لا يخفى على مطالع  للفكر الإسلامي ذلك الصراع الذي اشتعلت شرارته بين فلاسفة الإسلام، وعلماء العقيدة الإسلامية، عند ترجمة فلسفة اليونان، والذي امتد لأكثر من ستة قرون، وما نقض الغزالي تهافت الفلاسفة وهناك رد ابن رشد تهافت التهافت، ونقض الشهرستاني على بن سينا مصارعة الفلاسفة،  ورد الطوسي مصارعة المصارع  إلى فصل من رواية طويلة.
في ظل هذا الجو الصدامي ظهر فيلسوف وعالم عقيدة وفقيه مسلم هو "الوليد بن رشد" وكان عمله  "فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة  من اتصال" ليس قصد هذا العمل وصاحبه الإنتصار لفريق دون فريق، أو الإنتصار لرؤية كونية ضد أخرى، بل لتقريب وعقد تصالح بين علماء العقيدة الإسلامية من جهة وفلاسفة الإسلام من جهة أخرى، ومن جهة أخرى إبرام صلح بين الحكمة من جهة والشريعة من جهة ثانية.
يمكن القول أن "فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" فتوى في شرعية الفلسفة ضد فتوى أخرى سبقتها في ختام كتاب تهافت الفلاسفة، تنهى عن مطالعة كتب الفلسفة لأنها مخالفة للشريعة الإسلامية. 
يبدأ صاحب فصل المقال في تبيين الغرض من كتابه وهو النظر في مسألة "هل الشريعة أمرت بالحكمة أم أنها قد نهت عنها"؟ 
 يقول إبن رشد: "فإن الغرض من هذا القول أن نفحص وجهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ أم محظور؟  أم مأمور به؟  إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟
لينتهي ابن رشد إلى أن البحث الفلسفي قد دعت له الشريعة، وحضت عليه، وهو إما واجب أو مندوب، لأنه هو الذي يصل بأصحاب العقول السليمة لليقين بالوجود الإلهي، وصفاته الكريمة. 

يقول: " فنقول إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة  دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكأن الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك فبين أن ما يدل عليه هذا الإسم إما واجب بالشرع، وإما مندوب إليه".

ومقدمات هذا الحكم أي وجوب النظر في الموجودات من جهة ماهي مصنوعات لله سبحانه وتعالى ظاهرة في الكتاب العزيز في أكثر من موضع، يقول فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بيّن في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى مثل قوله تعالى: ((فاعتبروا يا أولي الأبصار))  (سورة الحشر الآية: 2). وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معاً. 
ومثل قوله تعالى ((أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء)) ( سورة الأعراف الآية: 185). وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات، هذا ليس أن الشريعة أمرت بالنظر العقلي وكفى، بل أن الشريعة والحكمة يلتقيان عند غاية واحدة وهي الحث على الفضيلة العملية. 
 يقول: " فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذا كان مغزاهم كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه،  إذا فلا وجه لكي ننهى الناس عن مطالعة كتب الحكمة، فمن فعل مثل هذا فقد صد الناس عن إحدى الطرق التي نصبها صاحب الشريعة لمعرفته سبحانه وتعالى.  
يقول إبن رشد: " وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها، وهو الذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية؛ فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله. وباب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة. وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى".
هنا نجد شروط يضعها إبن الرشد لمن سيطالع هذه الكتب، وهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية أي الفضيلة الخلقية. الشرط الأول ضروري لأن صناعة الحكمة هي أصعب الصنائع ولا تتيسر لأي كان، وأما الشرط الثاني فهو ضروري ليس للحكمة فقط، بل لكل الصنائع؛ أما لماذا هو ضروري للحكمة لأن من سيقرأ هذه الكتب سيقوم بالشهادة وهذه الأخيرة تحتاج للفضيلة لكي تأخذ من صاحبها.
ومن هنا رأينا الكثير ممن يطلق عليهم علماء يشهدون شهادة زور لا تخفى على مطالع بسيط للعلوم، بل إن الكل يعلم أنها شهادة ما أريد بها وجه الله، ولا وجه الحقيقة، مثل قول ذلك العالم الفيزيائي " أن الكون ليس بمسالم أو عدائي لكنه  فقط لا يبالي بأمور كائنات ضئيلة مثلنا " هذه شهادة زور لأننا نعلم أن الكون لا يوجد فيه إلا ما هو ضروري للوجود الإنساني، أي لا يمكن أن تكون هناك حياة بدون الهواء ونسبته  للجاذبية ونسبتها للأرض ومكانها، أو ليجعل حياة الإنسان أفضل مثل الفصول الأربعة.
وإبن رشد على علم بتلك الطائفة من الزنادقة التي كانت الفلسفة سببا في زندقتها وكفرها، والتي كانت الحكمة هي السبب في أنها عاثت فسادا في الجبال والهضاب. من بينها تلاميذ للفيلسوف الأول أبو إسحاق الكندي ولهذا دلالة كبيرة  ظهور الفيلسوف الأول تبعه ظهور الزنادقة الأوائل.
 يخبرنا صاحب فصل المقال أن هذا الفساد داخل عليها بطريق العرض وليس بالذات، وهذا الفساد لم تنجوا منه حتى الصنعات الأخرى؛ يقول إبن رشد:  "وليس يلزم من أنه إن غوى غاو بالنظر فيها، وزل زال، إما من قبل نقص فطرته، وإما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلماً يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو أكثر من واحد منها، أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها. فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات. وليس يجب فيما كان نافعاً بطباعه بذاته أن يترك، لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض".

