السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

كثيراً ما يتكلم المؤرخون عن أن التاريخ هو صُنعُ الإنسان في الحياة الدنيا، لكن الجغرافيا هي خلق الله في الأرض، وأن التاريخُ هو صنع الإنسان في هذه الجغرافيا. واختيار مكة لكي تكون مهبَطاً للوحي ليس خياراً بشريّاً، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي اختار ذلك، فهوأعلمُ حيثُ يضعُ رسالته. 

يسألُ بعض الناس أحياناً لماذا اختيرت مكة لكي تكون مهبطاً للوحي، في معزلٍ عن عواصم العالم الكبرى في ذلك الوقت مثل القسطنطينية التي كانت عاصمة الحضارة البيزنطية الرومانية الشرقية، أو طيسفون التي كانت عاصمة بلاد فارس أو الحيرة التي كانت عاصمةً للمناذرة العرب في العراق، أو البصرة التي كانت عاصمةً للقساسنة، أو صنعاء في الجنوب التي كانت عاصمةً لليمن.

والحقيقة أن من أعظم ما يمكن للإنسان أن يفهمه في مسألة اختيار مكة أنها جاءت في منطقةٍ محايدة بين كل هذه الصراعات التي كان العالمُ فيها عام 610م ! 

فالعام الذي بُعثَ فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- كان العالم يضطربُ بصراعاتٍ عالمية على كل الجبهات، لو أن الرسالة جاءت في مكانٍ من هذه الأمكنة لربما كان التأثير السياسي على الرسالة صعباً، وكان من الصعب فعلاً على النبي وأصحابه أن يؤسسوا جيلاً بمثل النقاء الذي تأسس عليه جيل الصحابة في المدينة وقبل ذلك في مكة.

كيف نفهم الواقع الاستراتيجي للبعثة؟

اليوم سنتعامل مع رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- للعالم من حوله في تلك المرحلة وفقاً لمجموعةٍ من المصادر، لكن المصدر الرئيس الذي سأبني عليه الحديث هو القرآن الكريم من حيث المبدأ. هناك خمس سُور في القرآن الكريم سنستعرضها تباعاً وهي: سورة البروج، الفيل، قريش، الروم، والإسراء. 

هذه السّور الخمس تفسر لنا كيف تشكل الوعي النبوي عن العالم في ذلك الوقت، ففي هذه السور معلومات وإشارات جعلت الدعوة النبوية في مكة، ثم بعد ذلك في المدينة تسير وفق رؤيةٍ استراتيجيةٍ متكاملة في علاقاتها مع دول الجوار.

نبتدئ بسورة البروج، الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن فئةٍ من المؤمنين تم قتلهم من قِبَلِ فئةٍ معتدِية قذفتهم في خندق وأحرقتهم، وذلك لأنهم كانوا من المؤمنين وكان الذين قاتلوهم من أعداء الله الذين لم يكن لهم أن يستمروا في إيمانهم، يقول الله سبحانه وتعالى «قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ». 

نجران

هذه القصة نعرف أنها وقعت في نجران حيث كانت الفئة التي قُتِلَت ووضعت في الأخدود من النصارى -المسيحيين- وكانت الفئة التي قتلتهم من اليهود برئاسةِ رجلٍ كان يسمى "دانياس" وفقاً للمصادر البيزنطية أو "ذو نواس" وفقاً للمصادر العربية وفي بعض الأحيان "يوسف بن أسَر"، نعتمد في رواية القصة على ما كتبه المؤرخون وما كُتِبَ في التاريخ البيزنطي، لما كان يمتاز به من الدقة عن باقي تواريخ الأمم والشعوب في تلك المرحلة، وكان يُكتب من قِبَلِ مؤرخين ملحقين ببلاط الإمبراطور وكانوا يؤرخون كل ما يصل إلى البلاط من رسائل ومكاتبات أو من غزوات ومعارك وتحالفات تتم في زمن ذلك الإمبراطور.

