من الصحوة إلى النهضة إلى الحضارة: أين نحن؟ 

إن التمعن في حياة الأمم التي فرضت نفسها في التاريخ البشري وكان لها شأن كمجتمعات واعية ودول ناهضة وحضارات راقية ضمن سنة التداول التي ذكرها الله في قوله تعالى في سورة آل عمران: "إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)" سيكتشف أن البداية تمثلها دوما فكرة إحيائية يحملها رجل أو رجال يدعون إليها في مجتمعاتهم يشكلون لها جماعات ومنظمات وأحزابا ومذاهب واتجاهات وحين يتبناها الناس تشكل صحوة عامة قد يواجهها الفكر السائد وقوى التقليد والمصالح المرتبطة بها ويحاربونها، فإذا استعصت على الاجتثاث تتحول من ظاهرة تنظيمية إلى ظاهرة اجتماعية فتصبح عندئذ تنافسا على القيادة والحكم إلى أن تنتقل إلى الدولة، وتلك مرحلة حاسمة عصيبة تتبعها تضحيات جسام ومصائر مضطربة،فإذا ثبتت في الدولة واستقرت وأمنت تتحول الفكرة من رومنسيات ونظريات في خطب وكتب الفلاسفة والمفكرين والدعاة وأشعار الشعراء ومنتجات الثقافة والفنون إلى نهضة عامة تقودها الدولة بمدارسها وجامعاتها ومصانعها ومؤسساتها الاقتصادية المتنوعة، تنفق عليها من خزائنها وتحميها بجيوشها وتلك هي النهضة التي تحققها الأمم التي لا تتحقق إلا بتكفل الدولة بها، إذا النهضة منتج مادي ملموس أصله منتج نظري فكري، فإذا ترسخت الفكرة في الدولة وطالت تتحول تلك المنتجات النهضوية المتراكمة إلى حضارة شاملة تتجاوز حدود الدولة إلى رحاب الإنسانية، وهي المرحلة التي تصبح فيها المنتجات التي تنتجها أمة ما في حيز دولتها منتجات مطلوبة بشدة من خارج تلك الدولة وتصبح الدول الأخرى تحاكيها كنموذج للنهوض والتطور، تتعلم علومها ومناهجها وتدرس لغتها، هكذا كان شأن الحضارة اليونانية والحضارة الرومانية التي تبِعتها واتّبعتها، وهكذا كان شأن الحضارة الفارسية، ثم هكذا كان الشأن في الحضارة الإسلامية، ثم هكذا هي الحضارة الغربية اليوم.
لقد نشأت الحضارة الإسلامية فكرة أوحى الله بها إلى نبيه المصطفى -عليه الصلاة والسلام- الذي أوجد لها مجتمعا يتقبلها ويحتضنها ويصبر عليها مهما كانت التضحيات، ثم بحث لها عن مكان يقيم فيه الدولة، فلما أقام الدولة الأولى في المدينة بدأت النهضة الإسلامية العربية تصنعها دول تلو دول، أخذت في بداياتها وعبر تطورها من دواوين ومنتجات علوم من سبقها في الفرس والروم والهند والصين ثم سبقت من سبقها حتى صارت هي الحضارة العالمية التي لا حديث إلا بلغتها ولا وجهة إلا إليها، إلى أن بدأ التراجع والانهيار على الخط المعاكس إذ تراجعت الحضارة أولا فتوقف الإبداع والإنتاج العلمي ثم ضعفت الدولة إلى أن انهارت بسقوط الخلافة العثمانية، وبعد ذلك بدأت الفكرة تضمحل في المجتمعات الإسلامية وتنحرف حتى كادت تنتهي لولا أن الله كتب لها الانبعاث بحركات الإصلاح والتجديد التي أدركتها فور سقوط آخر دولة إسلامية كان أساس حكمها الإسلام. 

إن الحضارات التي تقوم على فكرة وضعية أو رسالة سماوية محرفة لا تعاود النهوض إذا سقطت في الغالب، ولكن رسالة الإسلام لا بد من أن تعود بعد السقوط حتما، ضمن ظروف وآجال لا يعلمها إلا الله، ذلك لأنها مرتبطة برسالة الإسلام الخاتمة الخالدة.