بل نقول إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالغرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري.

وهذا الذي عرض لهذه الصنعة هو شيء عارض لسائر الصنائع. فكم من فقيه كان الفقه سبباً لقلة تورعه وخوضه في الدنيا، بل أكثر الفقهاء كذلك نجدهم وصناعهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية. فإذاً لا يبعد أن يعرض في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العلمية ما عرض في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العملية.
فلا وجه هناك إلى ذاك التعارض المزعوم بين الحكمة والشريعة، أو بتعبير إبن رشد نفسه  إن هذه الشريعة، حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق فإنّا معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع. فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له. ويقترح إبن رشد طريقا يصل بنا إلى ذلك التوافق بين الحكمة والشريعة.
فإن النظر البرهاني لابد أن يفضي بنا نحو علم ما وعندها لا يخلوا الأمر من ثلاثة أوجه:

  •  فإما أن يكون قد سكتت عنه الشريعة فلا قول هنالك، فإن هذا يكون بمنزلة الأمور التي سكتت عنها فاستنبطها العلماء.
  • وإما أن الشريعة قد أصدرت حكمها فيه فلا يخلوا من أمرين، فإما أن يكون موافقا وهذا يقال عنه موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول.
  • وإما أن يكون ظاهر الشرع مخالفا فإن كان كذلك طلب هنالك تأويله. 

ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت، في تعريف أصناف الكلام المجازي.
وهنا يجب أن نقف مع التأويل الذي يقترحه إبن رشد؛ فإنه ليس ذلك التأويل الذي ينشده المبتدعة أو أعداء الإسلام، والذي عن طريقه يفرضون أهوائهم على العباد، ويقولون صاحب الشرع مالم يقله؛ بل التأويل المفضي للإرادة الإلهية والكاشف عن مقصد الشارع سبحانه وتعالى، لأنه مقيد بطريقة العرب في التفهيم وهي الطريقة التي نزل بها القرآن. 
وهذا الجمع بين الحكمة والشريعة على طريقة وأساليب تعبير العرب ممكن. يقول إبن رشد ونحن نقطع قطعاً كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن.
 

ومن هنا يخبرنا إبن رشد عن السعادة التي تغمر قلب ذاك الذي يجمع بين صريح المعقول وصحيح المنقول يقول : "وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول. بل نقول أنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتُبر الشرع وتُصفحت سائر أجزائه وُجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد".

فإن كل علماء المسلمين متفقون على أن تأويل كل ألفاظ الشريعة ليس واجب، وليس أن تحمل الكل على الظاهر، لكن هناك خلاف في ما يجب تأويله، وما يجب أن يأخذ على الظاهر بحسب إبن رشد " فالصواب أن تعلم تلك الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها، وكذلك الذين يرون أن الحكمة مخالفة لها من الذين ينتسبون للحكمة أنها ليست مخالفة لها، وذلك بأن يعرف كل واحد من الفريقين أنه لم يقف على كنههما بالحقيقة؛ أعنى على كنه الشريعة و على كنه الحكمة، وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها، وإما رأي خطأ في الحكمة.