سياق محرقة الأخدود

وقد حدثت مجزرةُ نجران -محرقة الأخدود- في زمن الإمبراطور "جستن الأول"، وقد كان إمبراطوراً للدولة البيزنطية في القسطنطينية، والمصدر الذي سنعتمد عليه في رواية التفاصيل هو مؤرخٌ روماني بيزنطي اسمه "بروكيبيس"، وكان يكتب باللغة اليونانية وهذا الرجل من الذين كتبوا وألفوا عشرات الكتب في التاريخ بما فيها ذلك تاريخ الحروب الفارسية الرومانية، وكثيرٌ من المؤرخين يعودون إلى كتبه لفهم تفاصيل تلك المرحلة. 

لنرى ما يقوله لنا التاريخ البيزنطي؛ يقول لنا أن دولة الفرس كانت دائماً تحاول أن تسيطر على اليمن لكي تسيطر على ميناء عدن ومضيق باب المندب، لكي تحرم الروم أو البيزنطيين من التجارة العابرة للبحر من الصين والهند، عبر البحر الأحمر إلى ميناء إيلا -العقبة- أو الموانئ المصرية التابعة للهيمنة البيزنطية. 

إذاً الصراع على اليمن قديم، ونخلص لأن الدولة البيزنطية تسيطر في تلك المرحلة على منطقة الأناضول كلها ومنطقة مصر وشمال أفريقيا وعلى منطقة فلسطين كذلك. 

الصراع القديم على اليمن

الصراع الفارسي الروماني كان بدرجةٍ عالية ذا بُعد اقتصادي، لأن طريق الحرير-والذي يعتبر الطريق التجاري الأهم في ذلك الوقت- كان يعبر شمال منطقة بلاد فارس -آسيا الوسطى- وكان يعبر أيضاً بحرياً من خلال ميناء عدن، منطقة الشمال في تلك المرحلة -أي نهاية القرن السادس وبداية القرن السابع الميلادي- كانت مضطربة وفيها ثورات كثيرة.

 وكان هناك مملكة تسمى مملكة الهون -البيض- وهي مملكة من القبائل التركية حاربت الفرس ومنعتهم من أن ينقلوا تجارتهم بشكل ميسر. فقد كان الطريق الرئيسي الذي سعى الفرس لحرمان الروم منه له علاقة باليمن، ولذلك إن أغلقوا ميناء عدن أمام السفن الرومانية يكون أيضاً طريق الحرير الشمالي والجنوبي قد أُغلق أمام الروم. 

الذي حدث أن المسيحيين أو النصارى في نجران هم في الحقيقة من مجموعاتٍ حبشيّةٍ مسيحية، ما الذي أدخل الحبشة في الموضوع؟ مملكة أكسوم أو مملكة أثيوبيا الحبشية في ذلك الوقت كانت أرثوذكسية مسيحية تتبع الكنيسة القبطية في مصر، هذه الدولة كانت مهيمنة على كل القرن الإفريقي بما في ذلك على منطقة أرتريا وأثيوبيا وجيبوتي والصومال الحالية. 

والذي حدث أن الروم وقعوا تحالفاً مع أكسوم -هذه الدولة الأثيوبية الواسعة والتي كان العرب يسمونها بالحبشة- وقعوا إتفاق حماية مشتركة لأنهم يريدون تأمين البحر الأحمر، فالبحر الأحمر بالنسبة للروم كان ضرورة من ضرورات التأثير والنفوذ الاقتصادي، وأيضاً ضرورة لإمداد القسطنطينية وعواصم منطقة الشام ومصر وكذلك أوروبا بكثيرٍ من المنتجات التي تأتي من الصين والهند. 

ما حدث أن الأحباش أرسلوا بحاميةٍ إلى نجران منذ وقتٍ طويل وهذه الحامية كانت مسيحية استقرت في نجران، وتوطّنت وأسست لها كنيسة وأصبح هناك مجموعة من المسيحيين في نجران وفي منطقة ظفار وفي منطقة بريم في اليمن، وبالتالي سكان هذه المناطق كانت أصولهم حبشيّة. 