لقد كانت مهمة الحركة الإسلامية في القرن الماضي ضمن هذه الحتمية المسنودة بنصوص حسنة السند،كحديث التجديد كل مائة سنة وحديث التحول من النبوة إلى الخلافة إلى الملك العاض إلى الجبرية إلى الخلافة مجددا، هي مهمة بناء القاعدة المجتمعية التي يعود على أساسها في وقت لاحق الحكم الراشد، وقد نجحت في مهمتها نجاحا كبيرا، ومن أراد أن يحاسبها بإنصاف ويقيّم أداءها بموضوعية فليفعل ذلك على أساس هذه المهمة التي وفقت فيها توفيقا كاملا، وهي مهمة بناء القاعدة المجتمعية، وإن أكبر خطأ يقع فيه الإسلاميون أنفسهم، فيجنون على أنفسهم بغير حق، هو حينما يعتقدون أنهم برزوا في المجتمعات العربية والإسلامية من أجل الدولة، فيبقوا ينشدون الحكم بأفكار ومناهج ومعارف وآليات لم يضعوها لهذا الغرض، لا يطورون ولا يجددون أنفسهم وفكرهم بما يتناسب مع المرحلة الجديدة التي هي فعلا مرحلة للسياسة والدولة، لقد كتبت بحثا مطولا سنة 1996 عنوانه: "الحركة الإسلامية في آخر هذا القرن: إلى أين؟" صدر في دورية البصيرة عن دار الخلدونية بالجزائر، وصفت فيها إنجازات الحركات الإسلامية والتحديات التي تواجهها وذكرت فيها أنها ستستقبل تحديات عويصة في القرن المقبل وأن دخولها إلى القرن الجديد يتعلق بقدرتها على التجديد وتطوير نفسها وفق متطلبات المرحلة، وأن الحركات الإسلامية التي تطور نفسها ستدخل القرن المقبل، والتي لا تفعل لا تدخل، وأن العبرة في دخول القرن المقبل ليست بضخامة الجسم وعدد الأتباع وإنما بالقدرة على التجديد، وأن حركات إسلامية كبيرة قد ترسب فلا تدخل القرن المقبل ثم تضمحل وقد تزول، وحركات إسلامية صغيرة سترتقي عتبات القرن القادم وتكبر فيه وتزدهر، وأكدت أن التنظيمات الإسلامية المؤهلة أكثر من غيرها للارتقاء هي تنظيمات الإخوان المسلمين، ولكن الله لا يعطيها بطاقة بيضاء للعبور، من تجدد وجدد سيمر، ومن تكاسل وبقي في الماضي سيبقى فيه إلى الأبد، وأن الراجح أن تنظيمات من الإخوان المسلمين ستمر وتنظيمات منها لن تمر، وستظهر تنظيمات ليست من الإخوان المسلمين سيكون لها دور أساسي في الأمة. ولا أخالني إلا قد وفقت في هذا الاستشراف بفضل الله فنحن نراه اليوم رأي العين.
إن المرحلة التي نحن فيها اليوم هي مرحلة الانتقال بالفكرة الإسلامية من المجتمع إلى الدولة ضمن السيرورة التاريخية والحتمية النصية التي أشرت إليها أعلاه، وهي مرحلة عصيبة خطيرة حاسمة كل ما يحدث فيها من أهوال أمر طبيعي لا غرابة فيه ويعود ذلك إلى سببين اثنين كلاهما مفهوم ومتوقع لمن يفهم السنن القرآنية والتاريخية والاجتماعية:

1- السبب الأول

وهو قوة الصد والإعراض وشدة الرفض وعمق العداوة من الأعداء التقليديين للفكرة الإسلامية وهم المعتدون والظالمون من اليهود والنصارى والمنافقون والمشركون والملاحدة وأصحاب المصالح مهما تعددت ألوانهم وأسماؤهم ومذاهبهم ويأتي على رأس هؤلاء الأعداء الحلف الصليبي-الصهيوني وأولياؤهم في البلاد العربية الإسلامية.
ـ لا شك في أن المنطقة العربية الإسلامية منطقة استراتيجية من حيث موقعها الجيواستراتيجي ومن حيث خيراتها، ولها دور أساسي عبر التاريخ في التحولات الكبرى وتغير الخرائط شرقا وغربا. وهذا سبب جوهري لاستهدافها ومحاولات غزوها المتكررة والسيطرة عليها، بل كانت ولا تزال منطقة صراع بين الأمم الأخرى، من يسيطر عليها ترتفع فرصه للسيطرة على العالم بأسره.
