في مجالنا المختص بالكتب، من البديهي أن يكون أول كتاب نتحدث عنه هو أعظم كتاب عرفته البشرية وهو القرآن الكريم، بين دفتيه كلام الله، فأنت حين تقرأ القرآن فإن كلام الله يجري على لسانك و ينطق به، وتكون في حالة من الرقي والسمو، وهذا يعني أن قراءة كتاب الله ليست كقراءة كتاب آخر.  

لكن بما أن القرآن الكريم كتاب الله، فكيف يريد الله منا قراءته؟ يقول الله عزوجل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).

فمقصد قراءة القرآن الكريم الذي يريده الله منا هو في أمرين: 

  1. التدبر: وهو الاستغراق بالتفكر. 
  2. التذكر: وليس الحفظ لأن التذكر هنا مقترن بأولي الألباب، وهذا يعني بمذاكرته بالتفكر في آياته. 

أولا: التدبر 

هو الاستغراق في الشيء والتعمق فيه، وتدبر القرآن الكريم مبني بأساسه على فهم الكلمة التي اختارها الله في الآية، فلكل كلمة جذرها اللغوي الذي اشتقت منه، وينحدر من ذات الجذر مترادفات تشكل مع مقصدها الذي نفهمه في التفسير مفتاح الكنز المقاصدي لمجموع الآية.  

مثال: كلمة (صلاة)، فالمتعارف عليه بين الناس أن الصلاة هي "صلة" بين العبد وربه، هذا مفهوم خاطئ يناقض معنى الصلاة كله، فتى انقطعت عن الله حتى تصله؟!!

فلنفهم معنى كلمة الصلاة يجب أن نعيدها لأصلها اللغوي حيث أنها اشتقت من مصدر (صلى) والذي بمترادفاته يمكننا أن نعرف مقصد الله من إقامة الصلاة:

  • صلى: احرق (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ)
  • صلى: لزم، وهو لزوم خاص بمن يكمن فيه بمكان لينتظر اللحظة المناسبة ليصطاد صيدا.  
  • صلى: دق المسك أو العشب ليستخرج طيبه، ومنه المصلاة وهي الحجر الذي يستخرج منه الطيب.
  • صلى: من صلى فلانا، أي مداراته صبرا عليه ومكرا به حتى يقع في المكر الذي دبر له. 
  • صلى: من الولادة وذلك حين يخرج رأس المولود من رحم أمه فيقال مثلا: أصلت الناقة أي خرج رأس جنينها.  

فهذه الاشتقاقات لأصل كلمة الصلاة تعلمنا مقاصد الله من الصلاة: 

  • في الاحتراق: كأن الله يقول لنا احترقوا لها لزوما.  
  • في اللزوم: يريد الله منا ألا نجول بخواطرنا ونسيح بها حين نصلي بل نتوجه له بالمناجاة ظاهرا وفكرا. 
  • في استخراج الطيب: فإن المصلي حق صلاته إنما يدق الأرض بجبهته ليستخرج خير ما فيها، فهو عارف لما استخلفه الله فيه من أجل تسخير خيرات الأرض وتسخيرها للخير. 
  • في المداراة مكرا: فإن الشيطان يمكر في الإنسان ليصده عن الصلاة وخيرها، ويرد عليه المصلي بالمجاهدة والخشوع حتى يوقع الشيطان في شرك الخيبة.  
  • في الولادة: الصلاة إلى الصلاة كفارات لما بينهما فكل من يقيم الصلاة حق إقامتها فكأنما ولد من جديد. 

فهذه المنهجية هي المنهجية الأساسية لفهم القرآن الكريم بالتأويل بعد أن نعرف المعنى حسب الأصول من تفسير القرآن الكريم بالقرآن أو بالسنة أو بأقوال الصحابة والتابعين، وهذه المنهجية هي منهجية أعظم تفسير عرفناه في تراثنا الإسلامي وهو تفسير الطبري رحمه الله، فإن كان الفقهاء عيال على أبي حنيفة فالمفسرون عيال على الطبري، وبهذه الطريقة وحدها يمكننا التفكر في سر اختياره للكلمة، وبهذا التتبع العميق يمكننا التفكر بمعرفة مقاصد الله في آياته.

ثانيا: التذكر 

هو مذكرة الآيات وتكرار تتبع مفاهيمها وتأملاتها ومنه يؤخذ قول الله تعالى (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فالمؤمن عارف بالحق ولكن تذكرته بما يعرفه تكون بتنويع الأساليب كي يبقى على المسار الصحيح في سبيل الحق، و هذا هو أسلوب القرآن الكريم في تنويع الأساليب الموضوعية في عدة سياقات، وهذا بالتحديد هو التذكر، وهو التأمل في الآية ضمن سياقها الموضوعي، والنظر إليها نظرة شمولية ضمن سياقها في الآيات.

فإذا كان التدبر يحدد لنا مقاصد الكلمة أو الآية، فالتذكر يحدد لنا التراتبية المنطقية التي يبنى عليها من أجل تحديد هذه المقاصد، وللتوضيح أكثر. 

فإن كل سورة من سور القرآن الكريم تحمل هوية خاصة بها وتمثل وحدة موضوعية يتفرع عنها عدة مواضيع جزئية عن الموضوع الرئيسي للسورة، وكل آية تتناسب مع الآية السابقة لها والآية التي تليها، وكل موضوع يتناسب مع الموضوع الذي بعده ... وهكذا. 

ومن أوضح الأمثلة المعروفة ما هو موجود في سورة الكهف، حيث أن  موضوعها الرئيسي فتن الدنيا، وتناسب الموضوع مع اسم السورة تبين في ذهن القارئ كيف أن الالتجاء لله ومنهجه يمثل ملجأ يتقى منه الفتن كما يقي الكهف من سباع البرية.

وتتابع في السورة القصص عن الفتن: 

  • فتنة الدين الاتقاء منها بالصحبة الصالحة. 
  • فتنة العلم الاتقاء منها التواضع و الصبر. 
  • فتنة الملك الاتقاء منها بالعدل والحكم بمنهج الله.

وكل ملجأ من الفتن يحمل إرشادات تتابع في سياق يحدد لك منهجية العمل. 

ومفهوم التذكر الذي بني عليه التفسير الموضوعي وهو الذي يأخذ منحى في التفسير يقسم القرآن الكريم إلى مواضيع، وهذا الأسلوب أنجع في فهم القرآن إذا تكامل مع أسلوب التدبر وحتى دون الدخول في التفصيلات اللغوية والبلاغية، ومن أعظم من كتب التي سارت على هذا النهج وحققت غاية كل المفسرين هو كتاب (في ظلال القرآن) وهذا الكتاب بذاته هو أعظم إنجاز حضاري إسلامي في العصر الحديث، فلقد حقق غاية التفسير بدفعه نحو التفسير المقاصدي والذي نرجو أن يبنى عليه بتفسير حضاري للقرآن الكريم.