- عنوان الكتاب: اقتضاء العلم العمل

- المُؤلِّف: الخطيب البغدادي

- المحقق: محمد ناصر الدين الألباني

- الناشر: المكتب الإسلامي- لبنان

- سنة النشر: 1404هـ -1984م

- رقم الطبعة: 5

- عدد الصفحات: 128

من هو الخطيب البغدادي؟

الخطيب البغدادي (392-463 هـ = 1002-1072م) أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، المعروف بالخطيب: أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين. وُلِد في غُزية منتصف الطريق بين الكوفة ومكة، ومنشأه ووفاته ببغداد.

رحل إلى مكة وسمع بالبصرة والدينور والكوفة وغيرها، وعاد إلى بغداد فقربه رئيس الرؤساء ابن مسلمة (وزير القائم العباسي) وعرف قدره. وكان فصيح اللهجة عارفا بالأدب، يقول الشعر، ولوعا بالمطالعة والتأليف، ذكر ياقوت أسماء 56 كتابا من مصنفاته، من أفضلها (تاريخ بغداد) أربعة عشر مجلدا. ولما مرض مرضه الأخير، وقف كتبه، وفَرَّقَ جميع ماله في وجوه البر وعلى أهل العلم والحديث.

 

افتتح المؤلف رحمه الله كتابه بالحديث عن:
الإخلاص في طلب العلم والعمل بمقتضاه

قال الخطيب "ثُمَّ إِنِّي مُوصِيكَ يَا طَالِبَ الْعِلْمِ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي طَلَبِهِ" الاقتضاء ص14.

العلم عبادة من العبادات، وقربة من القُرب، قال ابن المبارك -رحمه الله "لا أعلم بعد النبوة درجة أفضل من بَثِّ العلم" جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج16/20.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَلَوْلَا الْعِلْمُ كَانَ النَّاسُ كَالْبَهَائِمِ، وَقَالَ: النَّاسُ أَحْوَجُ إلَى الْعِلْمِ مِنْهُمْ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَالْعِلْمُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ" ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج 2/82.

وأول وصية وصى بها الخطيب البغدادي طالب العلم، "يَا طَالِبَ الْعِلْمِ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي طَلَبِهِ، وَإِجْهَادِ النَّفْسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ". فالعلم إنْ خلصت فيه النية، قُبِل وزَكَا، ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله تعالى، حبط، وضاع، وخسرت صفقته. 

قال النبي صلى الله عليه وسلم "من طلبَ العلمَ ليماريَ بِهِ السُّفَهاءَ، أو ليباهيَ بِهِ العلماءَ، أوليصرفَ وجوهَ النَّاسِ إليهِ، فَهوَ في النَّار" المحدث: الألباني المصدر: صحيح ابن ماجه، رقم الحديث 207. خلاصة حكم المحدث: حسن.

فهذا الحديث "فيه الوعيد الشديد على من تَعَلَّم لأجل هذه المقاصد السيئة؛ فلم يتعلم إلا لِيخَاصم العلماء، ويجادلهم، أو ليجاري السفهاء، ويَتَرَّفع عليهم، أو ليصرف وجوه الناس إليه، أي: لا يتعلمه إلا، وسمعة لا لأجل الله، وتَعَلُّم العلم عبادة عظيمة، فيجب على طالب العلم أن يخلص نيته في طلبه لله، ويجاهد نفسه، ويدافع الوساوس والخواطر الرديئة، فلا يتعلم لأجل المال، ولا لأجل الدنيا، ولا من أجل الشهرة، ولا من أجل المنصب، فكل هذه الأمور لا ينبغي أن تكون على بال طالب العلم، فالعلم أسمى من ذلك، وأعلى، وما يعطاه من المكافأة، وغيرها مما يعينه على تَعَلُّم العلم، ويشجعه، فينبغي ألا تكون له مقاصد سيئة. فهذا الحديث يحذر من النية الفاسدة في طلب العلم" عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن الراجحي، شرح سنن ابن ماجة، ج6/17.

العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم

قال الخطيب "إِنَّ الْعِلْمَ شَجَرَةٌ وَالْعَمَلَ ثَمَرَةٌ" الاقتضاء ص14.

العلم شجرة، وثمرته العمل به، فلا تنفع شجرة بلا ثمار، كما لا يمكن جني ثمار من دون شجرة.

فَلَوْلا الْعَمَلُ، لا يُطلب علم، ولولا العلم، لا يُطلب عمل، وكما ترجم الإمام البخاري في صحيحه لأحد أبوابه، ب"بَابُ الْعِلْمِ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ" قَالَ بن الْمُنِيرِ: أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْقَوْلِ وَالْعَمَل، فَلَا يُعْتَبَرَانِ إِلَّا بِهِ فَهُو، مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ مُصَحِّحٌ لِلنِّيَّةِ الْمُصَحِّحَةِ لِلْعَمَلِ لذلك "َالْعِلْمُ يُرَادُ لِلْعَمَلِ كَمَا الْعَمَلُ يُرَاد ُللنجاة، فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ قَاصِرًا عَنِ الْعِلْمِ، كَانَ الْعِلْمُ كَالاًّ عَلَى الْعَالِم، ونَعُوذُ بِالله مِنْ عِلْمٍ عَادَ كَالا(حملا)، وَأَوْرَثَ ذُلاًّ" وَقَالَ سَهْلُ بْنُ مُزَاحِمٍ: "الْأَمْرُ أَضْيَقُ عَلَى الْعَالِمِ مِنْ عَقْدِ التِّسْعِينَ، مَعَ أَنَّ الْجَاهِلَ لَا يُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ، لَكِنَّ الْعَالِمَ أَشَدُّ عَذَابًا إِذَا تَرَكَ مَا عَلِمَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ".