ـ غير أن ثمة سببا آخر لا يقل أهمية يفسر هذا الصد العظيم وهو خوف سادة العالم والمسيطرين عليه من حدوث تغيرات دولية كبيرة يتسبب فيها الإسلاميون إذا وصلوا إلى الحكم واستقروا فيه تتجاوز أقاليهمم فتَزعزع المصالحُ الكبرى التي تتحكم فيها القوى الكبرى وتغييرُ المنظومة الدولية القائمة على الظلم والهيمنة والسيطرة وباحتكار أقلية مسيطرة على المالية العالمية على حساب أغلبية سكان الكرة الأرضية وعلى حساب البيئة والمحيط، لقد استقر العالم على منظومة رأسمالية عالمية ربوية ظالمة توشك أن تحقق نبوة فوكوياما التي سماها "نهاية التاريخ" حيث سيطرت المنظومة الرأسمالية المادية الربوية في كل دول العالم غربا وشرقا بما فيها روسيا والصين. ومهما تنوعت وتصارعت مصالح هذه الدول فإنها متفقة على أن المنظومة السائدة يجب ألا تتغير، وهم جميعا يحكمون على التيارات الإسلامية الصاعدة حكمهم على الإسلام ذاته. إنه مهما حاول الإسلاميون التعبير عن صدقهم في التزامهم بالديمقراطية وأسس الدولة المدنية والمعايير العصرية للحكم الراشد فإنهم لن ينالوا القبول في المنظومة الدولية السائدة مهما أبدعوا في ذلك قولا وفعلا. إن خصومهم يعلمون بأن الإسلام ذاته يحارب الظلم ويقف مع المستضعفين وأنه لو تمكن سيغير المنظومة وليس الحكم فقط، لهذا السبب لن تسمح الشركات العابرة للقارات المستغلة لخيرات الشعوب وصناع السلاح المؤججة للحروب، ولوبيات البترول والغاز المفسدة للطبيعة، وتجار المخدرات المسنودون من الحكام، والمتحكمون في عقول الناس وأذواقهم وقيمهم بالسيطرة على وسائل الإعلام للتيار الإسلامي أن يتمكن في أي دولة لأنه بالنسبة إليهم تيار عالمي جديد يلتقي مع أي فكرة عادلة وإنسانية في العالم يستطيع أن يقضي على النظام العالمي القائم ويغيره كله مع مرور الزمن، إن هؤلاء جميعا يعرفون أن الإسلاميين صادقون وعدول وديموقراطيون أكثر من غيرهم، ولكن ظلم الظالمين يدفعهم إلى المكابرة فيغيرون الحقائق بما يملكونه من قوة فتاكة، ناعمة وصلبة. إن هؤلاء لا يسمعون للإسلاميين حين يتكلمون ولا يهتمون بالتطويرات الإيجابية العصرية في فكرهم وأدائهم، لكن ينظرون إلى سلوكهم ومدى التزامهم بإسلامهم؛ فإن رأوهم ملتزمين سيظلون عندهم غير مقبولين في الساحة السياسية، إلا أن يكونوا جزءا غير مؤثر من الديكور، فإن قام الإسلاميون بتغيير دينهم وتركوا أصوله وقطعياته وأسسه وقبلوا أن يكونوا تبعا للدين العالمي السائد والإله الجديد الذي يسمى "السوق" ودخلوا في منظومة الظلم مقهورين أو شركاء فيها مكنهم أعداؤهم ليكونوا جزءا من الحياة السياسية وربما قيادة دولهم التابعة المسحوقة. لقد بين الله تعالى ذلك إذ يقول لنبيه شارحا له سبب صد أعدائه له ولفكرته في سورة الأنعام: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىٰ ۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)"، إن في هذه الآيات سلوى لكل المصلحين الثابتين على فكرتهم في هذه المرحلة الحاسمة لانتقال الفكرة من المجتمع إلى الدولة، ومما يجب ملاحظته في هذه الآية أن الله يتحدث فيها عن الظالمين وليس عن الكافرين بالرغم من أن سبب نزول الآية يتعلق بأبي جهل رأس الكفر، وإنما التعميم يتعلق بالظلم بغض النظر عن الديانة والملة، فقد يكون المعنيَ به ظالمٌ مسلم يعلن اتّباعه هذا القرآن الذي يعنيه ويلعنه ذاته. وأجمل ما في الآية هو أسلوب عتاب الله لرسوله صلى عليه وسلم، وهو عتاب يصلح أن يوجه إلى كل من اشتد عليه الكرب وهو يرى اليوم عظيم الخطب وشدة الإعراض في البلاد العربية على إثر الانقلاب على إرادة الشعوب: اخرق الأرض أو اصعد إلى السماء لتجد شيئا ترضي به هؤلاء الذين يعرضون عنك ويحاربونك، هؤلاء جميعا هم لا شيء أمام جبروت الله، ولو شاء الله لهداهم جميعا كما تريد، وإنما جعلهم سبحانه بلاء لك ليختبر إيمانك وجهادك وكفاءتك في مواجهتهم، ولو كان رجل ينزل عليه النصر من السماء بلا كرب ولا حزن ولا جهد ولا جهاد لكان خير خلق الله محمدا بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-.
