في ظل زيادة أعداد منظمات المجتمع المدني في العالم، وزيادة الدور الذي تلعبه بشكل لافت، وتردد المصطلح على ألسنة النخبة أو حتى  أفراد المجتمع، وفي الوقت الذي ما زال مفهوم المجتمع المدني في طور التشكل - يعتبره الطاهر لبيب "مفهوما بلا تاريخ" - زاد السجال حول المصطلح والمفهوم بين من يتخوّف منه وبين من يخّوف به، وبين من يعطيه دور "منقذ العالم" وبين من يعتبره مصطلحا "ناعما" وظاهرة صوتية ليس لها أثر كبير، بل وأحيانا يتحول السجال إلى ساحة حرب فكرية وأحيانا فقهية واجتماعية. 

فما هو المجتمع المدني؟ وما أثره على دور الدولة التقليدي داخليا وخارجيا؟ وما موقعه من عملية التغيير والنهوض الحضاري؟  

ما هو المجتمع المدني؟

يعود مصطلح المجتمع المدني للقرن السابع عشر في أوروبا، بعد سيطرة الحكومة والإقطاع على الشعب وعلى القطاع الخاص، فكان هدفه تقليل التسلّط من أجل تعزيز قيم الحريات وحقوق الإنسان، وكان الفهم الأول للمجتمع المدني على أنه الدولة، ثم تطور المفهوم أكثر ليصبح المجتمع القائم على الأحزاب والنقابات والجمعيات، ثم أخرجت الأحزاب من مفهوم المجتمع المدني، فالمجتمع المدني هو نتاج صناعة البشر حيث تتكون بينهم علاقات تعاقدية وليس المجتمع الطبيعي (العشيرة أو الطائفة)، ولكن هل مجرد وجود منظمات "NGO’s" يعني وجود مجتمع مدني؟! في الحقيقة مفهوم المجتمع المدني يفترض بالأساس وجود مواطن حر وهو درجة تطور المجتمع على مستويين: 

1- مفهوم اقتصاد السوق الحر القادر على إنتاج نفسه خارج سيطرة الدولة.  

2- مدى سيطرة العلاقات التعاقدية بين الأفراد وتفوقها على الانتماءات العضوية مثل العشيرة والطائفة.

وتتصف منظمات المجتمع المدني بأنها: 

  1. غير ربحية 
  2. لا تسعى للحكم (ليست سياسية)
  3. غير حكومية
  4. تقوم على الحوار
  5. أساسها التعددية والمشاركة

ويتصف الأفراد في المجتمع المدني بأنهم: 

  1. أفراد أحرار
  2. غير مرتبطين بعلاقات طبيعية (علاقات الطائفة أو العرق أو القبيلة)
  3. مواطنين (يتعاملون على أساس المواطنة) 

ويذكر د. عبدالله الحامد في كتابه "ثلاثية المجتمع المدني" أن المجتمع المدني يتكون من ثلاثة أمور: 

أولا: القيم ومنها الحرية والعدالة والمساواة والكرامة والشورى،

ثانيا: الإجراءات الدستورية، كالفصل بين السلطات، 

ثالثا: التكتلات الأهلية. 

ثنائية المجتمع المدني والدولة.. كيف تكون العلاقة بينهما؟ 

نبدأ بما ختمنا فيه الفقرة الماضية، يؤكد د.عزمي بشارة أنه من أجل علاقة سواء بين الدولة والمجتمع يجب أن يكون هناك حالة من التوازن بين قيم المجتمع المدني ومؤسساته الدستورية وتكتلاته الأهلية، وكما ذكرنا أيضا، فإن المجتمع المدني قام على أساس تعزيز قيم الحريات وحقوق الإنسان ويعمل بالموازاة مع السلطة.

المجتمع المدني القوي يحتاج دولة قوية في مقابله، وكلما كانت الدولة سلطوية كلما غابت مفاهيم المجتمع المدني وغيّب دوره وضيّق عليه، أما إذا كان المجتمع المدني قويا فإن دوره يصبح كبيرا في الحفاظ على حقوق الإنسان والتنمية البشرية.