تشابك متعدد الأبعاد

ونحن نعلم تاريخياً أن منطقة اليمن ومنطقة الحبشة كانتا متصلتان عبر مملكة سبأ، وبالتالي سياسياً، كان هناك تشابك قديم من كل النواحي في المنطقة؛

 فيها تشابك لغوي وثقافي وتشابك ديني وصل لليمن عبر الأحباش. والحقيقة أن اللغة المشتركة كانت هي لغة خط المسند، كانت اللغة التي تجمع مجموعة من اللغات تكتب بها وهي اللغة العربية القديمة واللغة الجعزية التي كانت لغة أثيوبيا في ذلك الوقت، وكذلك المسند أو اللغة الحميرية الموجودة في اليمن. 

إذاً فقد كان هناك تداخل سياسي وكذلك لغوي، وبالمناسبة تأثرت بعض المصطلحات التي وردت في القرآن الكريم من اللغة الجعزية لأن أصولها كان متصلاً باللغة العربية القديمة، على سبيل المثال لدينا كلمات في القرآن الكريم مثل (منبر، محراب، سُحت، جبت، طاغوت، قسورة، مِنسأه، مشكاة)، ويقال أيضاً أن كلمة (مصحف) كانت من أصول جعزية، وتفسيرنا لذلك أنها من الكلمات التي تشابكت في وقتٍ قديم مع اللغة العربية ثم تعرّبت، وأصبح العرب يستخدمونها ولذلك لم تكن شيئاً جديداً لكنها معربة عن الجعزية. 

هذا الاستطراد كان فقط لتوضيح كيف أن المنطقة الجيوسياسية بين أثيوبيا واليمن هي في الحقيقة منطقة واحدة على عديد من الأصعدة، ولذلك إن أردنا أن ننظر إليها كعمقٍ استراتيجي للحبشة فهذا صحيح، لذلك كان الأحباش دائماً يريدون أن يكون لهم نفوذ في اليمن أيضا، ليحموا موانِئهم التي تتاجر مع عدن والتي تتاجر أيضاً مع جزيرة العرب ومع الروم. 

وكان وجود الفرس في البحر الأحمر يهدد التجارة الحبشية من أن تكون حرّةً مستقلة، ولذلك وجود معسكرات أو مجموعات عسكرية للأحباش في اليمن كان ضروريا للحفاظ على الأمن الاستراتيجي الحبشي. 

وفي هذه الأثناء زاد الفرس من نفوذهم في اليمن من خلال دعم اليهود، لماذا؟ 

دعم الفرس والروم لديانات مختلفة

لنعطي أولاً القاعدة التالية: الدولة الفارسية كانت تدعم اليهود في كل مكان، والدولة الرومانية كانت تدعم المسيحيين في كل مكان.

وهذا الصراع كان واضحاً تماماً فقد كان الفرس منذ زمنٍ قديم لهم علاقة مع اليهود، والسبب في ذلك السّبيُ البابلي في القرن السادس قبل الميلاد الذي جاء بكمية من اليهود إلى بابل، واستوطنوا لسنواتٍ طويلة وأصبحوا مؤثّرين في الحياة العامة، ويقال أن عدد السكان اليهود من ضمن بلاد فارس في ذلك الوقت وصل لـ20%، كما كان بعضهم أيضاً قريباً من السلطة والنفوذ. 

فلما جاء الإمبراطور "سايروس" -والذي كان والد داريوس الكبير المعروف- أعاد بعض اليهود إلى الأرض المقدسة وفقاً لطلبهم ويقال كانوا ثلاثين ألفا منهم، وهذه طبعاً روايات تاريخية، ولكن ما حدث في هذه المرحلة هو أن اليهود اعتبروه -وفقاً للكتابات التاريخية اليهودية أيضاً-، أنه قد أُرسِلَ من الله ليعيدهم إلى أرض الميعاد. 

