إنّ الحرية من وجهة نظرنا كمسلمين تعني "قول وعمل ما لا يضرّ بأدب"، بينما يراها الغرب حرية القول والعمل والتصرف دون قيود. والسؤال الذي يطرح نفسه: من الذي يحدد أن هذا من الأدب، وذاك ليس من الأدب؟

حارت بهذا السؤال عقول الفلاسفة والمفكرين، وبشكل عام أرى أن الذي يحدّد الأدب على الترتيب أربعة أمور: الشرع، العقل، العرف، الضمير الحي.

ولننطلق الآن في جولة ممتعة في عقول العلماء والفلاسفة والمفكرين، والإجابة فيه على أربعة أقوال:

القول الأول: الشرع

يقول أصحاب هذا الرأي إن شرع الله تعالى، هو من يحدد أن هذا الفعل مؤدب أو مخالف للأدب، فما أباحه الشرع وأجازه فهو من الأدب، وما منعه ونهى عنه، فليس من الأدب.

وفي هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة".

لكن هل أجاب العلماء على كل الاحتمالات؟ وهل أحاط الفقهاء بكل الأمور، وماذا عن الأمور التي سكت عنها الشرع، هل هي من الأدب أم من سواه؟ 

القول الثاني: العقل

أما الفريق الثاني فقد اختار أن يكون العقل هو الذي يحدد ما هو من الأدب، وما هو ليس منه. وأشهر من أخذ بهذا الرأي فرقة يُقال لها "المعتزلة"، قالوا: التحسين والتقبيح أمران عقليان، فما حسّنه العقل فهو الحسن، وما قبّحه العقل فهو القبيح.

وقالوا: "إن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، والفعل حسن أو قبيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له، وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبين لتلك الصفات فقط".

الكمال معوز

ونضع بين يدي أصحاب الرأي الثاني "المعتزلة" هذه الأسئلة العميقة:

  • أليس العقل البشري محدوداً؟
  • ألا يتصف العقل البشري بالقصور؟
  • هل يصل دائماً إلى نتيجة صحيحة؟
  • ألا يمكن أن يضلّ العقل عن جادة الصواب؟
  • ألا يتأثر العقل بالشهوات والعادات والتقاليد والأعراف السائدة؟ 
القول الثالث: العرف

ذهب آخرون إلى أن العُرْف هو الذي يحدد أن هذا من الأدب أو ليس من الأدب، وهو الذي يحدد لنا المسموح والممنوع. ويُقصد بالعرف: "ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول"،كما يقول الإمام الجرجاني.

فالعرف كلمة مأخوذة من (المعروف) ويقصد بها ما تعارف عليه الناس، واشتهر بينهم وأصبح عادة لهم، وكان فعله من المقبول اجتماعياً.

لكن هل كل الأعراف صحيحة، عقلاً وشرعاً؟ وهل ذات الأعراف مقبولة عند جميع الناس؟

القول الرابع: الضمير الحي

ذهب فريق رابع إلى أن الضمير أو الوجدان هو الذي يحدد أن هذا من الأدب أو ليس من الأدب، وهو الذي يعين على التمييز بين الحسن والقبيح، وبناء عليه يتخذ الإنسان قراراته، ويتبنى مواقفه من الأشخاص والأحداث والسلوكات.

وقد عرّف المعجم الفلسفي الضمير بأنه: "استعداد نفسي (مَلَكة) لإدراك الحسن والقبيح من الأفعال، مصحوب بالقدرة على إصدار أحكام أخلاقية مباشرة على قيمة بعض الأفعال الفردية".

تجميعية لا انتقائية

بعد طول تأمل أرى أن العملية ليست انتقائية، بل تجميعية، أي أن نُعمل هذه الأربعة (الشرع، العقل،العرف، والضمير) من أجل تحديد الحسن والقبيح، وإعمالها جميعاً خير من إبطال أحدها، بمعنى: يصعب أن نقول إن الشرع وحده، أو العقل وحده، أو العرف وحده، من يحدّد ما هو من الأدب، وما هو ليس منه، ما هو حسن وما هو قبيح؟ فكم من نصّ شرعي يحتاج إلى العقل للكشف عن مقاصده وأسراره، وكم من عقل لا يستطيع أن يتجاوز النصّ؟ وكم من نصّ يُرجّح تفسيره بالعرف والعادة.

فإن لم نستطع أن نجمع بين الشرع والعقل والعرف والضمير، فالترتيب هو تقديم الشرع ثم العقل ثم العرف ثم الضمير الحي.

موافقة العقل للنقل

أنا على يقين أنه لن يتعارض الشرع مع العقل، فكثيرة هي التصرفات والسلوكات التي يتفق فيها الشرع والنقل على أنها حسنة محمودة ومقبولة، وأخرى يتفق فيها الشرع والنقل على أنها قبيحة مذمومة مرفوضة.

وهناك أقوال وأفعال تقع في دائرة لا يختلف الناس على أنها حسنة ومُرَغّب فيها، وهناك أقوال وأفعال تقع في دائرة لا يختلف الناس على أنها قبيحة مُنَفّر منها، وبين الدائرتين هناك منطقة رمادية (أقوال وأفعال) مختلف عليها، أهي من الحَسَن أم من القبيح، من الأدب أم من غيره.