قلت في المحاضرة الأولى القرآن الكريم يواجه العالم القديم! بأن الأنبياء والمرسلين قبل الإسلام أرسلهم الله تعالى بدين التوحيد، ولكنهم جميعاً اصطدموا بقوى الشر في حياتهم وبعد مماتهم، ثم قُلِبَ التوحيد إلى شرك محض وتعاون في ذلك الطغاة ورجال الدين والاقطاعيين وأصحاب المصالح والغرائز.

ومن هنا صعد الفساد إلى الذروة، ولم يعد مجال إلا –في إرادة الله تعالى ومشيئته- أن يتدخل هو سبحانه وتعالى في آخر نبي يرسله وآخر كتاب ينزله، أن يتدخل هو بحفظ هذا حتى لا يتم التغيير إلى يوم القيامة. وجاء القرآن فيه كل تجليات الأسماء الحسنى في الوجود، ولذلك قلنا بأن القرآن شامل جامع يسع الإنسانية إلى يوم القيامة. 

وحتى يفهم الناس هذا القرآن ويستعملونه استعمالاً صحيحاً، أودع الله تعالى في فطرة الإنسان نصيباً من كل اسم من أسمائه الحسنى. ولذلك كان البشر مهيئين تماماً لكي تتفجر فطرتهم لاستقبال هذا النور والبرهان الذي جاءهم، والنور هو القرآن الكريم والبرهان هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

ثم بلّغ الرسول الرسالة ونصح الأمة ومات على ذلك، وسلم هذه الأمانة الكبرى إلى صحابته الكرام الموثقين من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان، والذين مدحهم الله سبحانه وتعالى في قرآنه عبر عشرات الآيات وعدّلهم وزكّاهم. 

لماذا الحكم الراشد؟ 

جاء الصحابة الكرام واختاروا أربعة على التتابع لكي ينوبوا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويخلفوه في تنفيذ هذه المهمة الكبرى في الإسلام. هذا الحكم سمي بالرشد والراشد، لأنه اتبع الأسس الآتية:

  • أولاً، التزام الجميع بالكتاب والسنة، وفهمهما في ضوء معرفة أصول وقواعد ومقاصد ومآلات تطبيق الأحكام في كل زمن وفي كل ظرف. هؤلاء الصحابة تتلمذوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا طريقته وتطبيقه للآيات الكريمة وإنزالها إلى التطبيق في حدود تلك الأصول والقواعد والمقاصد. ومن هنا حافظوا على وحدة العقيدة، لأنه لم تظهر في زمانهم الصراعات التي سنتحدث عنها. لقد حافظوا على التوحيد بكل أركانه وأنواره من دون أي تحريف. 
  • ثانياً، أخذوا بمبدأ العدل العام بلا انحراف، العدل العام الذي أمر الله تعالى به، لا في الدنيا فقط وإنما في الآخرة أيضاً. يقول تعالى عن العدل في الآخرة ((وَنَضَعُ المَوازينَ القِسطَ لِيَومِ القِيامَةِ فَلا تُظلَمُ نَفسٌ شَيئًا وَإِن كانَ مِثقالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ أَتَينا بِها وَكَفى بِنا حاسِبينَ)). لم يستطع أحد أن يعترض على تطبيقهم العدل لأنهم مشوا جميعاً على الصراط المستقيم (رضي الله تعالى عنهم أجمعين).
  • ثالثاً، أنهم كلهم جاؤوا بالشورى، وحكموا بالشورى، إذ كان لكلٍ منهم مجلس شورى، فكانوا لا ينفردون في الحكم، ولا يتسلطون بآرائهم على الناس، وإنما لزموا الشورى التي أمر بها القرآن الكريم. هذا متفق عليه من علماء هذه الدنيا. 
  • رابعاً، الحفاظ على السلوك الإسلامي في المجتمع عندهم وعند غيرهم، إذ كان المجتمع الإسلامي فاضلاً، عادلاً، عاملاً، فأدى كل هذا إلى تنمية اقتصادية عظيمة لاسيما في زمن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان (رضي الله عنهما) لأن كلاً منهما طال به الحكم نوعاً ما، لاسيما في توزيع أرض العراق ولاسيما في التعاون والتجارة في داخل العالم الإسلامي ومع خارجه.
  • خامساً، خضوع كل واحد منهم للمحاسبة. إذا راجعنا التاريخ وجدنا أن أبا بكر رضي الله عنه قد حوسب، ومثال ذلك يوم أن رشح عمراً للخلافة واستشار الصحابة وكلهم وافقوا إلا طلحة دخل عليه غاضباً، فقال: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفونني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك. فسكت طلحة، ثم بعد ذلك وافق. و أما عمر، كانت المرأة البسيطة توقفه وتحاسبه، في المسجد وفي غير المسجد. وعثمان رضي الله عنه أخذوا بخناقه وحاسبوه و دخلوا عليه ثم قتلوه ظلماً.