ـ وهناك سبب آخر يفسر قوة الصد في طريق صعود الفكرة الإسلامية من الدعوة إلى الدولة وهي طبيعة العلاقة التاريخية المرتبكة بين الفكرة العلمانية السائدة في العالم مع الدين بشكل عام، لقد كافح مؤسسو الفكرة العلمانية المادية كفاحا شديدا من القرن السادس عشر إلى بداية القرن العشرين وانتهت المعركة بانتصار الفكرة العلمانية المادية على الفكرة "الدينية" انتصارا تاريخيا قام على أساس العلم والاكتشافات وسيادة العقل البشري، لقد كانت الكنيسة المسيحية هي المسؤولة عن هذا الانفصام النكد بين العلم والدين حيث كانت أثناء القرون الوسطى تسيطر على عقول الناس ومصائرهم بنصوص دينية محرفة وجامدة لم تستطع مواكبة التطورات العلمية التي جاء بها عصر النهضة العلمية الأوربية المتأثرة بالحضارة الإسلامية في الأندلس وعبر الحروب الصليبية والبعثات العلمية. لقد حاكمت الكنيسة العلماء وقتلت منهم الكثير وسيطرت على الحكم بتحالفها مع الأمراء الذين صاروا "مقدّسين" يحكمون باسم الإله كذبا وزورا، وبعد صبرٍ ومقاومةٍ في بداية الاحتكاك بتسلط رجال الدين المسيحيين اقتنع العلماء والفلاسفة في أوروبا بأنه لا تطور إلا بمحاربة الكنيسة وتغيير الدين وتطويعه للعقل البشري. وكانت المواجهة على جبهتين: جبهة دينية إصلاحية أنشأت دينا جديدا هو المذهب البروتستنتي الذي أحل الربا وشجع الثراء والمصلحة الفردية فكان هو مهد الرأسمالية كما يقول ماكس فيبر في كتابه: "الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"، واعتمد العلمانية واعتبر أن الدين لإصلاح الفرد والمجتمع ولا علاقة له بالحكم، وتحالف مع الصهيونية على أساس ديني وانطلاقا من العدو المشترك المتمثل في الكنيسة الكاثوليكية آنذاك. أما الجبهة الثانية، فهي الجبهة الإلحادية أو المعادية للدين أو التي لها حساسية مفرطة منه ولا تعترف له بأي دور إلا في الحيز الفردي الضيق وهي الحالة التي عُرفت أكثر في أوروبا اللاتينية حيث الصدام مع الكنيسة كان أشد ودام مدة أطول وكذلك في أوروبا الشرقية وروسيا إبان الدولة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي.

إن هذا التاريخ الطويل الذي انتهى بانتصار العلمانية بكل أنواعها هو الذي يشكل الخلفية الحضارية في مواجهة الإسلام في الساحة السياسية العالمية، سواء بمحاولة استئصاله وفق المنهج العلماني المتشدد الغالب في فرنسا وعند المسيحيين الجدد في أمريكا، أو تغييره وتدجينه وفق المنهج العلماني الناعم كما حدث مع المذهب البروتستنتي الغالب في العالم الإنجلوسكسوني.

لا يقبل الغربيون ومن سار على نهجهم أبدا أن يعيدوا تجربة المواجهة مع الدين في الساحة السياسية، مع أي دين، حتى وإن كان ذلك الدين لا علاقة له من الناحية التاريخية بتجربتهم وأنه في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة تسيطر على العقول بالخرافات كان الإسلام يُحيي العقول ويدفع إلى التأمل والاكتشاف والإبداع باسم الوحي، لا يريد كبار العالم اليوم أن يتيحوا الفرصة للعودة إلى مكانة الوحي في بناء القيم وتحديد المعايير أو أن يعاد ربط السماء بالأرض، إنهم لا يريدون أن يكون للدين وجود في السياسة بل في الحياة العامة كلها، وبما أنهم يعرفون ما هو الإسلام ومكانته في الشأن العام فالمطلوب من المسلمين أن يغيروه، وذلك الذي ينبه الله إليه بقوله سبحانه في سورة البقرة: "وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ(217)"، وقوله في سورة النساء: "وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً"، وقوله سبحانه في سورة البقرة: "وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)"، لقد رأيت بنفسي هذه الحقيقة بعد سنوات طويلة من الحوار مع مراكز الدراسات الغربية إلى جنب العديد من قيادات التيار الإسلامي حيث كنا نعتقد أن المنتظر منا هو التطور الفكري لنتوافق مع الديموقراطية والعصرنة وما يسمونه بالمناطق الرمادية التي أبدع الإسلاميون في الرد عليها، فإذ بنا نكتشف أن المطلوب منا تغيير أسس الدين والتماهي مع الرؤية الغربية الرأسمالية والتفريط في القضية الفلسطينية وكأنهم يريدون منا أن ننتج بروتستنتية إسلامية.
