تعيش الحركات الإسلامية مرحلة صعبة، ربما تكون الأصعب منذ نشأتها قبل قرابة قرن من الزمن، لقد ظلت تلك الحركات تراوح مكانها قبل الانتفاضات العربية الأخيرة، فلم تجد مسلكا لحل المعضلة السياسية في البلاد العربية، بالرغم من أنها استطاعت أن تصبح القوة الشعبية الأولى والأساسية بعد عقود من الكفاح والعمل الإصلاحي الشامل لم تقدر على تخليص بلدانها من أنظمة شمولية فاسدة ورديئة، وبعضها عميل للمصالح الأجنبية، استعملت الحركات الإسلامية في مجملها كل أدوات التغيير التقليدية ولم تصل إلى إصلاح الأنظمة العربية، بل أصبحت تلك الأنظمة تستمد قدرتها على البقاء من وجود وقوة الحركات الإسلامية إذ باتت تخيف بها القوى الخارجية والداخلية المكينة التي تعارض الإسلاميين اعتراضا وجوديا، فتنال الدعم السخي من أجل البقاء.

وعندما بلغ اليأس مداه تغيرت موازين القوة تغيرا مفاجئا بحدوث الانتفاضات الشعبية سنة 2011 ووجد الإسلاميون أنفسهم أمام انتخابات حرة ونزيهة أوصلتهم إلى الحكم وإلى مؤسسات الدولة المختلفة ضمن ظرف لم يرصدوه ولم يعدوا أنفسهم له ولم يكن في حسابهم، وكثير منهم فسر هذا الفتح بأنه منحة من السماء نظير كفاحهم الطويل وبعد أن بلغ بهم اليأس مبلغه، وكثيرا ما قرؤوا في ظل الظروف الجديدة قوله تعالى في سورة يوسف: "حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)"، غير أن هذا التغير المفاجئ جاء بويلات كبيرة في العديد من الدول العربية تسببت فيها الحركات المضادة للثورات الشعبية،فدُمرت بلدان بأكملها وسالت الدماء وديانا، وشُرِّد الناسُ بالملايين وسُجنوا بالآلاف، ودخلت الأمة في معارك طائفية مدمرة،وظهرت تحالفات إقليمية ودولية باتت تهدد جغرافيا المنطقة كلها.

واستغل الصهاينة الظرف ليبرموا تحالفات غير مسبوقة مع أنظمة عربية باعت مقدساتها ودينها وذمتها وشعوبها وخيرات بلدانها من أجل الملك والسلطان وتعبيرا عن الحقد الدفين تجاه الحركات الإصلاحية السنية الوسطية وبسبب خوف مصنوع من التمدد الإيراني.

لقد كان من آثار هذا الوضع المعقد الجديد بروز خلافات شديدة داخل الصف الإسلامي وصل إلى حد التشرذم والانقسام، ومن ذلك ما حدث داخل حركة الإخوان المسلمين في مصر، وكان من نتائج ذلك كذلك دخول الإسلاميين عموما في حالة من الحيرة الشديدة،وضياع الفاعلية والتردد وغياب معالم مشروع جديد يتناسب مع التطورات الجديدة، إلى حد أصبح بعض المفكرين يتحدثون عن "ما بعد الحركات الإسلامية"، فكيف نقرأ هذه التطورات؟ وهل هذا الوضع السيئ ينبئ عن عيوب أصيلة في الحركة الإسلامية لا يمكن استدراكها؟ مما يجعلنا نسلم بنهاية الحركة الإسلامية؟ أم أنها أوضاع جديدة عادية لم يتهيأ لها الإسلاميون، وإنهم يملكون القدرة على التطور والتجديد بما يجعلهم قادرين على الاستدراك والاستمرار لتجسيد رسالتهم العالمية الخالدة؟
... يتبع ...


د. عبد الرزاق مقري