جاء أحد إخوان عرقوب يسأله شيئا، فقال له عرقوب: إذا أطلع نخلي. فلما أطلع أتاه فقال: إذا أبلح، فلما أبلح أتاه فقال: إذا أزهى، فلما أزهى أتاه فقال: إذا أرطب، فلما أرطب أتاه فقال: إذا أتمر، فلما أتمر جذه ولم يعطه شيئا فضرب به العرب المثل في خلف الوعد. 

ولا شك أن العرب لا تضرب المثل إلا بمن فاق الناس في صفة أو خلق ولو كان سيئا، وبمن كان يأتي شيئا قل أن يأتي به غيره. فلما ضربت العرب مثلا بمن كان مخلافا للوعد، علمنا أن ذلك لم يكن لهم خلقا ولا صفة. 

إذا ما بال العرب اليوم صار من يلتزم منهم بالميعاد كالشعرة البيضاء في جسد الثور الأسود؟ ما بال العرقوبية صارت لأكثرنا مذهبا؟ حتى عرف بعضهم العربي بأنه إنسان غير مُتَزَمِّنٍ، أي لا قيمة للزمن عنده حتى كأنه لا يؤثر فيه. 

بل وترى البخيل فينا بدرهمه أو ديناره حاتما الطائي بوقته وساعاته. ألم يبعث الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ليكمل هذه مكارم العرب ويتممها؟ فما خطبنا نبغي نقصانها؟

لقد شغلنا عن نعمة الزمان رغم التحذير النبوي "وعن عمره فيما أفناه"، وصدق فينا قول مالك ابن نبي: إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب.

لن نستغرق في وصف حالنا غير الخافي عنا، ولنتساءل: لماذا رغم كثرة الدعوات لإعطاء الوقت حقه، وقدره حق قدره لا زلنا أتباع عرقوب؟ فالله جل جلاله أقسم بالزمان وأجزائه، "والعصر"، "والفجر" "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى" "والضحى"، والرسول صلى الله عليه وسلم رغب ورهب، وورثة الأنبياء ومصلحوا كل زمان ألفوا وحاضروا عن أهمية الوقت بل وتركوا لنا أفعالا هي أقوى من الأقوال في حسن تدبير سويعات حياتهم حتى استحالت دهورا.

فإن كان حديثنا عن أناس مدركين قيمة الوقت والزمان -وهم قصدنا ابتداء- فلنعلم أنهم متخمون من الوعظ، وبيان فضل الأوقات وسرعة انقضائها. وأما غيرهم، ممن غفل عن أيامه المنقضية، فهم إلى القدوات أحوج منهم إلى المقالات والمحاضرات، وإن كان لكليهما حاجة.  

إن كثيرا منا حين يقرأ عن أحوال سلفنا الأماجد من قبيل قول أنس بن عياض: "رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غداً يوم القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة". وقول ابن عقيل "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح"، أو ما نقل أحد جلساء سفيان الثوري قال: كنا مع الثوري جلوساً بمكة، فوثب وقال: النهار يعمل عمله.  

فعند سماع مثل هذه الأخبار يزدري الواحد منا نفسه، ويتهمها وقد يصل به الأمر إلى جلدها وهو لا يدري، و هذه من مخادعات النفس، إذ سرعان ما نعود لسالف حالنا من تضييع الأوقات وسوء تدبيرها. 

ولنتأمل توصيف ابن القيم لحالنا هذا وهو يقول: " لأن حسرة الفوت قاتلة. ولا سيما إذا علم المتحسر: أنه لا سبيل له إلى الاستدراك. وأيضا فالغيرة على التفويت تفويت آخر، كما يقال: الاشتغال بالندم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر. ولذلك يقال: الوقت سيف إن لم تقطعه وإلا قطعك" 

ألا فليعلم أهل اليقظة في زماننا أن ههنا أمرين هامين:
  • هذا الذي بلغه هؤلاء الأكابر، كان نتيجة مجاهدات، وسعي قد دام سنين عددا. وأنت في بداية الطريق فلا تيأس، وعليك ببداياتهم تنل نهايات أمرهم.
  • لو استقصينا كل هذه الأخبار فلابد أن نجدها محصورة. وهذا يدل على أنها لأناس عُدُّوا من فلتات الزمان. فاعرف قدر همتك وعلى قدرها حدد هدفك.

وخلاصة ما مر نلخصه في كلمة: الواقعية. كن واقعيا في تعاملك مع الوقت، وسبيل تحقيق ذلك إشارة نبوية التقطها الدكتور عبد الرحمن ذاكر الهاشمي، وجعلها خطة لحسن تدبير الوقت. أما الإشارة النبوية فهي جوابه صلى الله عليه وسلم حين سئل: "أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «أدومها وإن قل» وقال: «اكلفوا من الأعمال ما تطيقون». 

وأما الخطة "الهاشمية" فهي: أقل القليل، ومضمونها: احرص على أعمال محدودة تواظب عليها يوميا سفرا وإقامة، فراغا وشغلا. ومتى استطعت تثبيت هذه الأعمال حتى تصير عادة لك زدت فيها شيئا فشيئا، حتى تبلغ مناك وهدفك.

وهذا سيحتاج منك أمرا لا يقل عن الأول أهمية ألا وهو التربية على تقدير الوقت. وهذه يبدأ وقتها من الطفولة بتعويد الطفل أعمالا موقتة ولم لا برنامجا يوميا يناسب سنه متحملا مسؤولية مراقبته.

وأما تربية الكبار فأول خطواتها أن يدرك المرء أن التربية تحتاج وقتا وصبرا واصطبارا، ولا يكفي فيها قراءة كتب الهمة العالية ولا سير الصالحين. ولئن كان مالك بن نبي قد مثل لهذه التربية بأن يفرغ كل مواطن نصف ساعة يوميا خدمة للبلد تطوعا -مستوحيا الفكرة من فعل شعب ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية-، فقد صار الأولى أن نقول لهذا المواطن التزم بأداء ما عليك من واجب فقط، فهذا كفيل بخدمة الوطن.

وإذا أردت معيارا لمدى تقديرك للوقت والتزامك بمواعيدك فانظر حالك مع الصلوات الخمس المفروضات، فمن كان مضيعا لميعاد خالقه فهو لمواعيد الخلق أضيع، ومن ينتظر وفاء من مثل هذا فَلْيُسَلِّ نفسه بقول الشاعر:

وأنتظر الْوَفَاء من عرقوب لقد رجعت إِذن بخفي حنين