عقد التسعين: أن يجعل طرف السبابة اليمنى في أصلها ويضمها ضما محكما بحيث تنطوي عقدتاها حتى تصير مثل الحية المطوقة. فتح الباري، ج13/08.

وجامع كتب العلم، كجامع الفضة والذهب، فكما أن الذهب والفضة لا ينتفع صاحبها منا إلا بإنفاقه، كذلك العلوم لا تنفع صاحبها إلا إذا عمل بها. فجامع العلوم لا ينتفع بها، ما لم يعمل بها، "وَكَمَا لَا تَنْفَعُ الْأَمْوَالُ إِلَّا بِإِنْفَاقِهَا، كَذَلِكَ لَا تَنْفَعُ الْعُلُومُ إِلَّا لِمَنْ عَمِلَ بِهَا" اقتضاء العلم والعمل، ص 16.

وكما قال ابن قيم الجوزية "لو نفع الْعلمُ بِلا عملٍ، لمّا ذمّ اللهُ سُبْحَانهُ أَحْبَارَ أهلِ الكتابِ، ولو نفع العَملُ بلا إخلاصٍ لما ذمَّ المُنَافقين" الفوائد ص 30. و"لَيْسَ الْعلم بِكَثْرَة الرِّوَايَة، وَلَكِن الْعلم الخشية" الفوائد، ص47. 

مما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن علمه ماذا عمل فيه

في سياق الحديث عن ارتباط العلم بالعمل أورد البغدادي في هذه الفقرة عدة أحاديث منها "لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ" عن علمه الذي علمه فيما يتعلَّق بما أوجب الله عليه، وما حرَّم الله عليه، هل نفذ أو ما نفذ؟ اقتضاء العلم والعمل، ص 17.

ملاحظة: أورد الخطيب البغدادي كثيرا من الأحاديث في هذا الباب، وأغلبها حكم عليه المحقق المحدث الألباني بالضعف أو الوضع، وكلها تبين الارتباط الوثيق بين العلم والعمل، ووجوب الإخلاص في طلب العلم، ابتغاء وجه الله. قال البغدادي سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرُّوذْبَارِيَّ، يَقُولُ: "الْعِلْمُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ يُوَرِّثُ الْفَهْمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" اقتضاء العلم والعمل، ص 32.

ومن الآثار التي أوردها الخطيب "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ عِلْمٍ لَا يُعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ كَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل". قال الألباني إسناد موقوف لا بأس به، وجاء مرفوعا، رواه أحمد.

قال البغدادي: قَالَ قِلَابَةَ لأيوب "إِذَا أَحْدَثَ اللَّهُ لَكَ عِلْمًا فَأَحْدِثْ لَهُ عِبَادَةً، وَلَا يَكُنْ إِنَّمَا هَمُّكَ أَنْ تُحَدِّثَ بِهِ النَّاسَ" ص35.

أي أن المؤمن إذا منّ الله عليه بعلم، لم يكن يعلمه، فينبغي أن يشكر هذه النعمة بالعمل بذلك العلم، أو يزداد من التعبّد لله تعالى، ليكون حاله في ازدياد من العلم والعمل.

وَقَالَ الْحَسَنُ: "الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ، كَالسَّالِكِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَالْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ طَلَبًا لَا تَضُرُّوا بِالْعِبَادَةِ، وَاطْلُبُوا الْعِبَادَةَ طَلَبًا لَا تَضُرُّوا بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ، وَتَرَكُوا الْعِلْمَ حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا" ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ج1/545.

وفي هذا السياق، قال الشعبي -رحمه الله- يقول: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، وكنا نستعين على طلبه بالصوم". ابن الجوزي، صيد الخاطر، ص 172.

ولهذا نعى ابن الجوزي -رحمه الله- على أولئك الذين لا يعملون بعلومهم، فيقول "فالله الله في العلم بالعمل، فإنه الأصل الأكبر. والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقدم مفلسًا، على قوة الحجة عليه" صيد الخاطر 59.

والصحابة الكرام بعد رسول صلى الله عليه وسلم كانوا أحرص على العمل بما علموا، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ "إِنِّي لَسْتُ أَخْشَى أَنْ يُقَالَ لِي: يَا عُوَيْمِرُ مَاذَا عَلِمْتَ؟ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ يُقَالَ: يَا عُوَيْمِرُ مَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ".

وهذا ما سار عليه السلف الصالح، وَقَالَ المَرُّوْذِيُّ:" قَالَ لِي أَحْمَدُ: مَا كَتَبْتُ حَدِيْثاً إِلاَّ وَقَدْ عَمِلتُ بِهِ، حَتَّى مَرَّ بِي أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احْتَجَمَ، وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِيْنَارا، فَأَعطيتُ الحَجَّامَ دِيْنَاراً حِيْنَ احتَجمتُ". الإمام الذهبي، سِير أعلام النبلاء، ج11/213.

