"لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جـــهّالهم سادوا
والــــــبيـت لا يـبتنـى إلا على عــمد *** ولا عمـاد إذا لم تـرسَ أوتـادُ
فـإن تـجمـــع أوتـاد وأعـــمـدة *** وسـاكن أبلــغوا الأمر الــذي كادوا"

يجمع كل قارئ للتاريخ وممعن في الاجتماع الإنساني أن الجماعة الإنسانية الحضارية لا بد لها من صفوةٍ قائدة ممن اختمرت بعجين النهضة وفكره وصقلت على صناعة القرار الأصوب وتشاركه بجرأة واعتداد وفراسة. بنظر ثاقب قادر على الاستشراف ومقاومة التحديات مستمسك بالثوابت. نفر على قلته ومحدودية عدده لكنه صانع التأثير، شبابيُّ العنفوان، مسيّر للحراك، متطلع ومحفز للتغيير ولا يرضى بحالٍ غير الحالِ الأقوم والأفضل. موكل للخبرة والملكات من العلوم والإدارة وفنون السياسة يولي اهتماما بتطوير الأشخاص وتحرير المواهب كأولوية أولى قبل إدارة الأشياء.. وقد وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: "إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة" رواه البخاري ومسلم. ويعلق العلامة عبد الرحمن بن سعدي على هذا الحديث قائلًا: "مضمون هذا الخبر إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى أنه ينبغي لمجموع الأمة أن يسعوا في تأهيل الرجال الذين يصلحون للقيام بالمهمات والأمور الكلية العامة النفع".


فما القيادة؟ ومن يحمل لواءها؟ ويسرج مشعلها؟ من يغيّر؟ ويرجح الكفة؟ متى وكيف؟

في تعريفها المبسط تعرّف القيادة حسب الدّكتور طارق السّويدان أنّها "القدرة على تحريك النّاس نحو الهدف"، هي قدرة وعزم لا يتأتى جزافا ولا يمنح اعتباطًا، إحصائيًا يملك 1% من الناس القدرة على القيادة فطريا، أمثال علي بن أبي طالب وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد والأحنف بن قيس، 1% لا يستطيعون تعلّم القيادة، حتى لو حاولوا، %98 هي اللبنة القادرة على الاكتساب والتعلم والتي تتطور قدراتها بالتدريب وتفعّل بالممارسة.

ويجدر بنا الذكر أن الهدف هنا مربوط بمُقَرِرِه لا بسموه ورقيه، فكم من قائد ساء هدفه واستفحل بطشه ففي فرعون دليل واضح وفي هلتر آخر أوضح.

إذن فالقيادة موهبة وتدريب وتعليم، مربط الفرس هنا في كيفية إكتشاف الطاقات وتوجيهها؟ وتدريبها وبيان تموضعها.. فالحكمة كل الحكمة في وضع الشيء في موضعه، وهي صواب الأمر ولطف التناول العملي وحسن التقدير. ولنا في المنهج النبوي خير عبرة فكان الرسول عليه الصلاة والسلام مكتشف المواهب ومحتضنها، موجهها ومدربها فيعطي فسحة للعمل والتعلم من خلال الخطأ والصواب. وكان عليه الصلاة والسلام محسنا للاختيار بمعرفته الحثيثة بقدرات صحابته رضوان الله عليهم، فالرجل المناسب للمهمة في المكان المناسب.

في واقع القيادة في العالم العربي..

لا يصلح القول عن من يسد الحكم في بلادنا العربية قائدًا.. إنما حكّام لا يُعرف سبيل وصولهم لمسئولية السلطان ضمن منظومة ضيقة الاختيارات مختزلة الرموز لا ترتكز على منافسةٍ ولا مزاحمة لخيار الأقدر والأكفأ والمتوافق عليه شعبويًا لمددٍ محدد وفترة معينة تُتداول. هذا ناهيك عن كيف تنتقل السلطة من حاكم لآخر في حال غيب عنه الموت مواصلة الاستئثار الانفرادي بالحُكم وسط تغييبٍ صارخ للشعب والمواطن. والأدهى، كيف تتحول المسئولية والتكليف إلى سلطوية مطلقة كآمرٍ وناهٍ دون رقابة ولا شفافية ولا تقييم. فمصير البلاد وشعبها كله بين كفتيه إن أحسن كُرّم وإن أساء كمم الأفواه وبطش المشككين في سياسته.. وكرم أيضًا.