فبالتالي العلاقة اليهودية الفارسية علاقة قديمة، ثم أن المعبد أو الهيكل الذي بناه اليهود في بيت المقدس الثاني، كان برعايةٍ ودعم من الفرس. 

لماذا كانت الدولة الفارسية لا تطلب على سبيل المثال من اليهود أن يتحولوا إلى الديانة الزرادشتية -ديانة الدولة الفارسية-؟ ونحن نعرف أن "زرادشت" هو مؤسس هذه الديانة من قبل ذلك من مائة وخمسين إلى مائتي سنة من القرن السابع قبل الميلاد، وقد كان "زرادشت" يؤمن بالتوحيد واليوم الآخر ويؤمن ببعض أسماء الله الحسنى، ونجد ذلك في آثار قديمة تتبع الديانة الزرادشتية الأصلية، وهذا أعتقد من أسباب التقارب بعد ذلك مع اليهودية والتي كانت تؤمن أيضاً بالتوحيد في هذه الفترات. 

ولذلك لم يكن اليهود حقيقةً تحت ضغط أن يتحولوا إلى الزرادشتية لأن الفرس كانوا يرون الديانة الزرادشتية ديانةً قومية، واليهود كانوا يرون الديانة اليهودية ديانةً قومية، فاليهودي كان يؤمن باليهودية والفارسي بالزرادشتية ولا يحاول أحدهم اجتذاب الآخر لأنك إن كنت من قومٍ هم الفرس فأنت زرادشتي وإن كنت من اليهود فأنت يهودي. 

وقد كان هذا مريحاً للإمبراطورية حتى لا تدخل في امتزاج ديني، فكلٌ يعرف حدوده وكلٌ يعرف شرائعه. والذي حدث هنا أن التاريخ اليهودي مع الفرس كان تاريخاً فيه دعم من الدولة الفارسية لليهود في كل مكان، وهذا الدعم انعكس لاحقاً في اليمن، 

دُعِمَت المجموعة المتدينة يهودياً وعُيّنَ عليهم رجلٌ من الأقيال -أمراء المناطق- اسمه "يوسف بن أسار" أو "ذونوّاس" أو حسب المصادر البيزنطية "دانياس"، وطُلب من هذا الرجل أن ينهي النفوذ المسيحي في اليمن، لكي يزيد من حصار الروم، ومن هنا بدأ معركتَه ضد المسيحيين فضرب وقتل منهم أعداداً كبيرة. 

ثلاث مصادر للتوثيق

كيف نعرف هذا؟ لحسن الحظ هناك نصٌ مكتوب بلغة المسند وُجِدَ على بعض الجدران وكتب هذا النص في زمن دانياس وعلى لسانه، يوسف بن أسار يؤسس لرواية دانياس أو ذونوّاس بنفسه، عن المقتلة والمحرقة التي تمت فهو يتكلم عن نفسه والنص موجود يمكنكم مراجعته في الإنترنت وأماكن كثيرة، يقال له نص (بئر حما) باللغة السبئية. 

صورة لنص بئر حما للملك الحميري.  «وقد أفلح الملك في هذه المعركة في قتل 12500 اثني عشر ألف وخمسمائة قتيل و11090 أحد عشر ألف وتسعين سبي» مقتطف من النص المنقوش المترجم.

هذا النص يتكلم عن أنه حارب المسيحيين في نجران وحرقهم وفي ظفار ويريم وذمار، وأنه قتل منهم في نجران حوالي 12 ألفا، وكان مجموع المسيحيين تقريباً 20 ألفا آنذاك، وهذه رواية موجودة نصاً على الحجر في منطقة بئر حما قريباً من نجران. 

وهناك نص آخر مهم جداً وهو نص "بروكيبيوس" اليوناني فبروكيبيوس المقيم في القسطنطينية أرّخ لمجموعة أحداث في ذلك الوقت، أرّخَ لزيارة رجلٍ اسمه "داوسون ذو ثعلبان"، وهذا الرجل قدم إلى القسطنطينية وطلب لقاءً عاجلاً مع جاستين الأول -الإمبراطور- وقصّ عليه أخبار المحرقة التي وقعت، وكتبها بروكوبيوس في كتابه نصاً، وتطابقت روايته مع رواية النصوص السبئية الموجودة في نجران. 

