل العالم بجيل واحد فقط.. هذا ليس مستحيلاً ويمكننا القيام بذلك في جميع أنحاء العالم وليس فقط في مكان واحد.. إن ذلك ممكن.. وعلينا أن نصدق ذلك.. وإذا لم نتمكن من إحداث تغيير، نستطيع إجراء التصحيح.. وعلاج الجروح النازفة هنا وهناك الآن دون إغفال القيام بما يتعين علينا القيام به.. من الأفضل أن يكون لدينا استراتيجية طويلة المدى للأجيال.. لا يمكننا الاقتصار على التفكير في الشهر المقبل وفي العام القادم علينا التفكير بعد مائة عام من الآن.. بعد 50 سنة على الأقل من الآن، وكيف نعمل لتحقيق هذا الهدف كأمة؟ إذا لم يكن لدينا تلك الرؤية طويلة المدى، لن نبدأ أبدًا..

اللهم اجعلنا شعبًا صاحب رؤية وهدف واجعل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والولاء لله وكتابه أقوى بكثير حتى نكون قادرين على تجاوز خلافاتنا وإيجاد سببًا مشتركًا بيننا، اللهم وحّد قلوبنا واملأها بالحب والاهتمام ببعضنا البعض حتى نصبح نوع الأمة التي يمكن أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لصالحها يوم القيامة.

بارك الله لي ولكم."