فمن يسن القانون؟ ولما لا يخضع الحكام لدساتير فاعلة وناجعة تجعل من المحاسبة والمساءلة أمرا حاسما وأولوية شعبية لا يُسكت عنها؟ أليس دور السلطان حماية الرعية وصالح البلاد والعباد؟ لكن المنظور شيء والمسطور على الواقع بحيثياته شيء آخر لا يمت بصلة. فسياسة إخضاع الحرية الفردية وتكميم الأفواه وتقليص الفرص وتشتيت الوعي بمحدثات آنية واقتصادية تجعل الناس في حلقة مفرغة ولهث دائم لسد ما هو حقٌ كاحتياج ثانوي وفضل منّ عليهم به الرئيس. فأين تستقيم للمرء الحرية ليصرح برأيه ويتقبل رأي من يخالفه والمقاصل تنادي والسجون تتهيئ؟ هذا الوضع السقيم الراهن أشد مدخلٍ للدولة الفاشلة داخليًا والخاضعة خارجيًا مهما أبدت فصاحة حديث بالحداثة أمام أقرانها ما دامت لغة الاستبداد حاضرة في مجتمعاتها.

وعلى تنوع التيارات والحركات السياسية واختلاف أيديولوجياتها ابتداء بالإسلامية فالقومية والليبرالية مرروا بالوطنية والحقوقية، إلّا أنها لم تُعطى الفرصة لتجربة الحكم وممارسته إلّا في أضيق صوره ونطاقاته نظرا لسياسة الإقصاء والاجحاف التي تعبر عن أزمة القادة وصناعتهم وتوفير الأرضية لتوكيلهم وتفويضهم وتجربتهم على الساحة والميدان. فما لهذه السياسة إلّا أن تقمع وتحد وتقلص من التجارب والخبرات التي بدورها تبني وتطور الدول وتهيئ لمجتمع قيادي مبادر حر صاحب قرار ومسؤولية وهدف. إذ "لن تتقدم القيادة ما لم تتعلم من كل تجربة، وأن توفر حولها أناسا قادرين على قول الحقيقة، يشاركون في القرار، ويلتقطون الرؤى ويسارعون إلى تحقيقها".

لكن دوام الحال من المحال والتمرد لا بدّ وواقع ما لم تنتهج الحكومات الحالية وترضخ لمطالب التغيرات الكبرى التي تشهدها المجتمعات نتيجة العولمة وربط وتسهيل حركة التنقل ومخرجات الاحتكاك والانفتاح وعقد المقارنات والمقاربات إذ باتت تُلزم قياداتها وتطالب رغم القمع بضرورة مواكبة تحولات الحركة القيادية فيما يتعلق بالأحقية المطلقة في الاختيار كتكليف ومسؤولية يساءل عليها وليس كمرتبة وتشريف لا يطعن به. إلى جانب تحرير التعبير السياسي ومكانة المرأة والشباب والاقتصاد الحر والتنمية ومواجهة الفساد بشفافية وصرامة.

بين دوائر الهدي ودوائر القيادة

لذي الدوائر تقاطعات شتى في المبادئ والقيم، ولا شك أنها مهمة وقائمة بذاتها لكن الضرورة تلح والأولوية تفرض الحال، فما بين دائرة الدعوة والإغاثة والعمل الخيري جهود طيبة جبارة مباركة لكن تأثيرها محجم ولا يعلو لما نتراءى ونطلب من احتياجاتنا لنكون أمة منتجة لا مستهلكة تسد رمق الحال بالوعظ والتبرع، فضرورة الإعداد القيادي وتخصيص وبث الجهود والمقدرات في صناعة تيار شبابي كفء وواع له من الأثر البعيد ما يسهم في تسريع عملية النهوض الحضاري بتقديم وتعميم حلول عملية للأزمات اللاحقة بنا فلا شك أنها -أي القيادة- هي صانعة التاريخ، وما تاريخ الدول إلا تاريخ ساستها ودولها ومؤسساتها، وما الإنجازات الحضارية إلا منتوج إدارة الدول والمجتمعات.