وكلما زادت استقلالية منظمات المجتمع المدني عن الدولة زادت أهميتها في مفهوم المجتمع المدني، فهذه الاستقلالية تمثل شرطا لازما وأساسيا من شروط المراقبة الفعالة لسلوك الدولة وأنشطتها(1) وهناك من يعتبر فعالية المجتمع المدني في مواجهة الدولة أحد معايير الحكم الرشيد(2) وعلى العكس، فإن نموه في المجتمعات المنقسمة عرقيا (إندونيسيا) أو في المجتمعات المفككة (الأرجنتين) قد لا يصل للديمقراطية ولكن إلى التقسيم والاستعصاء على الحكم والانهيار، والحل بناء على ما سبق هو التوازن، إذ أننا بحاجة إلى مجتمع مدني قوي وفعال ودولة قوية وفعالة في نفس الوقت، ولكن ما يحدث الآن من التركيز كلية على المجتمع المدني قد يوقعنا في مخاطر إضعاف الدولة وبذلك المساهمة في مزيد من التشظي والاستعصاء على الحكم (3). ويشبّه الدكتور عبد الرزاق المقري المجتمع المدني بجسر عبور يحمل الفكرة من الدعوة للدولة مؤكدا على دوره المهم كممهّد لمن يريد الوصول للحكم.

المجتمع المدني في الوطن العربي.. التحديات والإمكانات 

يشير باحثون عديدون إلى صعوبة زرع أعراف المجتمع المدني في الثقافة المجتمعية العربية المعاصرة لأسباب عديدة (4) أولها: أن التراث العربي والإسلامي لم يتشرب مفهوم المجتمع المدني وثانيها: أن مفهوم المجتمع المدني لازال ذا إشكال لارتباطه بالغرب والحداثة الغربية، أما الثالث فهو أن كل محاولات الإصلاح الحديثة في الدول العربية أهملت تفعيل الإرادة الشعبية حيث يمكن اعتبار المجتمع المدني روح تلك الإرادة، والسبب الرابع يرجعه د.متروك الفالح إلى البيئة حيث أن بيئة المجتمع العربي هي بيئة "متريّفة" غير قابلة لاحتضان تكتلات المجتمع المدني، ويصل د.الفالح إلى نتيجة مفادها أن عدم فاعلية التعويل على فكرة المجتمع المدني في المنطقة العربية واستبداله بفكرة المجتمع الأهلي، ومن رأيي فإن إشكال المصطلح ليس ذا قيمة كبيرة بقدر ما يجب التركيز على الأدوار والأهداف التي يلعبها ذلك المصطلح.

تتميز البيئة العربية بتواجد قوي للتجمعات القروية والبدوية والعشائرية والطائفية وهي لا تتناسب مع مبادئ ومفاهيم المجتمع المدني، ولاشك أن التعصب لتلك التجمعات يخل بنسيج المجتمع المدني ولكن هل يعني ذلك أن علينا استبعاد تلك التجمعات بشكل نهائي ومستعجل من أطر المجتمع المدني الأهلي؟! 

يقول د. عبدالله الحامد أنه لا بد من استيعاب تلك التجمعات لأسباب منها: أن المجتمع العربي يحتوي أكبر وأطول امتداد صحراوي كما يقول علي الوردي فإذن لابد للقرية والعشيرة من أن تعبر عن نفسها، والثاني هو الخوف من فكرة التمدين القسري للريف والبادية، أما الثالث أن المفهوم لا يرفض القبيلة رفضا مطلقا بل يرفض إعطاءها دورا محوريا أو مركزيا.

ويحذر هوارد ويارد من قيام المجتمع المدني بتقويض تلك الروابط والتجمعات حيث سيؤدي وفق تعبيره إلى "أسوأ ما يمكن أن يحدث في العالم: أن تقوض تجمعات المصالح المشتركة القديمة قبل أن تتاح لتجمعات المجتمع المدني الجديدة الفرصة لكي تستقر في المجتمع".