التغليظ على من ترك العلم بالعمل، والعمل بخلافه

وقد أورد البغدادي عدة آحاديث وآثار في هذا الباب، منها "إِذَا عَلِمَ الْعَالِمُ وَلَمْ يَعْمَلْ، كَانَ كَما قال يحيى بن معاذ الرازي "مسكين من كان علمه حجيجه ولسانه خصيمه وفهمه القاطع بعذره المصباح يضيء للناس، ويحرق نفسه" الاقتضاء، ص 53. قال المحدث الألباني: إسناد موضوع.

فالخطيب البغدادي من خلال الأحاديث التي أوردها، بيّن خطورة طلب العلم، وترك العمل، أو العمل بخلاف مقتضى العلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيُقَالُ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا أَفْعَلُهُ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ"؛ فهذا الحديث يدل على شدة الوعيد لمن خالف قوله فعله، وفعله قوله، وهو الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، يقول الله سبحانه وتعالى ذَامًّا لليهود المخالفين لما يقولون، ويدعون من الحق "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أفلَا تَعْقِلُونَ" البقرة: 44.

وقد ذَم الله اليهود الذين يحملون التوراة، ولا يعملون بها، قال الله :﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الجمعة: 5.

قال الزمخشري في تفسير الآية "شبه اليهود -في أنهم حملة التوراة، وقرّاؤها، وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها، ولا منتفعين بآياتها، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به، ولم يؤمنوا به -بالحمار حمل أسفارا، أي كتبا كبارا من كتب العلم، فهو يمشى بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه، وظهره من الكد والتعب. وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله" الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ج4/530. 

عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ يَوْمًا فَقَالَ هَذَا أَوَانُ رَفْعِ الْعِلْمِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَقَدْ أُثْبِتَ وَوَعَتْهُ الْقُلُوبُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ ضَلَالَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَالَ: صَدَقَ عَوْفٌ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَوَّلِ ذَلِكَ يُرْفَعُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: الْخُشُوعُ، لَا تَرَى خَاشِعًا" حديث صحيح أخرجه أحمد والحاكم.

فذكر النبي صلى الله عليه ويلم ضلالات اليهود والنصارى، لأن عندهم "هذه التَّوراةُ والإنجِيلُ" ولَم يَعمَلُوا بما فيهِما، ولَم يَفهَموا معانِيَهما وحرَّفُوهما، "فماذا تُغْني عنهم؟"، أي: ما نفَعَتْهم، وما استفادوا مِن مَقصُودِهما؛ وهو العمَلُ بما عَلِم.

قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا تَتَعَلَّمْ مَا لَا تَعْلَمُ، حَتَّى تَعْمَلَ بِمَا تَعْلَمُ". فالعالم إذا أكثر من طلب العلم، ولم يعمل به، فإنما يستكثر من حجج الله عليه يوم القيامة. وقد ذكر الخطيب في هذا الباب عدة آثار، لم نذكرها كلها اختصارا.

ذم من يطلب العلم رياء، أو سُمعة، أو مباهاة للناس بعلمه...

عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ، فَلَهُ مِنْ عِلْمِهِ النَّارُ" الاقتضاء 64.

هذا الحديث بهذه الصيغة، قال المحدث الألباني إسناده ضعيف جداً. وقد وردت أحاديث أخرى لها نفس صيغة الحديث تقريبا، منها، قول النبي صلى الله عليه وسلم "من طلب العلمَ لِيُباهِيَ به العلماءَ، أو ليُمارِيَ به السُّفهاءَ، أو لِيصرفَ به وجوهَ الناسِ إليه فهو في النار: صحيح الجامع، رقم الحديث 6382.

وفي هذا الحَديثِ يقولُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن طلب العِلمَ لِيُباهِيَ به العُلماءَ"، أي: تعلَّمَه مِن أجْلِ المُفاخَرةِ والمُباهاةِ أمامَ العُلماءِ، وهذا عَكْسُ المطلوبِ مِن المرْءِ؛ بأنْ يَعرِفَ للعُلماءِ حقَّهم، وتقديرَهم واحترامَهم، "أو يُمارِيَ به السُّفهاءَ" المُماراةُ: المُجادَلةُ والمُحاجَّةُ، أي: لكي يُجادِلَهم ويُخاصِمَهم، "أو يَصرِفَ به وُجوهَ الناسِ إليه"، أي: لِيَلْفِتَ أنظارَ الناسِ إليه بقَصْدِ أنْ يُشارَ إليه بالعِلْمِ، فمَن طلَبَ العِلمَ وهو يَقصِدُ أحدَ هذه الأشياءِ، "أدخَلَه اللهُ جَهنَّمَ"؛ لأنَّه لم يُخْلِصْ في طلَبِ العلْمِ، ولم يَجعَلْه خالصًا لوجْهِ اللهِ تعالى، وهذا مِن الوَعيدِ الشَّديدِ لِمَن فعَلَ ذلك.

الخطيئة من أسباب نسيان العلم

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ "إِنِّي لَأَحْسَبُ الْعَبْدَ يَنْسَى الْعِلْمَ كَانَ يَعْلَمُهُ بِالْخَطِيئَةِ يَعْمَلُهَا"

وللمعاصي والخطايا آثار قبيحة، ومذمومة، ومضرّة على تحصيل العلم، وذكر ابن قيم الجوزية آثار الذنوب على القلب والبدن والدنيا، منها: حرمان العلم، فإنّ العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.