ثم هناك رسالة أخرى ألف لها بروكوبيوس أيضاً لأُسقُف نجران، وهذا الأُسقُف كان اسمه الأسقف شمعون، كتب عام 524 للميلاد -والمعركة حدثت 523م- لكنه كتب عام 524 رسالةً إلى الإمبراطور وصف فيها وصفاً دقيقاً ما حدث ووصف مشاهد من المحرقة بما فيها المرأة التي أُلقي أبناؤها في النار ولم تقبل أن تتحول عن المسيحية، الشيء المهم جداً في هذين الروايتين أنهما متعاضدتان ويؤيدان أيضاً الرواية التي وُجِدَت من قبل، وبالتالي محرقة نجران حدثت في عام 523 إلى 524م، وهذا قبل الإسلام بفترة لا تقل عن حوالي 86 عاماً فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عام 610. 

الحياد كضمان للبقاء وقت الصراع

حسناً، لماذا يتكلم لنا القرآن عن هذه المعركة؟ 

الحقيقة أن الذي حدث في نجران هو صراعٌ فارسيٌ رومي باختصار! وهو صراع دولي، فكل واحد كان له فئة تتبعه، وهذه الفئة في حالة اليهود الذين يمثلُهم يوسف بن أسار منحازة إلى الفرس، والمسيحيون كانوا ينحازون إلى الروم أو الأحباش. 

لكن الذي حدث هنا أن الصراع في نجران بسبب حالة الاستقطاب والانحياز التي يعاني منها العالم في ذلك الوقت، لم يسمح بأن يكون هناك متسع في العالم للحياز، فإن كنت مع أي كان الطرف الذي تنحاز إليه فسيستخدمك ذاك الطرف في حربه المسعورة ضد الآخر، ولذلك الرسالة الأهم التي وصلت إلى أذهان العرب في مكة بعد نجران، هي أن الانحياز خطيرٌ على مكة. 

ولذلك ينبغي لمكة ألا تكون منحازة نحو الفرس ولا منحازةً نحو الروم، لذلك أنا أقول أن رسالة مذبحة نجران هي عدم الانحياز القُرَشي، فإن أردت أن تستمر في هذا العالم ذي القطبية الثنائية القاتلة، يجب عليك ألّا تنحاز لأحد. وهذه النقطة مهمة جداً وسنلحظ كيف أن ذلك طُبِقَ في مكة طوال القرن الذي يليه. 

لم تكن مكة مهمة جداً في ذلك الوقت عالمياً، لكنها كانت واقعة على خط الطريق الذي يصل اليمن بالشام ويصل اليمن بالعراق، فإذا أردت أن تتاجر مع الفرس في العراق ومع الروم في سوريا وأردت أن تتاجر مع اليمن، هل ينبغي عليك أن تنضم لأي تكتل دولي في ذلك الوقت أو أن تؤيد أحدا على أحد؟ طبعاً لا لأن علاقتك ينبغي أن تكون طيبة مع الجميع حتى تستطيع أن تسير بقوافلك آمناً في الصحراء. 

لكن يوجد شيء مهم جداً عند نفسية قريش، وهو أن الفرس كانوا مُقدمين على الروم ليس للدين كما كان يعتقد بعض المؤرخين الذين يقولون بأن الفرس كانوا عبَدَةً للنار، فالفرس كانوا ذرادشتين على كل الأحوال، أو أن المسيحيين كانوا أقرب للمسلمين وهذا ليس صحيحاً. 

الصحيحُ أنه كلما نشبَ صراعٌ بين الفرس والروم، كلما كان ذلك أفضل لمكة تجارياً والسبب أنه مع كل صراع، ينغلق البحر الأحمر أمام السفن الرومية فتبدأ بلاد الشام بالاعتماد على التجارة العابرة للصحراء لنقل المنتجات والبضائع من اليمن إلى الشام. 

