هذه الفجوة البينية المظلمة التي تتوسط مرحلتين مختلفتين وتمثل حلقة الوصل بينهما دون أن تحمل خصائص أي منهما فلا هي امتداد لتحفُّظ الماضي وإيدلوجيته الفكرية الحافلة بالنشاط التعليمي والتثقيفي التقليدي المؤطر والعام، ولا هي التحمت بركب المستقبل المتفوِّق علمياً وفكريا وتقنياً، المبالِغ في سرعة تقدمه على سلم التطور وتغيير ملامح الحياة.

مسافةٌ ضبابية لا يمكن رؤية ما خلفها إلّا عبر نظرة التأمل والتفحُّص الدقيق ويعسر فهمها إلا بالاستقراء الصحيح لطرفيها.

هناك على جانب المستقبل، أممٌ امتطت صهوة العلم، تصعد وترقى كل يوم وتراكم ثروتها الحضارية وتطوّر وسائلها. وعلى الجانب الآخر، أمةٌ تطحنها الحروب وتحطم قدراتها، وتضعف إمكانياتها.

أمةٌ سجنت عقلها في الماضي وحصرت تفكيرها وإبداعها في العصور الغابرة؛ تعيد تحليل الأحداث، و تستقرئ أسباب الصراع وتنقسم على بعضها موزَّعةً على أطرافها، مسقطةً حاضرها عليه، مشعلةً لأجله الحروب.

مسافةٌ حضارية هائله بين الفريقين وهوةٌ حائرةٌ تبتلع جيلاً سيء الحظ، منحوس الطالع. أحسن مواليده حظا من اِستطاع القراءة والكتابة قبل اِنفجار الحرب ولحق شيئاً بسيطاً من التعليم قبل تشظي الوطن. والأشد شقاوةً وتعاسة مواليد استقبلتهم أيدي المنظمات والتقموا أول رضّاعةٍ مطبوعة عليها شعارات المانحين.

هذا الطفل الذي التحق بالمدارس ضعيف البنية، خاليا من الهموم، مخمليُّ الروح، مرهف الإحساس تُضحكه بسمة، وتبكيه الإشارة بسِجلّه الملائكي وخياله المشحون بالفضول، يعبث بكل ما لمست يداه ويفرح بأبسط الأشياء ويلهو مع كل شيء. يعتبِرُ التحاقه بالمدرسة أعظم المنجزات، ويرى المُدرسَ بعين الإعجاب؛ سلطانا يتسامى جلالاً ووقارا؛ بشاشته مصدر أمان تعزز ثقته وتحبب لهُ التعليم، وثناؤه عليه وسام شرف يخبر به أهله، ومكافأته على إجابته الصحيحة، مؤشر حب ومحل مفخرة وغِبطة، ومشاركته في أي نشاط مهما صغُر، يخلق في نفسه نشوةً لا تُضاهى.

هذا الكائن اللطيف وهذه البراءة المهدورة، والاستحقاق المصلوب على خشبة الأزمات وجائحات الحرب ينصدم عند أول خطوةٍ نحو المستقبل بخيبةٍ طاغيةٍ نقشت قسوتها على وجوه معلميه، فيستقبلونه بعزائم منطفئة وأرواح منهكة وطاقاتٍ مستنزفة وملامحٍ طمست ابتسامتها الأزمات، وإرادةٍ أذابتها نيران الصراع، استقبالاً باهتاً لا يليق بضعفه؛ ولا عُتب ينصف المدرس فتعليمٌ بلا وسائل ولا مرتبات ولا مستحقات، لا يسير على قدميه؛ مدرِّسٌ أكلت الديون فؤاده وأرهقته الهموم وأرّقت جفنه متطلبات الحياة. اِستحالت ابتسامته ونفذ صبره وتسارع غضبه وشحُبت ملامحه وقلت رغبته في الكلام. 

وطالبٌ لا يعلم عن الحرب شيئا، يبحث عن مستقبله الواعد وأحلامه المزهرة في وجوه معلميه وكلماتهم. فإذا به كالطير يذهب خماصاً ويعود خماصاً..!

المدرس أسقط واجبه وأدّى رسالته منزوعة الروح منطفئة الوجدان فلا تؤتي أكلها ولا هو قادر على مراجعة الأسباب..!

هذا الجيل البائس ستُخلّف فيه الحرب أثرها المدمر..! جهلاً متنكراً بشهائد إسقاط الواجب، ستكسره استحقاقات التقدم الحضاري وستهزمه الحرب ولو انتصر وطنه..

الحروب أقبح كوارث الإنسان وآثارها مرعبة ومتوقعه ولكننا أمام أثر ليس له سلَف وليس من آثار الحروب التقليدية، إنه التجهيل الناتج عن قطع المرتبات وإيقاف عجلة التعليم، مع الحفاظ الشكلي على دورانها والزج بجيل كامل في غياهب الجهل وبطريقةٍ لا يمكن تلاقيها فيما بعد ببرامج محو الأمية. بل ولا يمكن إقناعه بجهله وهو يقتني شهادات المراحل الدراسية في زمن اللا مرتبات! وإن من أوجب الواجبات وقبل كل مهمة، هو إيجاد حلٍ لأزمة الرواتب ودفع عجلة التعليم وتقييم أدائه قبل فوات الأوان.