ولمّا جلس الشافعيّ بين يدي مالك، وقرأ عليه، أعجبه ما رأى من وُفور فطنته، وتوقّد ذكائه، وكمال فهمه؛ فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية.

وقال الشافعي:

شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي ... فأرشدَني إلى ترك المعاصي

                      وقال اعلَمْ بأنَّ العلمَ فضلٌ ... وفضلُ الله لا يؤتاه عاصِ

كما أن عدم علم العالم بعلمه، من أسباب انصراف الناس عليه، وعدم تأثيره عليهم، قال مالك بن دينار: قرأت في التوراة: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا" الداء والدواء،ج1/32.

وكما قال الإمام الذهبي"فإذا رأيت الواعظ راغبا في الدنيا، قليل الدين، فاعلم أن وَعْظه لا يتجاوز الأسماع". الإمام الذهبي، زُغل العلم، ص 50.

وفي هذا السياق ورد عن عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ لِأَبِيهِ: يَا أبت! ما لك إِذَا تَكَلَّمْتَ أَبْكَيْتَ النَّاسَ، وَإِذَا تَكَلَّمَ غَيْرُكَ لَمْ يُبْكِهِمْ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ! لَيْسَتِ النَّائِحَةُ الثَّكْلَى مِثْلَ النَّائِحَةِ الْمُسْتَأَجَرَةِ" المجالسة وجواهر العلم، ج4/530

ليست النّائحة الثّكلى، كالنّائحة المستأجرة، على العلماء والخطباء والوعاظ الذين يقومون بمهمة نصح الناس ووعظهم، أن يتمثلوا هذه القولة، أو هذه الحكمة، ليعرفوا أحد أهم أسباب قلّة تأثّر المصلّين بالخطب، والدّروس والمواعظ. 

لأن العالم الذي يعظ الناس، ويعمل بعلمه، تخرج كلماته من قلبه، وتقع على قلب سامعيه، بخلاف إذا لم يعمل بما يعظ به الناس، فإن موعظته تزل عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا كما أخبر مالك بن دينار. أو كما قال عامر بن عبد قيس التميمي "الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان، لم تجاوز الآذان" الجاحظ، البيان والتبيين، ج3/263.

الوعيد والتهديد والتشديد لمن قرأ القرآن للصيت والذكر ولم يقرأه للعمل به واكتساب الأجر

أورد الخطيب البغدادي في هذا الباب منها، حديثا: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ" صحيح مسلم، الاقتضاء ص70.                   

ففي هذا الحديث تحذير شديد من الرياء، وارتباطا بعنوان الباب، أورد الخطيب هذا الحديث، ومما ورد فيه "ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟… بمعنى رجلٌ تَعلَّمَ العلمَ الشَّرعِيَّ، وعلَّمَه النَّاسَ وقرأَ القرآنَ، فأُتِيَ به إلى محضرِ الحسابِ، فَسُئلَ: ما عمِلْتَ فيها؟ أي: هل صَرفْتَها في مَرضاتي أم في غيرِها؟ فَأجابَ: تعلَّمتُ العلمَ وعلَّمْتُه، وقرأتُ فيكَ القرآنَ، أي: صرفْتُ نِعمتي الَّتي أنعمْتَ بها علَيَّ في الاشتغالِ بِالعلمِ والعملِ والقراءةِ؛ ابتغاءً لِوجهِك وشكرًا لِنعمَتِك، فقيل: تعلَمْتَ العلمَ؛ لِيقالَ: إنَّك عالِمٌ وعلَّمتَ العلمَ؛ لِيُقالَ: إنَّك مُعلِّمٌ فقد قيلَ لك عالِمٌ وقارئٌ، فَما لك عندَنَا أجْرٌ، ثُمَّ أُمِرَ به، أي: قِيلَ لِخزنِة جهنَّمَ: أَلْقُوه في النَّارِ، فَسُحِبَ، أي: جُرَّ على وجْهِه حتَّى أُلقِيَ في النَّارِ.

وكان السلف الصالح يحذرون من القراء الذين لا يعملون بالقرآن، فقال أيوب السختياني: [لا خبيث أخبث من قارئٍ فاجر] الزهد لأبي حاتم، ص56.

وقال مالك بن دينار: "لأنَا للقارئ الفاجر أخوف مني من الفاجر المبرز أو المبرز بفجوره" لماذا؟ لأنه الفاجر المبرز بفجوره تعلم أنه فاجر فتحذر منه، لكن الذي يلبس عليك، يظهر بشكل قارئ وصاحب دين، ولباس أهل العلم، وهو في الحقيقة بخلاف ذلك، فهذا يغتر وينخدع الناس به، فيضلهم.

ويقول مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ، يَقُولُ: "لَأَنَا لِلْقَارِئِ الْفَاجِرِ أَخْوَفُ مِنِّي مِنَ الْفَاجِرِ الْمُبْرِزِ بِفُجُورِهِ، إِنَّ هَذَا أَبْعَدُهُمَا غَوْرً" الزهد لأبي حاتم ص55.

لأنه الفاجر المبرز بفجوره، تَعْلم أنه فاجر فتحذر منه، لكن الذي يلبس عليك، يظهر بشكل قارئ، وصاحب دين، ولباس أهل العلم، وهو في الحقيقة بخلاف ذلك، فهذا يغتر وينخدع الناس به، فيضلهم.