وهذا يعود على مكة بالثراء لأن السفن أرخص وأسرع من القافلة، فأنت إن عُدت بالسفينة من عدن فلماذا تحتاج لقوافل مكة! لكن عندما تنقطع السفن بسبب الحروب التي كان يشنها الفرس في اليمن ضد الروم تزدهر تجارة العبور عبر الصحراء بين اليمن والشام، ومن هنا تزدهر تجارة قريش. 

وهذه قاعدة وجدناها في كل الحروب التي دارت، والحروب الفارسية الرومانية قديمة جداً، فنحن نتحدث عن 700 سنة من الحروب بين الكتلة الفارسية والكتلة الغربية الممثلة في اليونان، وبعد ذلك في الدولة الرومانية ثم الدولة البيزنطية -الرومانية الشرقية-، ودائماً ما ارتبط الصراع بطرق التجارة، ودائماً كان لليمن شأنٌ في هذا الأمر. 

وفي الفترة التي أرّخنا لها -فترة ما بين هاشم بن قُصي ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم- كانت فترات الحروب تؤدي لازدهارٍ اقتصادي في مكة، وفترات الأمن والسلام تؤدي لكساد بضائع مكة، ولذلك أقول أن سفينة الصحراء -الجمل- تزدهر عندما تتوقف سفينة البحر والعكس صحيح وهذه قاعدة مهمة جداً لنعرفها. 

حسناً لماذا يحب أهل مكة بلاد فارس؟ لأنه إذا انتصرت الفرس على الروم في اليمن فستوكّل مهمة نقل البضائع إلى الشام لهم بأسعارٍ غالية، والشام تحتاج هذه البضائع، لأن بعض ما يأتي منها من الهند والصين ضروري للكنائس في أوروبا وكنائس القسطنطينية، مثل البخور واللبان التي كانت توقد في الكنائس، وكان مصدرها الرئيسي الهند وبالتالي تعبر القوافل من جزيرة العرب للشام. 

ومن الجدير بالذكر أن القوافل تذهب أحياناً إلى غزّة، والدليل أن هاشم -الجد الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم- كانت تجارته إلى غزة، لأنها كانت الميناء الرئيسي على البحر الأحمر الذي تُنقل فيه البضائع إلى أوروبا. ومن هذا القبيل كانت قريش تذهب إلى غزة وتنقل البضائع، أو في بعض الأحيان إلى الإيلاء، ثم بعد ذلك تنقلها قوافل أخرى إلى الإسكندرية وإلى بلاد الشام. 

تحالفات الإيلاف

لكن النقطة المهمة التي نريد أن نؤكد عليها هنا أن محرقة نجران، والتي لا شك كانت مزعجة لأهل مكة بسبب هذا الصراع الفارسي الرومي، لكن أيضاً مكة قد استفادت اقتصادياً بعد هذه الحادثة؛ نجران التي كانت من المراكز التجارية الكبرى في جنوب جزيرة العرب لما خفَتَ نجمُها أصبحت الطائف أكثر نشاطاً أولاً ثم مكة من بعد ذلك.

نتحدث عن نشاط قليل فنحن نتحدث عن زمن هاشم المُبكر لأن هاشم يُقال أنه لم يعش طويلاً، لكن يبدو أن هذه الرواية ليست دقيقة فيبدو أنه عاش أطول مما قيل فأنا أعتقد أن هاشم كان لا يزال حياً لأنه هو الذي أسس إيلاف قريش، وإيلاف قريش هو الاتفاقات التجارية التي وقعها هاشم بن عبدالمطلب ثم من بعد ذلك أبناؤه بعد موته مع كلٍ من القبائل العابرة بالصحراء حتى لا يعترض شخص جِمال قريش المسافرة عبر الصحراء.وكان يدفع بالمقابل نوعا من الضريبة لحماية هذه القوافل، ثم أيضاً مع الجهات التي تحكم بلاد الشام والجهات التي تحكم العراق واليمن وكذلك مع الحبشة. 

