أشرنا في مقالات سابقة أن تحدي النموذج المعرفي الغربي ووجود المقلدة من أبناء أمتنا لهذا النموذج المعرفي، يتطلب منا استعادة مركزية القرآن في صياغة وإنتاج المعرفة، لما صارت عليه مسألة العلاقة بين الدين والعلم في وسطنا الفكري، وما وقع فيها من خلط بحكم التقليد للوافد الغريب، وبحكم غياب رؤية قرآنية تحكم علاج هذه العلاقة في وسط المفكرين المقلدين للنموذج الغربي.

ولعل طه عبد الرحمن محق حينما قال: "لقد فكَّر غيرُنا طويلا في الصلة بين العلم والدين، حتى أضحى هذا التفكير سبيلهم إلى صنع تاريخ لهم جديد، تاريخ أضفوا عليه من جميل الأوصاف ما أضفوا؛ فهل فكَّرنا نحن من جانبنا في هذه الصلة كما فكَّروا، وطوّلنا في هذا التفكير كما طوّلوا، وخرجنا منه بما خرجوا؟" (مجلة حراء 2007). 

كما أشار طه عبد الرحمن إلى أن من بين المواقف تجاه هذه العلاقة بين الدين والعلم أن هناك من يراها علاقة "تناقض صريح" بين بين العلم والدين. بل بالغ أصحاب هذا الموقف في التمسك بهذا التناقض، ولم يروا مخرجا منه لا بترجيح ولا بتفريق، بل جعلوا العلم حربا على الدين وجعلوا الدين حربا على العلم، ورأوا أنه لا مخرج من هذه الحرب إلا بانتصار العلم وانهزام الدين؛ فانتصر العلم لديهم وانهزم الدين.

ولعل هذا كان جليا في أوروبا في أواخر عصورها الوسطى وبداية نهضتها، في وقت كان الصراع بين العلم والدين على أشده، عندما كان العلماء يتجهون اتجاها معاكساً تماماً لاتجاه الكنيسة وباباواتها، مع تدهور في نظام الكنيسة، وضعف سلطتها التي بلغت أوجها في العصور الوسطى، وقوة متعاظمة اكتسبها العلماء بعدما توصلوا إليه من اكتشافات أقنعت الناس بقيمتها وجذبتهم إلى رحابها.

وظن الناس والعلماء معهم في أغلب الأحيان في ظل انبهارهم بالنتائج التي توصلوا إليها في المجال الطبيعي أن لدى العلم الطبيعي إجابة عن كل سؤال واستفسار يتعلق بأي أمر من أمور الطبيعة وما وراء الطبيعة، أو أن له القدرة على بحث كل شيء متعلق بهذه العوالم، بل إنه الوسيلة الوحيدة التي بها يعرف الخير والشر، وبه يحسم الخلاف في كل ما يتعلق بالإنسان والكون، والله، وبطبيعة الحال، وبحكم الظروف المختلفة من انتصارات غربية في ميادين العلم والسياسة، وانحطاط وتدهور في أنظمة الكنيسة، وتأييد شعبي للعلم والعلماء كان العلماء في مواجهتهم مع الكنيسة في وضع يردون الصاع صاعين، وما فعلته الكنيسة بالعلماء في بداية العصر الحديث كان العلماء في وضعهم الجديد يفعلونه بالكنيسة وأصحابها.

في هذا الجو المشحون بالحماس للعلم وأهله، والبعد عن الدين ممثلاً في رجال الكنيسة في تصرفاتهم وسلوكياتهم، كان على أي نظرية أو مذهب أو دين أو فلسفة تريد أن تجد لها أرضاً وقبولاً وأنصاراً وثباتا أن تقدّم نفسها في صيغة يرضى عنها العلماء الطبيعيون ولو في المناهج على الأقل كما يقول الدكتور ميرا.

في هذا المزاج العام تطور القول بالتناقض بين الدين والعلم، حينما بدا العلم وكأنه يكتسح مساحات سيطرت عليها الكنيسة قرونا. وفي سكرة النجاح بدا قادراً على بيان كل شيء، وفي عقول الكثيرين كان هناك اقتناع بأن فجر عصر جديد قد بزغ، وأن الإنسان بقدراته المستقلة على وشك التغلب على جميع العقبات التي تعترض طريقه نحو التقدم والسرور، أما فيما يتعلق بالدين والإله فلن تكون هناك أي حاجة إليهما.

غير أن الأمر المشكل هو أن يوجد من بيننا من يتبنى هذا الموقف دون تمحيص أو مراعاة الفارق بين دين ودين، بل محض تقليد، وما أدرك اصحاب هذا الموقف من المقلدة كما يقول عبد الرحمن "أن أسباب النـزاع بين العلم والدين عند غيرنا لا وجود لها ألبتة عندنا، مهما تكلفت من أسباب المشابهة بيننا وبينهم، ومهما لفَّقت من تُهم لتاريخنا حتى يكون بسوء تاريخ غيرنا، طامعة في أن يُقبل موقفها كما قُبِل موقف غيرها، وهيهات أن يُقبل! فالفجوة بيننا وبين سوانا في هذا الأمر لا هي حفرة تُردم ولا هي هوة تُعبر".

ولهذا فإنه في مؤتمر عقد بجامعة بركلي سنة 1999، كتبت مارغرت ورثيم عرضا للمؤتمر تساءلت فيه بقولها: "ما هو الدين الذي نتحدث عنه حينما نعقد المقارنة بين العلم والدين؟".

وهو تساؤل مشروع ومهم، يهمله كثير من الكتاب في الموضوع، وخاصة المقلدة من الحداثيين في العالم الإسلامي، حيث أنهم "ينطقون من خلفية مسيحية أو يهودية فيناقشون مسألة الدين عموماً باعتبارها ممثلة في التراث اليهودي- المسيحي فحسب، أو باعتبار هذه التراث عينة مماثلة للدين بوجه عام". وهذا ما جعل مارغرت ورثيم تنعي هذا الأمر وبشدة على مروجيه وتطالب حين البحث في هذه المسألة بالنظر إلى كافة الأديان والمعتقدات الأخرى حيث تقول: "إن ظِلَّ التقليد المسيحي لا يزال يجثم على العالم، ومن الواجب على حركة (العلم والدين) ألا تكرر أخطاء الماضي. والسؤال الذي لا يمكن تجاهله هو: عند أي تأليف بين الدين والعلم أي إله وأي تصور عن الكون يجب تضمنه في هذه العملية".

ولعل هذا التقليد هو ما أشار إليه الدكتور طه عبد الرحمن في نقده لهذا الموقف، من خلال نقده للتعميم الذي يقوم به المقلدة من أبناء أمتنا للفكر الغربي، فيعممون أحكاما منقولة من سياق حضاري وديني مختلف على السياق الحضاري والديني الإسلامي دون تمحيص ولا نقد ولا تحقق بالفروق.