وهذا الصنف من القراء ممن يلبس عليهم إبليس، قال ابن الجوزي "وَقَدْ لبس إبليس عَلَى قوم من القراء فهم يقرأون القرآن فِي منارة المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزء والجزأين، فيجتمعون بين أذى الناس فِي منعهم من النوم، وبين التعرض للرياء، ومنهم من يقرأ فِي مسجده وقت الأذان، لأنه حين اجتماع الناس فِي المسجد" تلبس إبليس، ص 28.

لذلك ينبغي -لقارئ القرآن- أن لا يقصد به توصلا إلى غرض من أغراض الدنيا، من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند الناس، أو صرف وجوه الناس إليه، أو نحو ذلك ولا يشوب المقرئ إقراءه بطمع في رفق يحصل له، من بعض من يقرأ عليه، سواء كان الرفق مالا، أو خدمة، وإن قَلَّ، ولو كان على صورة الهدية، التي لولا قراءته عليه، لما أهداها إليه، قال الله عز وجل: "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ" سورة الشورى: 40.

التحذير من حفظ حروف القرآن وتضييع حدوده

أول حديث أورده المؤلف في الباب "لن يتلوَ القرآنَ مَن لم يعملْ به" الاقتضاء 72.

قال الحديث الألباني: إسناده ضعيف.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ وَفَتْ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَقُولُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ، ويقرؤون كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ" الاقتضاء 73. قال الألباني إسناده حسن، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم الحديث 1773.

فهذا الصنف من الناس الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء يُعذب، لأنَّهُم يَقولُون ما لا يَفعَلون، ويَقرَؤُون كِتابَ الله ويَعرِفون أَوامِرَه، ونَواهِيَه، ولا يَعمَلون به، ولو كانوا يُفَكِّرون بعُقولِهم ويَفهَمون مَعاِنَي ما يَقولُونه حقَّ الفَهمِ لَعَمِلوا به وما خالَفُوه.

وفي الحديث: تَحذيرٌ وتَرهيبٌ، وزْجرٌ شديدٌ للخُطَباءِ وغيرِهم ممَّنْ يَترُكونَ البِرِّ الذي يَأمُرون به غَيرَهم، أو يَأتونَ المُنكَرَ مع نَهيهِم لغيرهم عنه.

باب ذم التفقه لغير العبادة

التفقه في الدين، وتعلم العلم الشرعي من أهم الواجبات، ومن أهم الفروض لعبادة الله عز وجل، وقد أورد الخطيب البغدادي في كتابه "الفقيه والمتفقه" عدة أحاديث تحث على التفقه في الدين، وتبين فضل مجالس الفقه على مجالس الذكر، منها "مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ" صحيح البخاري. ولكن التفقه بغير عمل، أو طلبا للجدال والمباهاة، فهذا مما ورد النهي عنه، وقد أورد الخطيب في "الاقتضاء" قال الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: أُنْبِئْتُ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: وَيْلٌ لِلْمُتَفَقِّهِينَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُسْتَحِلِّينَ الْحُرُمَاتِ بِالشُّبُهَاتِ" الاقتضاء 78.

قَالَ الشَّعْبِيُّ: "لَسْنَا بِالْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّا سَمِعْنَا الْحَدِيثَ فَرَوَيْنَاهُ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ مَنْ إِذَا عَلِمَ عَمِلَ" الاقتضاء 79.                                                                                             

فالشعبي رحمه الله يعتبر الفقيه لمن يعمل بما علم، ولا يكتفي بالرواية فقط. كما أن من علامات الشر الاكتفاء بالجدل وترك العمل "قَالَ الْأَوْزَاعِيَّ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا فَتْحَ عَلَيْهِمُ الْجَدَلَ وَمَنَعَهُمُ الْعَمَلَ".

قال النبي صلى الله عليه وسلم "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ قَرَأَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]" : صحيح الترمذي 3253.

ولما كان هذا هو شأن الجدال، والمراء، والخصومة، تَجَنَب السلف الصالح ذلك، وحذروا منه:

عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّة، قَالَ "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا أَلْقَى بَيْنَهُمُ الْجَدَلَ وَخَزَنَ الْعِلْمَ" الفقيه والمتفقه، ج1/554.

- وقال محمد بن الحسين: من صفة الجاهل: الجدل، والمراء، والمغالبة (أخلاق العلماء، للآجري، ص 63).

- وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً، ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل. [الآداب الشرعية، لابن مفلح ج1/202].

- وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: من لاحى الرجال، وماراهم قلَّتْ كرامته، ومن أكثر من شيء عُرِف به. الآداب الشرعية، لابن مفلح ج1/18.                                                                                            

كراهية طلب الحديث للمفاخرة، وتكثير الأتباع...

إن طلب علم الحديث وبثها في الناس، هو من أجَلِّ أنواع العبادات، كما قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم: نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمعَ منَّا حديثًا فحفظَهُ حتَّى يبلِّغَهُ فربَّ حاملِ فقْهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منْهُ وربَّ حاملِ فقْهٍ ليسَ بفقيهٍ. صحيح أبي داود رقم الحديث 3660.