إذاً هذا الإيلاف هو مناخ من التحالفات، وعندما يكون لديك إيلاف مع كل المتناقضين، من المفترض ألّا يكون لديك موقف سياسي من أحدهم، وإلا تدخل في مشكلة أساسية وهذا في الحقيقة ما حدث في مكة. 

نرجع للملك جستنيان، عندما وصلت هذه الرسائل للملك في القسطنطينية أدرك الخطر الاستراتيجي المدرك باليمن، فأرسلَ إلى حلفائه في الحبشة طالباً إرسال جيش لليمن وتحريرها من النفوذ الفارسي، ومن هذا الرجل الذي قتل المسيحيين في نجران، فأرسلت الحبشة جيشاً لليمن واشتبك مع ذانوّاس سنوات طويلة استمرت حتى عام 725، فقُتِلَ يوسف بن أذار ومات وأُقيم الحكم الحبشي في اليمن بعد ذلك وأصبح الحكم الحبشي حتى عام 531م أو 532م. 

حكم جديد في اليمن

وجاء حينها رجلٌ طموح في ذلك الوقت اسمه "أبراموس" -الذي نسميه نحن أبرهة أو هو الذي كان يسمي نفسه أبراهام أو أبراهيم- نجد قصته بالتفاصيل عند بروكوبيوس، لأنه وثّق للمشكلة التي وقعت، والمشكلة هي أن أبرهة لما سيطر على اليمن عزل نفسه عن الحبشة، هو حبشي لكن قال للأحباش عفواً أنا من الآن ملك اليمن، ولذلك أطلَقَ على نفسه النص التالي: "إنني أنا أبرهةُ ملك سبأ وذوريدان وحضر موت ويمنت وأعرابهم في المرتفعات والدهائم"، وهذا اللقب أيضاً عرفناه من نقوش اللغة السبئية في منطقةٍ قريبة من نجران، وهذه النقوش تصف على لسان أبرهة مجموعة من الأحداث الكبرى التي حدثت، بما فيها أنه قاد حملةً من الجيش عبر الصحراء لمطاردة قبائل العرب الذين يقومون بتهريب البضائع إلى الروم.

«هذه النقوش تصف على لسان أبرهة مجموعة من الأحداث الكبرى التي حدثت»

وحكى بروكوبيوس أن أبرهة عندما استلم الحبشة بعث الإمبراطور جستنيان -ابن أخ جستن- رسولا برسالة إلى أبرهة، وذكر أن الرسالة تقول لأبرهة أن عليه ثلاثة أشياء؛ أولها أنه ينبغي له محاربة قبائل العرب التي ما تزال تنقل إلى العراق لأنهم حلفاء للفرس، ثانياً يريدون منه طرد السفن الفارسية الموجودة في عدن، ثالثا أنه يريد منه أن يتصالح مع حليفه ملك الحبشة -أكسوم-. 

وبناء على ذلك بنى أبرهة كنيسة في صنعاء نحن نسميها "القُلَيس" وهي اسم محرف أصله باللغة الجزعية "قلسن" -كلمة تعني الكنيسة- وأهداها لملك الحبشة وكتب إليه رسالة صلح يخبره أنه بنى له كنيسة وأنها عربون صلح، استجابةً لطلب جاستنيان البيزنطي. ثم منع السفن الفارسية، مع العلم أننا نجد من نفس المصادر الموجودة في اليمن، أن وفداً من الفرس جاء ليلتقي بأبرهة، قائلاً أنهم طالما توجد صراعات مع الحبشة فهم على استعداد لمنحه الحراسة الكافية لكن المطلوب منه منع الروم، لكن أبرهة شعر أن انحيازه للروم أقوى من انحيازِه للفرس فلم يستجب لهم. وهناك طرد السفن الفارسية، وقاد حملةً نحو الصحراء. 

