لطالما اعتبرت اللغة، إضافة إلى كونها وسيلة للتعبير والتبليغ، نسقا من الرموز والإشارات التي تشكل إحدى أدوات المعرفة، وظل سؤال علاقة الكلمة بالمعنى الذي تدل عليه قائما يبحث عن تعقيدات الارتباط بينهما، غير أن ما يمكن الاتفاق عليه هو أن اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة وأثر أحدهما متعد للآخر يشكلان في أحيان كثيرة لغة فكرية. 

«ثورة المفاهيم».. الجهل بالميزان والافتتان بالمصطلح 

غالبا ما تجسد اللغة الفكرية لغة التواصل الاجتماعي التي تسعى مختلف القوى لاستغلالها وصب التصورات والمفاهيم من خلالها، لتعرض في الأخير داخل قوالب جاهزة وجاذبة لمتلقيها ومتابعها.

ومن نافلة القول تبيان ارتباط ثورة المفاهيم الفكرية المعاصرة بالطفرة الاتصالية الحديثة والتي من مظاهرها تأثير رموز وأيقونات الإعلام الجديد على بناء التصورات وصياغة المفاهيم العقدية والمنهجية، مع جنوح الكثير منهم للاستقاء والتحاكم إلى الأفكار الفلسفية والحداثية بأنساقها وأصولها، وكذا الاشتغال بالسجالات المتخصصة المتداولة داخل الدائرة الفكرية. 

ومن عرف ميزان الأخذ والعطاء استأمن جانبه واستبرأ لدينه وعقله، إنما الإشكال في من أعجب بعقله واستأثر برأيه، حتى قطعت الغوائل هذا العقل فأحالته حيرانا أسفا يتململ تململ السليم ويتذبذب تذبذب المرتاب، لا يستقر له رأي على صواب فينتج ما لا نظام له ولا اتساق، موغلا أحيانا فيما حقه التبسيط ومبسطا ما يستوجب التدقيق والتحقيق.

والمتتبع لتاريخ الأفكار، الذي يقدم لنا خلاصة تفكير الآخرين وتجاربهم واستبصاراتهم وإجاباتهم عن الأسئلة المحورية عبر العصور، يدرك صعوبة الاستقرار على طريقة محققة في تحليل البنية الداخلية للأفكار.

لكن يكفي أوليا الإحاطة بالقضايا والمتعلقات التي تعد من روافد أي ظاهرة إنسانية، فيسلط الضوء على الأسباب والآراء المكونة لها وسياقات النشأة والبروز ومنهجيات التعامل ووسائل الترويج دون إغفال المنابع التي يستقى من حياضها.

ومن سبر أغوار واقع اليوم أدرك أن من أعظم فتن هذا الزمان فتنة "المصطلحات والمقولات"، فأما الأولى فإنها تقلب المفاهيم والعبارات ليسهل تقبلها ويتيسر هضمها  وقد قال تعالى في من يتولى كبر هذا الإفساد ‏{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}1

أما الثانية فإنها تضمر شرها تضمينا لا تصريحا حاملة وجه حق وأوجه باطل حتى تمرر بطريقة هادئة غير مصادمة فلا يتفطن  الناس لها لإغفالهم سياقاتها الحقيقية ولوازمها ومآلاتها، مع عجز الكثير عن تفكيك الأفكار إلى وحدات لردها إلى أصولها.

«وعاء الفكرة».. المشاحة في المعنى أم في الاصطلاح؟

إن الساحة الثقافية والفكرية تعاني اليوم رخاوة في التعامل مع الاصطلاحات الحادثة مما يسهم في مضاعفة الريبة، ويبلغ الانحراف مبلغه إذا أصبح الخطأ الاصطلاحي مسلّمة معرفية لا تقبل الاعتراض أو النقاش.

لهذا كان موضوع تحرير الاصطلاح وضبطه قضية محورية لا يستغنى عنها في الحكم على الأشياء، لمجابهة محاولات تمييعها وتعويمها وصبها في قوالب جاهزة.