"نَضَّر اللهُ"، مِن النَّضارةِ، وهي الحُسْنُ والرَّوْنَقُ، وهذا دُعاءٌ أن يُحسِنَ اللهُ خَلْقَه ويَرْفَعَ قَدْرَه

وكَفَى راوي الحديثِ فضلاً دخولُه في دعوة الرَّسولِ – صلَّى الله عليه وسلَّم – هذه.

والخطيب البغدادي له كتاب عنوانه "شرف أصحاب الحديث" وقد ذكر فيه فضل علم الحديث وشرف أهله.

وقال الإمامُ سفيان بن عُيَيْنَة (ت198ﻫ) رحمه الله تعالى: “ليس مِن أهل الحديثِ أحدٌ إلاَّ وفي وجهه نَضْرَةٌ لهذا الحديثِ”. انظر: “شرف أصحاب الحديث” للخطيب البغدادي، ص: 19

فأهلُ العلم الذين يبلِّغون الناسَ شَرْعَ اللهِ تعالى هم أنضَرُ النَّاسِ وُجوهاً، وأشرَفُهم مقاماً، بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. والخطيب في هذا الباب ينبه إلى خطورة طلب الحديث لقصد المفاخرة وتكثير الأتباع والمباهاة والرياء، وعدم العمل به.

وقد أورد عدة آثار في هذا الباب منها:

عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ عَائِذِ اللَّهِ، قَالَ "الَّذِي يَتْبَعُ الْأَحَادِيثَ لَيُحَدِّثَ بِهَا، لَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ" الاقتضاء 81.

عن إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ، يَقُولُ "لَوْ طَلَبْتَ مِنِّي الدَّنَانِيرَ كَانَ أَيْسَرَ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَطْلُبَ مِنِّي الْأَحَادِيثَ، فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ حَدَّثَتْنِي بِأَحَادِيثِ فَوَائِدَ لَيْسَ عِنْدِي كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَهَبَ لِي عَدَدَهَا دَنَانِيرَ، فَقَالَ: إِنَّكَ مَفْتُونٌ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَمِلْتَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ، لَكَانَ لَكَ فِي ذَلِكَ شُغْلًا عَمَّا لَمْ تَسْمَعْ" فالفضيل بن عياض هنا لا يحذر من طلب الحديث ابتداءً، وإنما يحذر من الاستكثار من طلب الحديث، دون العمل به، لأن طالبه يُكثر من حجج الله عليه، كما ورد أن رجلا سأل أبا الدرداء، فقال له "كل ما تسأل عنه تَعمل به؟"، قال : لا، قال "فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟" الموافقات للشاطبي: 1/ 65.

قال سُفْيَانَ الثوري "مَا شَيْءٌ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ يَعْنِي الْحَدِيثَ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ يَعْدِلُهُ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ بِهِ" الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع ج1/82.

وعن عبدة بن أبي لبابة قال: "وددتُ أن أحظى من أهل هذا الزَّمان أن لا أسألهم عن شيء، ولا يسألوني عن شيءٍ، يتكاثرون بالمسائل كما يتَكاثر أهلُ الدَّراهم بالدراهم"؛ ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله، ج 2/ 1059.

وإبليس قد لَبَّس على كثير من المحدثين في هذا الأمر، كما قال ابن الجوزي في ذكره تلبيس إبليس عَلَى أصحاب الحديث: "من ذلك أن قوما استغرقوا أعمارهم فِي سماع الحديث، والرحلة فيه، وجمع الطرق الكثيرة، وطلب الأسانيد العالية، والمتون الغريبة، وهؤلاء عَلَى قسمين، قسم قصدوا حفظ الشرع، بمعرفة صَحِيح الحديث من سقيمه، وهم مشكورون عَلَى هَذَا القصد، إلا أن إبليس يلبس عليهم، بأن يشغلهم بهذا، عما هو فرض عين من معرفة مَا يجب عليهم، والاجتهاد فِي أداء اللازم، والتفقه فِي الحديث، فَإِن قَالَ قائل فقد فعل هَذَا، خلق كثير من السلف كيحيى بْن معين، وابن الْمَدِينِيّ، والبخاري، ومسلم، فالجواب أن أولئك جمعوا بين معرفة المهم من أمور الدين، والفقه فيه، وبين مَا طلبوا من الحديث، وأعانهم عَلَى ذلك قصر الإسناد، وقلة الحديث فاتسع زمانهم للأمرين. فأما فِي هَذَا الزمان، فَإِن طرق الحديث طالت، والتصانيف فيه اتسعت، وما فِي هَذَا الْكِتَاب فِي تلك الكتب. وإنما الطرق تختلف، فَقَلَّ أن يمكن أحدا أن يجمع بين الأمرين، فترى المحدث يكتب، ويسمع خمسين سنة، ويجمع الكتب، ولا يدري مَا فيها، ولو وقعت لَهُ حادثة فِي صلاته، لافتقر إِلَى بعض أحداث المتفقهة الذين يترددون إليه لسماع الحديث مِنْهُ" تلبيس إبليس 677.

لذلك فالمحدث لا ينبغي أن يستكثر من رواية الحديث من أجل المفاخرة، وإنما من أجل العمل به، وبثه في الناس. فعن ابْنَ حَمَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ أَوْ سَأَلَهُ إِنْسَانٌ: مَنِ الْعَالِمُ؟ قَالَ: "الَّذِي يُعْطِي كُلَّ حَدِيثٍ حَقَّهُ" الاقتضاء ص 84.