بالمقابل، في ظل العولمة وثورة التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي، وفي ظل تحول بعض دول العالم الثالث من دول استبدادية شمولية إلى دول ضعيفة ومترهلة زادت أعداد منظمات المجتمع المدني هناك وانتشرت ثقافة المشاريع والمؤسسات والعمل المجتمعي مع وجود القيود والصعوبات وضعف التجربة، عدا أنه لا يوجد في الثقافة العربية والإسلامية ما يمانع ويصادم مفاهيم المجتمع المدني.

تونس والكويت أنموذجا

تمكنت تونس من تعزيز قيم الحريات والديمقراطية على مدار سنوات بشكل لافت ومميز عن باقي الدول العربية بسبب وجود مجتمع مدني قوي مكون من جمعيات ونقابات تراقب وتسائل وتطالب وتتدخل في الشأن العام في جو من التعددية وتنوع التيارات الأيديولوجية، أما في تجربة الكويت فبادرت السلطات هناك بعد حرب الخليج في الموافقة على زيادة أعداد المؤسسات الأهلية لاستشعارهم أهمية تلك المؤسسات في الحفاظ على الدولة وقت الأزمات.

هل يمكن تصدير المجتمع المدني الغربي للشرق الأوسط؟ 

يذكر الأمريكي هوارد ويارد في كتابه "المجتمع المدني النموذج الأمريكي والتنمية في العالم الثالث" أن تعبير المجتمع المدني له "وقع تجريدي رائع"، من خلال مفاهيم مثل الديمقراطية والتعددية ولكن عند تطبيق مفهوم المجتمع المدني في عدد كبير جدا من البلدان يكون – على حد قوله – وسيلة لاستنزاف أموال الجهات المانحة الدولية دون تقديم الكثير نحو طريق الإصلاح، وباعتباره واجهة لممارسات سلطوية، أو للسيطرة على الجماعات الاجتماعية والسياسية الجديدة ووضع قيود لها بدلا من اعتباره وسيلة إلى الدمقرطة الحقيقية (3)، وهناك مشكلة أخرى متعلقة بالمفهوم -أو بالتمركز العرقي للأمريكيين- والذي قد لا يكون بالضرورة متفق عليه في كل البلدان – ولا يجب ذلك أصلا – حيث يدعو هوارد ويارد إلى التعرف على أشكال أخرى للمجتمع المدني مثل الأشكال الكونفوشيوسية والإسلامية وحتى الغربية! حيث يمكن أن تختلف أشكال المجتمع المدني في الغرب عن الصيغة الأمريكية المستندة على تعاليم جون لوك، ويؤكد أن المسؤولين الأمريكيين عندها يشعرون بالضياع تماما ذلك أنه يتعذر عليهم تصور شكل للمجتمع المدني يختلف عن الصيغة الأمريكية ويصابون بالحيرة ويعودون إلى اللجوء إلى النموذج الأمريكي ويلقون باللوم على الدولة المعنية لفشلها في التعايش مع النظام المذكور، ومما يؤكد ضرورة البحث في  نماذج المجتمع المدني في العالم هو تجربة دول شرق آسيا - مثل اليابان - حيث حقق بعضها التقدم والازدهار الاقتصادي بدون النموذج الغربي أو الأمريكي.