في التربية والإنشاء

صناعة القادة ليست بالمهمة اليسيرة، إنما جليلة الغاية، مرحلية الأهداف، دسمة المضمون، الصبر عليها ورعايتها الدائمة في المراحل الأولى كالصبر على البذرة إذ يولى الاهتمام بها درجاته القصوى من توفير مناخ مناسب وملائم وحماية دائمة ومستمرة حتى يستمسك عُودها ويشتد. وهنا يلعب المضمار دوره في التفويض الفعّال، وترك التجربة أمر ضروري تفهمه القيادات الحكيمة التي تسعى لإفراز قيادات جديدة بعد أن جهزت التربة وراعت الغراس وقلّمت الضرر.

المنهج النبوي القيادي

المنهج النبوي يحمل من الأبعاد الخلقية والسلوكية والإدارية والقيادية زخما ضخما وعمقا يدهش الناظر ويلهم الرائي، فالمشاركة في القرار ووضوح الرؤية والمساهمة في تحقيق الأهداف ومقدار قول الحق ونقد الخطأ على نسقٍ عالٍ محرر للممكنات والطاقات الإبداعية. كما أن السبق والمبادرة في إحداث التغيير بمراقبة تغير الظروف عن كثب وتمهيد الخطط المناسبة واقتناص الفرص باستشراف المستقبل والوعي بمقاومته وتحدياته..وفي هذا الصدد علّق العلامة ابن باديس على قوله تعالى: }قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]: "هذه نملة هي كبيرة النمل لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها، إذ كانت تدرك ألا حياة لها بدونهم، وكان عندها من قوة الإحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها فبادرت بالإنذار، فلا يصلح لقيادة الأمم وزعامتها إلا من كان عنده من بُعد النظر وصائب الفراسة وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها"

من ضمن كفايات النبي صلى الله عليه وسلم الفذة قابليته النادرة على اختيار الرجل المناسب للمرحلة والعمل المناسب بالتزام حازم ومعرفة دقيقة بمزايا كل صحابته رضوان الله عليهم واستعمال ذي المزايا استخداما كاملا مفعلا في خير وصلاح العامة بالتشجيع والتقدير والإشادة  موازاةً لتغاضيه عن كل نقص بالتقويم السليم وتلافي المحاذير فكان عليه الصلاة والسلام بعبقرية أسلوبه يبني الفرد ولا يهدمه، ويقوّم المعوج ولا يكسره، ويشيّد الحاضر ويستشرف المستقبل، حريصا أن تتوفر القيادات الجددية على عقيدةٍ راسخة وكفاية عالية، فالقيادة جوهرها المبادئ، فلا ثروة دون عمل واجتهاد، ولا معرفة دون نزاهة ومصداقية، ولا علم دون إنسانية، ولا سياسة دون أخلاق وقيم. ناهيك عن العدل والشورى وحرية الفكر والنقد البنّاء والإبداع وروح الجماعة والتدرب والممارسة العملية العامة والمتخصصة.

وفي الأخير لنا في إخواننا الماليزيين عبرة ومثل، فالتجربة الماليزية قفزت في عشر سنوات من حضيض الأمم لمتوسطها، وهي ماضية في التنافس والعالمية.. ما السبب؟ تغيّرت القيادة، فتولت زمام الأمور قيادة ذات رؤية وفكر، وهنا بيت القصيد، فمتى وجد القادة الذين يحملون الفكر والرؤية فإن حياتنا.. كل حياتنا ستتغير نحو الأفضل.