فالسعيد في الدنيا والآخرة طلب الحديث لله، والشقي في الدنيا والآخرة من طلبه لغير الله. فعن عبد الْعَزِيزِ بْنَ أَبِي رِزْمَةَ، قَالَ: أَتَيْنَا إِسْرَائِيلَ مَعَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، فَسَأَلَنَا، قُلْنَا: نَحْنُ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، فَقَالَ: "مَرْوٌ أُمُّ خُرَاسَانَ؟ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ أَسْعَدَ بِمَا سَمِعْتُمْ مِنْكُمْ فَافْعَلُوا، مَنْ طَلَبَ هَذَا الْعِلْمَ لِلَّهِ تَعَالَى، شَرُفَ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ لِلَّهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَجْعَلَهُ سَبِيلًا إِلَى نَيْلِ الْأَعْرَاضِ، وَطَرِيقًا إِلَى أَخْذِ الْأَعْوَاضِ، فَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ لِمَنِ ابْتَغَى ذَلِكَ بِعِلْمِهِ" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي ج1/83 .

كراهية طلب النحو للمفاخرة والخيلاء

قد لَبَّس الشيطان عَلَى جمهور النحاة، فشغلهم بعلوم النحو عن المهمات اللازمة التي هي فرض عين، عوَنْ معرفة مَا يلزمهم عرفانه من العبادات، وما هو أولى بهم من آداب النفوس، وصلاح القلوب، وبما هو أفضل من علوم التفسير، والحديث، والفقه فأذهبوا الزمان كله فِي دقائق وتفصيلات نحوية، لا تراد لنفسها، بل لغيرها، فَإِن الانسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن يترقى إِلَى العمل بِهَا. كما ورد عن عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قال "تَلْقَى الرَّجُلَ وَمَا يَلْحَنُ حَرْفًا، وَعَمَلُهُ لَحْنٌ كُلُّهُ" الاقتضاء، ص91.

وقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، "أَعْرَبْنَا فِي الْكَلَامِ فَمَا نَلْحَنُ وَلَحَنَّا فِي الْأَعْمَالِ فَمَا نُعْرِبُ" الاقتضاء، ص 91.

التهيؤ لأمر الآخرة بحزم وعزم، وعدم الاتكال على الرجاء

كَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ، إِلَى أَخٍ لَهُ "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ فِي دَارِ تَمْهِيدٍ، وَأَمَامَكَ مَنْزِلَانِ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَسْكُنَ أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يَأْتِكَ أَمَانٌ فَتَطْمَئِنَّ وَلَا بَرَاءَةٌ فَتُقَصِّرَ وَالسَّلَامُ" الاقتضاء ص96.

وهذا الأمر ينشأ عن الخوف والوجل من أمر الآخرة، كما قال الله عز وجل سورة الطور26. أي: خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.

قال ابن جزي "اعلم أن الخوف على ثلاث درجات: الأولى: أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن، ولا في الظاهر؛ فوجود هذا كالعدم، والثانية: أن يكون قويا فيوقظ العبد من الغفلة، ويحمله على الاستقامة، والثالثة: أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط واليأس؛ وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها. والناس في الخوف على ثلاث مقامات: فخوف العامة من الذنوب، وخوف الخاصة من الخاتمة، وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها" التسهيل لعلوم التنزيل، ج1/36  

والمؤمن أن يعبد الله تعالى راغبًا راهبًا، كما قال الله تعالى وذلك لأنه من عبد الله بالرجاء وحده أمن من مكر الله، ومن عبده بالخوف وحده وقع في اليأس من رحمة الله وقنط من روح الله، ومن عبده بالخوف والرجاء فهو الموحد المهدي إلى الصراط المستقيم.

الأعمال الصالحة خير زاد وذخيرة تنفع العبد يوم المعاد

على المسلم أن يقدم في هذا الدار ما يسره في دار الآخرة، وما يقدمه في هذه الحياة الدنيا، يتوسده في قبره، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: "يَتَوَسَّدُ الْمُؤْمِنُ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ فِي قَبْرِهِ، إِنْ خَيْرًا فَخَيَرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، فَاغْتَنِمُوا الْمُبَادَرَةَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ فِي الْمُهِلَّةِ" الاقتضاء 95.

قال الله عز وجل في سورة الروم 44 الآية: "مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُۥ ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ" يَمْهَدُونَ أي: يهيئون ولأنفسهم يعمرون آخرتهم، ويستعدون للفوز بمنازلها وغرفته.عبد الرحمان السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص 643.

اغتنام وقت الشبيبة والصحة والفراغ للمبادرة إلى الأعمال الصالحة

من الأحاديث التي أورد الخطيب في الباب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم "الْفَرَاغُ وَالصِّحَّةُ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" الاقتضاء ص100.

هذا الحديث أورده الإمام البخاري في صحيحه بصيغة "نعمتان مغبونان فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ" رقم الحديث 6412. في الحديث: الترغيبُ في استغلال النِّعم من صحَّة وفراغ وغيرهما، والاستفادةُ منهما فيما يُرضي اللهَ سبحانه وتعالى.

