كلما تفاقم الخطر الذي يُهدّد أمن واستقرار العالم الإسلامي ويعرقل مسار تنميته الشاملة المستدامة، كلّما سرى الضعف في كيانه، وتضاعفت التحديات التي تواجهه. وإذا ما أمعنّا النّظر إلى عُمق هذه التحديّات وسبرنا غور طبيعتها، سنجدُ أنّها تُضاعف حدتها وتزيد من ضراوتها، تحديات أخرى خطيرة ومدمرة تتمثل في تنامي التطرف، وتفاقم الصراعات الدامية في عدد من دول العالم الإسلامي، وشيوع النزعات الطائفية والنعرات المذهبية والخلافات الدينية بين أهل القبلة الواحدة.

إنّ الخطير في المسألة الطائفية تسيّسها، أي حملها من حيزها المجتمعي الطبيعي إلى الحيز السياسي المعني بتشكيل الدولة، فالطبيعي هو الطّائفية المجتمعية الناجمة عن التنوع، لذا فإنَّ الإنتماء الطائفي ليس سبّة بحد ذاته، بل هو خيار واختيار إنساني قد تحكمه التقاليد أو القناعات أو حتى المصالح، فالبشر يختلفون في الإعتقاد والأيديولوجيا الدينيّة والتقاليد والثقافات... وهو ما يؤسّس للطائفيّة المجتمعية بشكل تلقائي. والشاذ هو الطائفيّة السياسيّة التي تَستهدفُ احتكار السُّلطة وتسيير الدولة لصالح طائفة دون أخرى ممّا يُهدد وحدة أمّة الدّولة والدّولة معًا.

فالدولة في حقيقتها ما هي إلاّ جمهور المواطنين وأمة أفراد الدولة ومجموع رعاياها، توحدهم هوية سياسيّة موحدة هي هوية الدولة (السياسية الوطنية) لا غير. وعندما نقول لا غير فإننا نعني بذلك أنَّ الشرعي في عُرف الدولة فقط، وفقط إنّما هو هويتها السياسية. لذا فالطائفية المجتمعية مقبولة ما دامت تعني حق الإنسان بالإنتماء والإختيار الطائفي البريء غير المؤدلج وغير التفاضلي وغير التعصبي وغير المتجاوز على حقوق الآخرين. لكن أدنى ركون من الدولة لهوية فرعية مجتمعية يجعلها دولة تمييز وإقصاء وليست دولة وطنية جامعة لأمة الدولة.

إنّ هذه المشاكل العرقيّة والتقسيمات الطّائفيّة هي ثغرة في العالم العربي، حيثُ تسمح للقوى الأجنبية بالتّدخل من خلالها في الشّؤون الداخلية لبعض البلدان الإسلامية، وتفتح السبيل أمامها للتغلغل في المجتمعات واختراق الصّف الوطني في دول غير مستقرة للوصول إلى تحقيق مصالحها.

وهذا هو الأمر الذي يجعل العالم الإسلامي اليوم مستهدفاً على الدوام لمخططات كثيرة بالغة الخطورة، سواءً من طرف المصالح الأمريكية أو الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية.

والتي تهدفُ إلى إعادة صياغة الخريطة السياسية للمنطقة العربيّة باتجاه مزيد من التفكيك والتقسيم والتفتيت لمنع بزوغ مشروع حضاري عروبي توحيدي يعيد المكانة الحضارية للأمة العربية، الأمر الذي يعتبره الغرب واسرائيل وأمريكا تهديدًا مصيرياً للهيمنة الاستعمارية الغربيّة في المنطقة العربيّة والعالم.

والحقيقة أنّ العالم العربي اليوم يشهد العديد من السيناريوهات التفكيكيّة بداية بمحاولة إنشاء دولة للأكراد تدمج أكراد سوريا والعراق، يُضاف إلى ذلك إمكانية إنشاء دولة تشمل السنة في العراق وسوريا من خلال الإندماج عبر الحدود بين البلدين، هذا دون الحديث عن إمكانية العودة إلى تقسيم اليمن إلى دولتين في الشمال والجنوب، فضلاً عن إحتماليّة تقسيم ليبيا إلى ولاياتها الثلاث قبل الإستقلال المتمثلة في طرابلس في الغرب وبنغازي في الشرق بالإضافة إلى فزان وسبها في الجنوب. أما السعودية فتُشير الدراسات إلى إمكانيّة تقسيمها حسب ما أوردته الدراسة إلى خمس دويلات على أسس قبليّة وطائفية.... وغيرها الكثير من المخطّطات الأمريكيّة والصهيونيّة التي تهدفُ إلى إعادة النّظر في بعض الكيانات والدول العربية القائمة.

وممّا لا شكّ فيه، أنّ وجود أيادي خارجيّة في هكذا مشاكل داخليّة في العالم العربي سيتسبّب في زعزعة الإستقرار، وفي اضطراب الأمن، وفي فساد الأحوال العامة، مما ينعكس سلباً على الأوضاع السياسية والأمنيّة والإقتصادية والإجتماعية التي تعيشها الشعوب الإسلامية، وهو ما يدفع بالعالم الإسلامي إلى التراجع، أو إلى الجمود، أو إلى التعثر في مسيرته نحو الأمام، أو إلى الاقتراب من خطر التمزيق والتشتيت وتغيير الخرائط والمساس بالسيادة الوطنية للدول.

