في معرض حديثنا سألني أحدهم ذات مرةّ: ما الذي جاء بالعرب المسلمين إلى شمال إفريقيا؟ فأجبته بقوله تعالى: "لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"، فالرسول سيكون شهيدا علينا لأنه قد بلغنا رسالة ربه، ونحن بدورنا سنكون شهداء على الناس، لذا يجب علينا أن نبلغهم هذا الدين لنقيم عليهم الحجة ولنوصل لهم نور الله و حبه.

سكت صاحبي و يبدو أنه اقتنع بجوابي، لكن سؤاله البسيط في ظاهره، المركب لمن يتعمق فيه، جعلني أطرح على نفسي أسئلة أخرى: كيف لهم أن يتغربوا عن ديارهم بآلاف الأميال، مفارقين أزواجهم وأولادهم إلى أرض غير أرضهم، وهم الذين اعتادوا على حر الصحراء وجفافها قاصدين برد الجبال ورطوبتها؟ أي دافع هذا الذي جعلهم يعبرون الصحاري والوديان والتلال والجبال في سبيل تبليغ دين الله لقوم لا يعرفونهم ولا يقربونهم ولا حتى يتكلمون لغتهم وفي أفضل الحالات سيحاربونهم..

وقفت حائرا أمام هذا الكم المتراكم من الأسئلة لأيام وشهور، وفي أحد الأيام، وبينما كنت أقرأ قصة الرسول الكريم لما قصد الطائف يدعو أهله للإسلام، وأتذكر الإساءة التي قوبل بها، وتحريضهم لعبيدهم وأراذلهم عليه يرمونه بالحجارة صلى الله عليه وسلم، ولما أتاه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق الأخشبين على أهلها، كان رده: «لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحدون الله». ورحت أستذكر ما حدث له مع أهل مكة حينما دخلها فاتحا منتصرا، سألهم: «ما أنا فاعل بكم؟» وهم الذين أهانوه وضربوه حتى أنهم حاولوا قتله، وبالرغم من أنه كان في أشد لحظات قوته إلا أن هذا لم ينسه هدفه وغايته فأجابهم «اذهبوا فأنتم الطلقاء».. هكذا دون تفكير ودون مقابل، عفا عنهم بعد كل تلك السنين. إنه حلمه وأبوته التي شملت العالمين. وقلت في نفسي: «لا شك أن هذه هي روح الإسلام الحقة التي أورثها محمد أصحابه وأتباعه».

لكن ثمة من يدعي أن هذه الصفات والمكارم اختص بها الأنبياء دون غيرهم من البشر وأنها انقطعت مع آخر نبي بعث. توقفت عن التفكير في هذا الموضوع وكنت قد نسيته، إلى أن استمعت صدفة إلى شريط للباحث في التاريخ الإسلامي: د.راغب السرجاني بعنوان «الأندلس من الفتح إلى السقوط» وقد تناول فيه قصة شيخ مالكي من القيروان، قطع آلاف الكيلومترات إلى جنوب موريتانيا، ملبيا دعوة زعيم قبيلة شذ أهلها عن الدين واتخذوه هزؤا. ذهب يدعوهم ويذكرهم لعلهم يهتدون، فما كان منهم إلا أن تجاهلوه في بداية الأمر فلما ألح عليهم أعرضوا عنه، فلما زاد في إصراره طردوه وهددوه بالقتل إن لم ينته عن هذا. حزن الشيخ وحزم أمتعته عائدا إلى القيروان حيث كان، بعدما أدى ما عليه وزيادة -هذا في نظرنا نحن-، لكن الشيخ عبد الله بن ياسين لم يستسلم وظل يتساءل: «من لهؤلاء القوم غيري، وإن أنا ذهبت فهل من أحد سيفكر في المجيئ إلى هنا؟» توقف الشيخ عبد الله يفكر فيما سيفعله مع هؤلاء القوم وعنادهم، وأظنه لم يطل التفكير حتى قرر الغوص في أعماق الصحراء، ليصل إلى شمال السينغال ويستمر في دعوته. وما هي إلا سنة واثنتين حتى أصبحت قبيلة "لمتونة" نواة دولة المرابطين بعدما تابت وعادت إلى ربها ودينها. الكل يعرف ما قامت به هذه الدولة بقيادة أبي بكر بن عمر اللمتوني وبعده يوسف بن تاشفين، ولعل أشهر موقعة خاضها المرابطون هي موقعة الزلاقة سنة 479 هـ، والتي تعتبر في التاريخ الإسلامي ذات أهمية بمثل موقعة القادسية واليرموك.. أوقفت الشريط ويبدو أن الأسئلة لا تنفك تتوقف عن طرح نفسها: «ماذا لو أن الشيخ عبد الله بن ياسين عاد إلى القيروان ولم يكمل دعوته؟ هل كانت لتقوم قائمة لدولة المرابطين؟ وهل كان ليتحقق ما حققته دولتهم من فتوحات وانتصارات؟»

لا شك أن ذلك ما كان ليحصل لولا تلك الروح النقية الصافية «روح الأبوة» قد كانت ترافق القائد عبد الله بن ياسين طيلة فترة دعوته، والتي كانت بلا شك دافعه في دعوته وصبره على ما لاقاه من عباد قست قلوبهم وتحجرت من معصيته سبحانه وتعالى، فما كان منه إلا أن نزع عنها غشاوة الكبر ولينها بروحه الأبوية الطاهرة الخائفة الرؤوفة الرحيمة المحبة، فأوصلت -هذه الأخيرة- إلى قلوبهم الإسلام النقي الطاهر، الإسلام الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام، أولئك السابقون السابقون، والذين هم بدورهم قد قاموا بنشره في بقاع العالم بأسره، متغلبين على كل الصعاب، متسلحين بهذا الحب النقي.

وهذا ما يذهب إليه المفكر العلامة مالك بن نبي في مؤلفه «مجالس دمشق» والذي بيّن فيه واجبات المسلم اليوم، يقول: «يجب على المسلم أن يعرف نفسه من دون مغالطة، وأن يعرف نفوس الآخرين من دون كبرياء وتعالٍ، وبكل أخوة و صدق و إخلاص أن يحبهم لوجه الله، حتى تصل إليهم عن طريق هذه المحبة وعلى جسرها حرارة الإسلام، حرارة الحب الإسلامي». بعد كل تلك الأسئلة التي قادتني إلى هذه الرحلة الفكرية التأملية لوقت من الزمن، أدركت مدى عظمة هذا الدين وعالمتيه وبعده الإنساني، الذي يحثنا باعتبارنا مسلمين إلى مشاركة هذا النور المبين، وجعله أمانة في رقابنا، بل فرضا وطريقا لنيل رضاه.. والمؤمن المتبصر في القرآن، العامل به، يدرك تماما معنى الآية «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» ويعي تماما ما ترمي إليه، وهو أن هذا الدين لم يخلق ليحصر بيننا، بل خلق لينتشر وينثر نوره في كل شبر من هذا العالم، وينير قلوبا قست، ويهديها إلى صراطه المستقيم.. بهذا الفهم سار أجدادنا وفتحوا القلوب قبل البلدان، وبنوا العقول قبل العمران، فالإيمان كان وقودهم والحب طريقهم إلى أفئدة الناس.