كيف ظهر هذا الحكم الراشد؟

ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي هؤلاء ويستقيموا كما استقام؟  والجواب هو في تكوين النخبة.

إخواني أبنائي، كل حكم لم يستند على نخبة مستقيمة متقابلة متساندة فاهمة عالمة بما يفعلون لا يمكن أن يأتي بالخير. ولذلك تجدون أن هذه النخبة المكونة من أكثر من 1400 شخص تحت شجرة الرضوان بايعوا رسول الله (صلى الله عليه و سلم) على الموت عندما وصل خبر أن قريشاً قتلت عثمان (رضي الله عنه)، وهل هنالك مبايعة أعلى من المبايعة على الموت الفوري؟

 هؤلاء النخبة ومن بعدهم من المتأثرين هم الذين حافظوا على الرشد، هم الذين كانوا مادة في ذلك الحكم، كل شيء جرى بموافقتهم لم يكن هنالك طغيان، ولم يكن هنالك انحراف، ولم يكن هنالك مصلحة شخصية أو مصلحة أسرية أو مصلحة قبلية. 

أبو بكر (رضي الله عنه) اختار واحداً من أقاصي قريش، لم يكن من عشيرته، وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) اختار ستة من الصحابة ولم  يختر ابنه أو أحداً من عشيرته، ولما قتل عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، ذهب الصحابة الكرام إلى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأجبروه على القبول، فكان يرفض، وكان يقول أكون وزيراً خير لكم من أن أكون أميراً، فقال الصحابة: اخترناك. ولما ضُربَ علي (رضي الله عنه) من قبل ذلك الشقي (عبد الرحمن بن ملجم) من الخلف وكان يمشي وحده إلى المسجد، وجاؤو به على فراش الموت، قالوا: يا أمير المؤمنين ألا تخلّف ابنك؟ قال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر. هذه كانت صفة الخلفاء الراشدين. 

هل جرى الماء هكذا صافياً؟ هل جرى الزمن بلا مشكلة؟ 

ولكن قد تسألون، هل جرى الماء هكذا صافياً؟ هل جرى الزمن بلا مشكلة؟  

الجواب: لا، فقد ظهرت الدولة العميقة منذ مبعث رسول الله (صلى الله عليه و سلم)، والتي كانت في صورة قريش التي عادت رسول الله (صلى الله عليه و سلم) وتآمرت عليه، وحاربته وحاربت المسلمين من ورائه، والمنافقون الذين ظهروا في المدينة وتآمروا مع اليهود، واليهود الذين حرضوا قريشاً على رسول الله (صلى الله عليه وسلم). لكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، لأن البنية كانت قوية.

وبقي هؤلاء طيلة عهد الخلفاء الراشدين يتآمرون؛ الشرك واليهودية والنصرانية والعصبية القبلية. وإلا كيف ظهرت الردة في خلافة أبي بكر؟ ولكن، مرة أخرى قوة الدولة بقوة نخبتها وبعزم أبي بكر وبموافقة جميع الصحابة الكرام وجّه جيوشاً إلى هؤلاء أعاد وحدة الدولة وهيبتها. ولكن شيئاً حدث مع الأسف الشديد في زمن عثمان (رضي الله عنه)، والذي لم يوافق عليه أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) أن يحدث في زمانيهما، ألا وهو: السماح للنخبة بالخروج إلى خارج المدينة وانتشارهم في ديار الإسلام المفتوحة. لقد كان عثمان (رضي الله عنه) رجلاً سهلاً حيياً مرناً، فضغطوا عليه، فوافق، فخرج كثير من هؤلاء إلى العالم الإسلامي. 