موقع المجتمع المدني من عملية التغيير  

يلعب المجتمع المدني بحكم موقعه كوسيط بين الدولة والأفراد دورا مهما في عملية التغيير وفي موازنة العلاقة بين الدولة والأمة، كون الأمة صاحبة السيادة، فهو يمثل إرادة الأمة ويقاوم أي انحراف في المسار التنموي والديمقراطي، ويساهم أيضا في إعلاء قيم المجتمع المدني وهي قيم لها أثر مباشر في حياة الإنسان وتنمية قدراته ومدافعة الاستبداد السياسي مثل قيم الحرية والشورى والعدالة والمساواة، وغيرها حيث "لايحتمل صلاح السلطة من دون صلاح الأمة، ونسوا ثالثا أن صلاح الأمة الذي يفضي إلى صلاح السلطة لا يكون بمصادرة الحرية والجبر، أي لا يكون من دون رسوخ قيم المجتمع الأهلي المدني وتجسد تجمعاته"(4)، فعند غياب منظمات المجتمع المدني ستحل محلها التجمعات العشائرية والطائفية وهذا مؤذن بخراب البلاد وفساد العباد على حد قول د. عزمي بشارة، هذا غير الدور الخارجي الكبير الذي لعبته منظمات المجتمع المدني على الصعيد الدولي، فعلى سبيل المثال استخدمت أميركا منظمات المجتمع المدني للإطاحة بالأنظمة الشيوعية في أوروبا وفي توجيه برامج المساعدات الأميركية للعالم الثالث و"تنشئ مجتمعا مدنيا وتقدم له المساعدة بل كانت تبتدعه أيضا"(3) مما أدى لتسييس المفهوم في بعض الأحيان. 

نموذج لمؤسسات دولية خيرية ناجحة: (1)

  1.  مؤسسة فورد: هي مؤسسة دولية مقرها في نيويورك تتمثل مهمتها في تعزيز رفاهية الإنسان حيث ساهمت في داخل أمريكا في مساعدة الحكومة في صياغة السياسات التعليمية وتطبيقها، وخارجيا امتد نشاطها إلى الأنشطة الإغاثية والتنموية وبلغت قيمة أصول المؤسسة 12.4 مليار دولار ووافقت على منح قدرها 507.4 مليون دولار في 2014. 
  2. مؤسسة بيل وميليندا غيتس: هي مؤسسة خيرية نشأت عام 2000، وتنفق أكثر من مليار دولار سنويا، تقريبا بحجم إنفاق منظمة الصحة العالمية، وتتركز جهودها في رفع الوعي العام ومحاربة الأمراض العالمية في الدول الفقيرة.

في نقد المجتمع المدني   

يؤكد "هوارد ويارد" أن المجتمع المدني مفيد بلا شك عندما يكون ناجحا، لكن ماذا لو أن نمو المجتمع المدني والتعددية المنبثقة عنه أدت إلى إضعاف سلطة الحكومة وصنع السياسة في بلدان ضعيفة في مجال الخدمات مثل ما حصل في الهند وأندونيسيا بحيث يصبح بديلا للأحزاب السياسية التي تعتبر أساسية لتحقيق الديمقراطية؟ وماذا لو قوّض الصيغ والروابط التقليدية الموجودة في المجتمع مثل القبائل وجمعيات الطوائف والجمعيات العرقية؟ وهناك مشكلة أخرى متعلقة بتسييس المفهوم بين النخبة المحلية والسلطات في العالم الثالث، وبين الهيئات الأمريكية وبرامج المساعدات مثل وكالة التنمية الدولية والسفارات الأمريكية والحكومات الأمريكية المتعاقبة وغيرها، كل هذا أدّى لتخوّف الناس في الوطن العربي في التعاطي مع منظمات المجتمع على أنه مؤامرة أو شيء خارج الثقافة العربية والإسلامية أو على الأقل مازال مجهولا وبالتالي يثير الريبة.

في النهاية يبقى المجتمع المدني أحد المفردات التي تفرض نفسها بقوة في الواقع خاصة بعد العولمة والتنظير لمرحلة "المجتمع المدني العالمي" مما  يفرض علينا التعامل مع المفهوم وتكييفه والتأصيل له في البيئة العربية والإسلامية حتى يزول الالتباس، وحتى لا نقف منه موقف رد الفعل من دور المؤسسات الدولية التي لا يخفى أثرها في الساحة العالمية اليوم على أحد.