ولن يستقر العالم الإسلامي ويستتبّ الأمن والسلم في بلدانه، ويأخذ طريقه نحو التّقدم والنهوض الحضاري، إلا بوضع حد للإنقسامات الطائفية المدمرة والصراعات السياسية المحتدمة بين المسلمين.

ولكي تتجاوز دول العالم الاسلامي هذا المأزق الحضاري، وتتمكّن من مواجهة الأطماع الخارجية التي باتت تهدد المصالح العليا للعالم الإسلامي، بسياسات مُنسقة، وبإرادة قوية، وبروح أخويّة صادقة، وباستراتيجية واضحة المعالم لبناء المستقبل الآمن المستقر الذي يسود فيه التعايش بين شعوب العالم الإسلامي فإنّه يجب عليها بذل أقصى الجهود لمواجهة التطرف ولتصل إلى ذلك عليها أن تبدأ أوّلاً بمعالجة جذور الشّعوب الفكرية والاجتماعية بموازاة مع الإجراءات الأمنية، ثمّ القضاء على الأمية، بكل أشكالها، وتطوير التعليم وإدارة جودته بأحدث النُّظم التربويّة العالميّة وتحديث المناهج التعليمية في جميع مستويات التعليم، ومنع الفساد بصورة عامة، وتعزيز التكامل الإقتصادي بين دول العالم الإسلامي، وبتعزيز الوحدة الإسلامية في إطار احترام التعدّد والتّنوُّع، وذلك في ظل التوسع في التجارة البينية فيما بينها، وتبادل الخبرات المهنية والفنية والمالية والإدارية، مع نشر ثقافة العمل والإنتاج والتفكير العلمي النقدي في جميع الأوساط والتنافس في العطاء والإبداع والابتكار في مختلف حقول العلوم والمعارف والفنون.

لكن من المؤسف أن نرى بعض دول العالم الإسلامي تُضيّع الفرصَ والوقت والموارد في صراعات دموية وفي تدمير شامل للإنسان والعمران من أجل البقاء في السلطة واستمرار الاستبداد والفساد، ولو خربت البلاد، وأصاب البؤسُ العباد.

وبما أنّ الحل العلماني يثيرُ حفيظة قوى كثيرة في مُجتمعاتنا، لما اقترن في الوعي العام من مصادمته لعرى الدين، قد يكون رفعُ شعار "الإسلام هو الحل"، إلى جانب شعار "الدولة الإسلامية"، حلاًّ لكلّ هذه المشاكل الطائفيّة، أو حتّى أفقًا نحو الحل المستقبلي على الأقل، إذا عمل حملته على أن يكونوا جزءًا من الحل لا جزءًا من المشكل.

فالأحرى والأولى أن يتوفر حل سياسي من داخل المرجعية الإسلامية يتيح على الأقل ما تتيحه العلمانية من حريات دينية ومذهبية. لأنّ أكثر الجماعات الإسلامية رفضًا وتبرمًا من العلمانية في الكثير من الدّول العربيّة كالعراق مثلاً، هي نفسها أول من يغذي الحاجة للعلمانية بسبب ضيق أفقها ونزوعاتها الاستبعادية.

فمن الجميل أن نتحدث عن فضائل الوحدة والتضامن الإسلامي، ولكن أجمل من ذلك أن نُثبت ذلك واقعًا على صعيد الخطاب أو الممارسة بأنّ الإسلام عُنصر تعايش ووحدة، فننأى بأنفسنا كمُجتمعات إسلاميّة عن كل التحيزات المذهبية والطائفية بما يجعل من الإسلام فعلاً مظلة عامة وجامعة لكل المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وأعراقهم، كأن يجد الإسلامي «السني» لنفسه مكانًا في الحركة الإسلامية الشيعية، ويجد الإسلامي الشيعي له مكانًا داخل الحزب الإسلامي السُني... فيكون بذلك عاملاً مساعدًا على التّخفيف من الصراعات ورأب التصدّعات التي تشق مجتمعاتنا. حينها فقط يمكن أن نقول إن النّهضة الإسلامية تُمثّل خيارًا مستقبليًّا لمجتمعاتنا المنكوبة وليست ردة للخلف.

ختامًا، علينا أن نُدرك جيّدًا وأن نضع نُصب أعيُننَا أنّ حقيقة وجود دولة صافية ماهي إلاّ أكذوبة تاريخيّة، وعليه فليس للدولة إلا الاعتراف بالتّنوع وإعطاء التعددية حقّها ومجالها الطبيعي، الذي يمثّل اشتغالها في حقل المجتمع (كأمة إنسانية) وليس الدولة (كأمة سياسية)، فللمجتمع حق ممارسة ذاته على أساس من تنوّعه العرقي وتعدديته الطائفية بما يحقق هوياته الفرعيّة الطبيعيّة، لكن تبقى هذه الممارسة ضمن إطارها المجتمعي وليس السياسي، فالسياسي هو حيز الدولة، هو الهوية المشتركة الناجمة عن إنتماء أفراد المجتمع جميعهم إلى الدولة بحكم مواطنتهم لا بحكم أعراقهم وطوائفهم وأديانهم، أي بحكم فرديتهم لا بحكم مجموعاتهم. فكم هو فادح الثمن الذي يدفعه الوطن العربي بالتعامل الخاطئ من جانب حكوماته وتياراته السياسية مع قضية التنوع الثقافي، فبدلاً من أن يُصبح هذا التّنوع مصدرًا للإثراء والإستفادة من تعدد المهارات وأنماط السلوك صار هذا التنوع سببًا في تفجر اعتداءات متبادلة أفضت إلى حروب أهلية.