نعم، خرج هؤلاء إلى العالم الإسلامي وأسس كل منهم مدرسة وصار عندهم تلاميذ. ولكن رقعة العالم الإسلامي كانت قد اتسعت بشكل كبير، فلم يستطع هؤلاء النخبة كل بمفرده أن يربوا من حولهم دائماً على الإيمان الصحيح، ولم يكونوا يعرفون اللغة العربية. هذه المدارس صحيح أنها عملت جهوداً عظيمة، لكن ضخامة الشعوب، ضخامة العدد، كانت أكبر من أن تستوعبها كل هذه المحاولات (كل من مكانه). 

فكان هذا في الحقيقة أرضاً موطدة لكي يبدأ الانحراف، ولكي يستطيع أعداء الإسلام من الذين ذكرناهم أن يأثروا وأن يصنعوا الاضطراب، لاسيما في أواخر زمن عثمان، وتآمرهم الذي أدى إلى قتله. ولما جاء (علي رضي الله عنه) وجد أمامه مشكلة كبيرة وهي مشكلة البغي عليه، والمطالبة بالاقتصاص من قتلة عثمان، وسفكت الدماء وتفرقت الأمة، واستطاع أعداء الإسلام أن يتدخلوا، وأنهوا بذلك عهد الخلافة الراشدة. 

كيف جاء الملك العَضوض؟ 

جاء الملك العَضوض، وجاءت مرحلة الملكية وبناء الأمة على شروط غير تلك التي كانت في زمن الخلافة الراشدة. أولاً، انتشار النخبة كما قلنا في العالم الإسلامي نال من وحدة الدولة ووحدة الأمة. ضخامة الأمة الإسلامية وعدم التربية، الانتقال من أمة الإسلام إلى أمة المسلمين، من الإيمان إلى الإسلام. 

فعدم إمكان التربية في العالم الإسلامي جعل المسلمين يبتعدون شيئاً فشيئاً عن متطلبات تطبيق الإسلام في حياتهم وفي أسرهم وفي عشائرهم وفي أقوامهم. ولكنهم كانوا مسلمين بداية، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم، لما قال: ((يَمُنّونَ عَلَيكَ أَن أَسلَموا قُل لا تَمُنّوا عَلَيَّ إِسلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيكُم أَن هَداكُم لِلإيمانِ إِن كُنتُم صادِقينَ)) المسلمون قد يشهدون بـ (لا إله إلا الله) ولكنهم قد يكونون ظالمين لأنفسهم.

ذكر الله تعالى هذا في القرآن (( ثُمَّ أَورَثنَا الكِتابَ الَّذينَ اصطَفَينا مِن عِبادِنا فَمِنهُم ظالِمٌ لِنَفسِهِ وَمِنهُم مُقتَصِدٌ وَمِنهُم سابِقٌ بِالخَيراتِ بِإِذنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبير)) فمنهم ظالم لنفسه مثل أصحاب الكبائر وأصحاب البعد عن الإسلام لكنهم مسلمون ومصطفون لأنهم يقولون صدقاً وعدلاً (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكل من قال (لا إله إلا محمد رسول الله) دخل في الإسلام، ولكن الإيمان في المصطلح الإسلامي يختلف عن الإسلام، الإسلام يكمل ويشتد بالإيمان. لأن المسلم حين ذلك لا يخالف.

ثانياً، ظهور العصبية القبلية، في الملك العضوض. الصراع بين البيوت والقبائل، و لكن الأمويون لكثرتهم وذكائهم وحكمتهم سرعان ما سيطروا على الحكم و أنشأوا دولتهم عبر دماء وعبر مخالفات، فتحول الرشد إلى الملك. أي من أممية التوحيد إلى إسلامية العصبية والتفرقة. 

ليس معنى ذلك أن الأمويين في كل شيء خرجوا عن الإسلام، ولكن التزامهم بالقرآن والسنة دخله دخن، العدل الاجتماعي تخلخل. الحفاظ على السلوك الإسلامي تضعضع. القضاء العادل دخله شيء من الانحراف. الترف وحياة القصور دخل في قصور بني أمية، وأمور أخرى. ولكن مع ذلك بقي المسلمون مسلمين والإسلام كذلك، وبقي لهم فضل نشر الإسلام من حدود الجزيرة إلى حدود الصين، وكان منهم الملوك العادلون ومنهم السفهاء. 

ومعاوية بن أبي سفيان كان صحابياً وكان من الطلقاء، وعاش سنة مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، وفعل ما فعل، ووصل إلى الملك، والمؤرخون كلهم كانوا يقولون أنه في حياته كان ملكاً عادلاً، إلا مع الذين رفعوا السلاح في وجه الدولة. 