ـ وبالإضافة إلى ذلك ثمة ما يغذي هذه الخصوصية في علاقة الغرب بالإسلام وهي ذكرياتهم وثاراتهم مع المسلمين، التي يتذكرونها كلما رأوْا تيارا إسلاميا مقبلا، إذا كان جادا وفاعلا ومؤهلا للاستقرار في الحكم وصناعة نهضة إسلامية حقيقية، إن هؤلاء يذكرون جيدا أن الدول الإسلامية التي حكمت باسم الإسلام هي التي هزمتهم عبر قرون طويلة وأخرجتهم من الشام ومن الأناضول وقرعت أبواب فيينا وكادت أن تجعل أوروبا كلها مسلمة. إن الغرب وأزلامه الذين يطلبون منا دوما أن نخرج من التاريخ ولا نبقى محبوسين فيه بقي التاريخ عنصرا أساسيا لديهم في ضبط طبيعة العلاقة بالمسلمين، وما يقال عن الغرب الأوروبي الأمريكي حيث أصل الصراع، يقال عن روسيا في الشرق كذلك، إذ الحالة الاحترابية التاريخية والثقافية حاضرة بين هذه الدولة وبعض الدول الإسلامية وبخاصة الدولة العثمانية، ويضاف إلى ذلك ما تسببها المشاكل الكبيرة القائمة حاليا مع الأقليات الإسلامية التي بقيت تحت الحكم الروسي والحكم الصيني والحكم الهندي.
ـ أما عن الصد العظيم والإعراض الشديد الذي تواجهه الحركات الإسلامية من الأنظمة العربية فهو كذلك غير مستغرب، فهذه الأنظمة العربية هي التي تتوجه إليها مباشرة مشاريع الإصلاح ومحاولات التغيير، فلذلك تراها تمعن في الصد والإعراض والعمل على تدمير كل فرصة للإصلاح والتغيير، بل وتتحالف مع القوى الخارجية ضد مواطنيها من أجل البقاء في الحكم، وتلك سنة جارية لا تتغير ولا تتبدل تقضي بأن الملك إذا استقر عند من أوتيه لا يحب تسليمه بل يُنتزع منه انتزاعا وفق قوله تعالى في سورة آل عمران:"قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)"، فالحكام الذين واجهوا إرادة الشعوب في موجة الثورات العربية فعلوا ذلك للبقاء في الحكم ولو أدى ذلك إلى تدمير بلدانهم وقتل وتشريد شعوبهم بالجملة، بل رأينا كيف أنهم يتحالفون مع الأجنبي ضد شعوبهم كما يفعل بشار الأسد مع روسيا وإيران وما تفعله السعودية والإمارات مع أمريكا وإسرائيل، وهي حالة متكررة في التاريخ رأتها الأمة الإسلامية في أواخر الدولة العباسية قبل احتلال بغداد من المغول ومع أمراء الشام ومصر قبل أن يقضي عليهم صلاح الدين الأيوبي قبل تحرير المسجد الأقصى، وتكرر هذا مرات ومرات عبر التاريخ، أمراء وحكام يقتلون ويقاتِلون المسلمين ويتحالفون مع العدو من أجل البقاء في الكرسي. وتدخل هذه الحالة كذلك في المعنى الذي تحدثنا عنه حول قوله تعالى: "فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ"، فالأنظمة العربية أنظمة ظالمة وفاسدة ولا يمكنها أن تتعايش مع من يحارب الظلم والفساد إلا في إطار ما يفرضه ميزان القوة وفق ما سنبينه لاحقا، إنّ هذه الأنظمة يعرف قادتها أن الساسة والدعاة والمصلحين في التيار الإسلامي من أشرف الناس ومن أكثرهم صلاحا ووطنية ولكنهم لا يقرّون بذلك، بل إن صلاح هؤلاء هو الخطر في حدّ ذاته وربما هو ذنبهم الكبير وفقا لقوله تعالى عن حكم قوم لوط على نبيهم في سورة النمل: "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)".
يتبع...