ولقد اعتُبر النظر في المصطلحات من جهة التركيب والدلالة والتوظيف بابا رئيسا لفهم الأفكار والآراء من جهة، ولصياغة القوالب الفكرية وتداولها من جهة أخرى.

والمتتبع للتاريخ الإسلامي لا تكاد تخطئ عينه رصد اهتمام علماء الإسلام بهذه القضية وتأليفهم فيها وقد "عرّف بعض المعاصرين المصطلح بأنه علامة لغوية خاصة تقوم على ركنين أساسيين، لا سبيل إلى فصل دالّها التعبيري عن مدلولها المضموني، أو حدها عن مفهومها، أحدهما: الشكل « Form» أو التسمية « Dénomination» والآخر المعنى «Sens» أو المفهوم «Notion» أو التصور «concept»… يوحدهما التحديد أو التعريف «Definition» أي الوصف اللفظي للمتصور الذهني."2

وليس أفضل في تبيان أهمية الانضباط الاصطلاحي من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت « كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما فصلا يفهمه كل من سمعه »3.

وعطفا على ما سبق فإن "المصطلح وعاء لفكرة ما وتصوير بالحرف لمعنى مجرد، ولذلك فهو على درجة عالية من الخطورة في ميزان الفكر والشرع والواقع"4.

وهو بحاجة لأن يطرق بشكل أعمق ويُتوسع فيه بشكل أدق لمحوريته في تشكيل العقل المسلم، ولتمييز الصحيح من الفاسد والقوي من الضعيف بالتمحيص والاقتران المؤدي لتمايز المعاني.

مع الابتعاد عن تأصيل الشك والتذبذب في تقرير الحق ليعلو عليه الأول وعلى البراهين {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}5. 

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض أن القلوب مفطورة على أن يتجلى لها من الحقائق ما هي مستعدة لتجليها فيها فإذا تجلى فيها شيء أحست به إحساسا باطنا بواسطة تجليه فيها، فليحذر الذين تجلى لهم الحق وأعرضوا عنه أن يكونوا ممن استيقنوا بها وجحدتها أنفسهم.

ومما علمتنا إياه الأيام أنّ الإسلام أكبر من أن يواجهه أحد لذا كان التركيز على تشويهه وتسمية المقصود بغير اسمه ليُتفرد به ويسهل حربه من قبل أصحاب الهيمنة والنفوذ، ويتم ذلك عبر العبث بالمشترك الدلالي للكلمات وتوظيفها بما يخدم الأجندات، فتحريف الكلم عن مواضعه امتداد تاريخي للسحر كما ذكر فريد الأنصاري رحمه الله.

 وقد حذر عليه الصلاة والسلام من التلاعب بمدلولات المصطلحات أيضا إذ ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله يقول: « إن أول ما يكفأ (يعني الإسلام) كما يكفأ الإناء (يعني الخمر) قيل: فكيف يا رسول الله وقد بيّن الله فيها ما بيّن؟ قال: يسمونها بغير اسمها فيستحلونها»6

ومن أكثر المصطلحات التي وظفت واستغلت لتطبيع المفاهيم وتمييع المقاصد ما كان من جنس تسمية الشر خيرا والخير شرا وقلب الكفر إيمانا والإيمان كفرا وما تلى ذلك من قص المصطلحات والأفكار عن جذرها التاريخي وحقلها الدلالي والإصلاحي وتطعيمها وتطويعها حتى يتيسر نفاذها عبر الثقوب بعد أن أوصدت دونها الأبواب.

ولكم أن تيمموا شطركم تجاه مصطلحات الحرية والديمقراطية والإنسانية والإرهاب وحقوق المرأة وحتى الحضارة والحداثة، فكلها توظف تبعا لصاحب الأمر لا لأصل الكلمة المجردة.