وفيه: أنَّ الإنسانَ لا يتفرَّغ للطَّاعة إلَّا إذا كان مكفيًّا، صحيحَ البدن، فقد يكون مستغنيًا، ولا يكون صحيحًا، وقد يكون صحيحًا ولا يكون مستغنيًا، فلا يكون متفرِّغًا للعِلم والعمل لشغْله بالكسْب، فمَن حصَل له الأمران: الصِّحَّةُ والفراغُ وكَسِلَ عن الطَّاعات، فهو المغبونُ الخاسرُ في تجارتِه.

الشباب هو زمن العمل، لأنه فترة قوة بين ضعفين، ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (رواه الحاكم وصححه)، قال الإمام أحمد: "ما شبهتُ الشباب إلا بشيء كان في كُمِّي فسقط". عبد الفتاح أبو غدة، قيمة الزمن عند العلماء، ص 15.

إن الشباب هو وقت القدرة على الطاعة، وهو ضيف سريع الرحيل، فإن لم يغتنمه العاقل، تقطعت نفسه بعدُ حسرات: 

ما قلت للشباب: "في كنف الله .... ولا حِفْظِه" غــداةَ استقلاّ

ضيف زارنا أقام عندنا قليلا .... سوّد الصحف بالذنوب وولى

عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ".

ففي هذا الحديث أرشَدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه إلى اغتنامِ الفُرَصِ في الحياةِ؛ للعمَلِ للآخِرةِ بِـمَلْءِ الأوقاتِ بالطاعاتِ؛ لأنَّها هي عُمرُ الإنسانِ في الدُّنيا، وذَخيرتُه في الآخرةِ. قبْلَ أنْ يَحُولَ بيْن الإنسان والأعمال الصالحة الموتُ، كما ورد في الحديث "وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ".

وكان السلف الصالح حريصين على المبادرة إلى الأعمال الصالحة، وعدم تفويتها، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ "كُنْتُ مَعَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ فقَالَ يَا عَطَاءُ، نَحْنُ جُلُوسٌ وَالنَّهَارُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ، قَالَ: قُلْتُ: أَنَا فِي خَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّهَا مُبَادَرَةٌ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عَطَاءُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي الْمَوْقِفِ لَيَرَى بِعَيْنِهِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ هَوْلِ مَا هُوَ فِيهِ" الاقتضاء 105.

باب ذم التسويف

قِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ: أَوْصِ، قَالَ "احْذَرُوا سَوْفَ" الاقتضاء 113.

ذلك أن التسويف من شر الأدواء التي تخالط القلب وتفسدها، وهو جند من جنود إبليس، عَنْ أَبِي الْجَلْدِ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ: إِنَّ (سَوْفَ) جُنْدٌ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ" الاقتضاء 114.

التسويف يَغُرُّ به الشيطان الإنسان، ويمنيه حتى يجنح به إلى الدَّعَةِ والهَوان، فهو ألد أعداء الزمن، هادم للعمر بلا فائدة، ومُضيع للوقت بلا منفعة، وهو المسئول عن الإخفاقات، والقصور عن المعالي والكمالات، من اتخذه طريقا عظمت تبعاته ودامت حسراته.. فمن زرع "سوف"، لابد وأن يحصد يوما "ليت".

والإمام الخطيب البغدادي افتتح كتابه هذا بلزوم العمل للعلم، ولا ينفع أحدهما عن الآخر، وختم الكتاب بالتحذير من تسويف الأعمال، وذكر نصيحة يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ لمُحَمَّدُ بْنُ سَمُرَةَ السَّائِحُ "أَيْ أَخِي، إِيَّاكَ وَتَأْمِيرَ التَّسْوِيفِ عَلَى نَفْسِكَ، وَإِمْكَانَهُ مِنْ قَلْبِكَ؛ فَإِنَّهُ مَحِلُّ الْكَلَالِ، وَمَوْئِلُ التَّلَفِ، وَبِهِ تُقْطَعُ الْآمَالُ، وَفِيهِ تَنْقَطِعُ الْآجَالُ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ أَبْدَلْتَهُ مِنْ عَزْمِكَ وَهَوَاكَ عَلَيْهِ فِعْلًا، وَاسْتِرْجَعًا مِنْ بَدَنِكَ مِنَ السَّآمَةِ مَا قَدْ وَلَّى عَنْكَ، فَعِنْدَ مُرَاجَعَتِهِ إِيَّاكَ لَا تَنْتَفِعُ نَفْسُكَ مِنْ بَدَنِكَ بِنَافِعَةٍ، وَبَادِرْ يَا أَخِي فَإِنَّكَ مُبَادَرٌ بِكَ، وَأَسْرِعْ فَإِنَّكَ مسْرُوعٌ بِكَ، وَجِدَّ فَإِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ، وَتَيَقَّظْ مِنْ رَقْدَتِكَ، وَانْتَبِهْ مِنْ غَفْلَتِكَ، وَتَذَكَّرْ مَا أَسْلَفْتَ وَقَصَّرْتَ وَفَرَّطْتَ، وَجَنَيْتَ وَعَمِلْتَ، فَإِنَّهُ مُثْبَتٌ مُحْصًى، فَكَأَنَّكَ بِالْأَمْرِ قَدْ بَغَتَكَ فَاغْتَبَطْتَ بِمَا قَدَّمْتَ، أَوْ نَدِمْتَ عَلَى مَا فَرَّطْتَ" الاقتضاء 114.