حتى جاء عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) وحكم بنفس المعالم الراشدة التي كانت في العهد الراشدي، وأراد أن يقلب هذا الحكم إلى الخلافة الراشدة. لم يقبل الوراثة. وقال لمن جاء ليبايعه: أنا أنزع ما ورثني سليمان من جسدي، الأمر إليكم. والعلماء وأهل العلية الحاضرين قالوا: يا أمير المؤمنين رضينا بك وليس بغيرك. وعمر بن عبد العزيز سلك مسلك جده عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدين. وأول ما بدأ بنفسه، إذ كانت حياته قبل ذلك ترف وغنى، وتنازل عن كل ذلك يوم أن بويع بالخلافة، وكان خليفة راشداً حقاً. والتفت إلى بني أمية فجردهم من كل صلاحية، وجردهم من كل ملك زائد على حاجتهم، ثم قرب العلماء، وكان هو عالماً وإماماً مجتهداً، حتى إن كثيراً من العلماء قالوا: أردنا أن نعلمه العلم فرأينا أنه هو الذي يعلمنا. 

ولكن هذا الرجل العظيم الذي نشر العدل في العالم الإسلامي في غضون سنتين وبضعة أشهر والذي أراد أن يرجع الناس إلى الرشد أول من طعن فيه هم الأمويون فسمموه وقتلوه.

هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى ابتعد المجتمع كثيراً عن الإسلام، ولم يكن بقدرة عمر في سنتين ونصف أن يغير في هذه الفترة الوجيزة. فإذن محاولة عمر بن عبد العزيز انتهت باستشهاده ورجوع الأمويين، فبدأت الأسر الأخرى تحضر وتهيئ للانتقام من الأمويين وتأخذ الحكم منهم عبر نهر من الدماء، مثل العباسيين والعلويين ومن ورائهم الدهاء الفارسي وكثير من الحاقدين، أخذوا الحكم من الأمويين، ولم يُبقوا منهم إلا من فر منهم وذهب باتجاه الغرب، مثل عبد الرحمن الداخل الذي أنشأ في الأندلس دولة أموية استمرت ثمانية قرون. 

إذن، هنا دخل الجدال في حياة المسلمين بعد أن احتكوا بالحضارات الأخرى وامتزجوا بالثقافات التي دخلت بلادهم. صراعات في العقيدة، صراعات في المذاهب، صراعات في المناكفات الأسرية والعشائرية وحتى الأممية (الصراع بين الفرس والعرب بدأ من ذلك الوقت). 

لماذا انتهى الرُشد؟ 

استمر الملك العضوض من بداية الدولة الأموية إلى نهاية الدولة العثمانية، وصحيح أنهم خدموا الإسلام وحافظوا على الإسلام، لكن انتهى الرشد، وانتهى هدفان عظيمان أرادهما الإسلام:

أولاً، الشورى وليس الوراثة. فالوراثة أدخلت في حياة المسلمين زعزعة وانحرافاً وحروباً طاحنة. 

ثانياً، العدل الاجتماعي. انقسم المسلمون إلى طبقتين طبقة عليا عندها كل شيء وطبقة أخرى لا تملك شيئاً يذكر. كل هذه الأمور أطمعت قوتين كبيرتين في بلاد المسلمين وهم التتر والصليبيون، وقد حذرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ذلك وقال (( لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً شبراً، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه. قلنا : يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال: فمن؟)). 

لا شك بأن اليهود والنصارى والمجوس مع الجاهلية في الداخل ومع المنافقين عبر التأريخ قد تعاونوا في سبيل إسقاط دولة الإسلام وإبعادها عن الركائز الأساسية التي بدأ بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخلفاؤه الراشدون، وقد كان يحاول الرجوع إليها عبر التأريخ بعض الملوك الصالحين الذين كانوا يصلحون، ولكن كل هذا لم يفد أمام بعد الشعوب الإسلامية عن الركائز الأساسية ودخول الانحراف في حياتها، ودخول الملوك المستبدين. ومن هنا دخل العالم الإسلامي في عهد العلمانية والتمكين للطغيان الغربي في بلاد الإسلام، والتمكين للأفكار المعاصرة الغربية، وإبعاد الإسلام عن كل مسائل الحكم، ودخلنا في عصر العلمانية. وهذا ما  سنتحدث عنه إن شاء الله لاحقًا.