وبما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره فإن تسمية الأشياء بمسمياتها وضبط مدلولاتها بما يمنع التبديل والتغيير من أعظم الأفعال نفعا في تنظيم الفكر وتقويمه وتحصينه ضد التسربات. أما إذا حاجج البعض بقاعدة لا مشاحة في الاصطلاح فالجواب عنهم في تتمتها وهي بعد معرفة المعاني!

تفكيك «زخرف القول».. بين وجه حق ظاهر وأوجه باطل مستترة

إن حالة الاشتباه والريب والدعوة للتحرير والتصويب لا تقتصر على بعض المصطلحات إنما تتعدى إلى جملة من المقولات التي تتفاوت في قربها وبعدها عن الحق، وتتميز بسهولة العبارة وعموم التأثير ووضوح الحجة ظاهرا، غير أنها قد تحمل معاني باطلة أو مستترة تجانب الصواب وتؤدي إلى الزلل وأنواع من الفساد.

وهي تشترك غالبا في مجموعة من الخصائص، من أهمها شيوع انتشارها بين مختلف طبقات المجتمع، واقتصارها على عبارات محددة ومركزة، كما أنها ذات تأثير قوي لاستخدامها غالبا عند الاستدلال على الأفكار، مع وضوح معناها مما يسهّل توظيفها واستدعائها عند الحاجة، دون إغفال جزئيتها الأهم والمتمثلة في استغلال الحق المقبول لتمرير جزء من الباطل المذموم بهدوء ولين وروية.

والحقيقة أن الكشف عن ما تضمر هذه المقولات وأوجه المغالطة التي تحتويها لا هو بالأمر الصعب ولا هو بالسهل، إنما وسط يتطلب دقة نظر وامتلاك أدوات نقدية تسهم في حلحلة مواطن الإشكال وقد ذكر الشيخان عبد الله العجيري وفهد العجلان في كتابهما "زخرف القول" مجموعة من الأدوات التي تمكن صاحبها من تلمس مكامن الخلل.

 تتمثل تلك الأدوات في فك إجمال المقولة وإطلاق القول بصوابيتها أو بطلانها، وكسر سطوة الشهرة والانتشار مع إزالة البهرجة اللفظية والوعي بالمقدمات الفاسدة لها، وقبل ذلك التحرر من سجن المقولة الذي يحصر الخيارات والمقترحات، إضافة إلى ملاحظة السياق الذي وضعت فيه فقد تكون من جملة كلام الحق الذي يراد به الباطل، مع ضرورة إدراك لوازمها ومآلاتها فقد تدخلك في متوالية فكرية تحتم عليك الاطراد والتسليم بلازمها المفضي إلى لازم آخر وهكذا دواليك، ليتبقى عليك استحضار طبيعة المرجعية المراد محاكمة العبارة إليها مع عناية بالأصول المركزية للأفكار وتفكيكها وردها إلى أصلها الأول متنبها إلى المضمرات الفاسدة بداخلها.

وقد يتساءل البعض عن نماذج لما تم ذكره فيكون الجواب باستحضار بعضها، من قبيل  "الفكر لا يواجه إلا بالفكر" و"الدين طاهر والسياسة قذرة" ولا "كهنوت في الإسلام "و"الدين ليس هشا حتى يخاف عليه "و"لست مسؤولا عن الخلق" و"لا تكن إقصائيا" و"الإيمان في القلب" وغيرها الكثير مما لا يسع المقام ذكره، مع إعادة التذكير بتفاوت قربها من الحق واحتمال حملها لأوجه حق ووجه باطل أو عكس ذلك.

وفي الأخير وجب على الشاب المسلم تحري ألفاظه ومصطلحاته وأقواله والحرص على حسن توظيفها واستعمالها بما لا يخالف الشرع ولا يمد جسورا للباطل ليعبر عليه تاركا شروطه وتحفظاته حتى لا يكون ممن يصدق فيهم قول "شيطان يقتبس من القرآن".