كانت هذه الفترة بين 540 م و 545 م، وهي قبل ولادة النبي -صلى الله عليه وسلم- بحوالي 25 إلى 30 سنة فقد ولد النبي عليه الصلاة والسلام في 570م. وأبرهة هذا الذي قاد الجيش لم يذكر في النص الموجود لدينا أنه مرّ ببكة، إنما يتكلم عن الطائف وتبوك وعن قبائل حاربها ثم عاد موقراً حسب الرواية.  

فصار لدينا إشكالية إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وُلِدَ عام الفيل، أي 570م كيف يكتب لنا التاريخ على لسان أبرهة وبروكيبيوس أنه تم قبل ذلك بما يقارب الثلاثين سنة؟

والحقيقة أنه بعد البحث عن هذا الأمر، دلّنا أحد الباحثين الأتراك على شيء لم نكن منتبهين له، وهو أن أبرهة صاحب الفيل الذي جاء لمكة ليس أبرهة الأول، والذي هو أبراموس الذي كان في اليمن في عام 532، وإنما حفيده أبرهة بن الصباح وأمه كانت ابنة أبرهة الأكبر الأول الذي كان حاكماً على اليمن، وكانت أُمه حبشية وأبوه حُميري. 

نقوش تصف حادثة الفيل

وقد آلت إليه الأمور فترة من الزمن وقام بمهاجمة مكة من خلال قصة الفيل، وهنا انحلت الإشكالية ونصل بهذا إلى 570م الآن، لأن أبرهة على الأرجح مات عام 560م، وهذا ما نجده في الكتب، ولدينا عشرة سنين تم الانتقال لابن مسروق ثم بعد ذلك إلى حفيده أبرهة الذي كان قائد الجيش الذي وقع عليه أمر حادثة الفيل.

نار الانتقام يصل جزيرة العرب

إذن نعود إلى أن الصراع الفارسي الرومي، وكيف أثر ذلك على مكة. الحاصل أن حلفاء الروم جاؤوا لهدم مكة في زمن الفيل، وهذه القصة الثانية التي نريد الدخول إليها -حادثة الفيل-، إذاً الله سبحانه وتعالى، لفت نظر المسلمين إلى أن معركة الأخدود كانت بسبب انحيازٍ وصراع دولي وأدت إلى مقتل المؤمنين الذين كانوا من النصارى، وأن هؤلاء كانوا على الأرجح من الموحدين، الذين كانوا يتبعون مذهباً مسيحياً يؤمن بالتوحيد وهو مذهب "آريوس"، ونحتاج في هذه المسألة لشرح ودراسة أعمق. 

لكن الذي حدث بعدها، هو أن شرر نجران تشكّلت منه الحرب التي سيطر الأحباش فيها على اليمن، وقادوا فيها أيضاً محاولة لإخضاع مكة عبر غزوة الفيل، التي قادوا فيها محاولة لهدم الكعبة. 

لكن لماذا أرادوا هدم الكعبة؟ الكعبة في تلك الأثناء كانت الرمز الجامع لكل العرب، أي أن نفوذ مكة لم يكن فقط في قليل القوافل التجارية التي تذهب بين اليمن والشام، والتي أيضاً حاول أبرهة إيقافها، ولكن كان فيها قوة للعرب جميعاً بسبب وجود مكة لأنها رمز جامع لكل العرب، وهدمها يُضعف مكانة مكة ويحولها إلى قرية هامشية. 

ومن هنا يبدو أن التفكير كان فعلاً في إضعاف مكة من هذه الجهة، ولكن طبعاً نعرف أن هذه الحادثة أدت لضرب هذا الجيش ولم يستطع تحقيق نفوذه، لكن ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الأثناء فإذا كانت حادثة الفيل وقعت في عام ولادته أو قبلها بقليل، فمعنى ذلك أن فكرة الصراع على اليمن والصراع بين الفرس والروم حاضرة في أذهان القريشيين وفي ذهن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أُرِّخَ لولادته بمعركةٍ كانت قد حدثت بسبب الاستقطاب الدولي بين الفرس والروم في اليمن وهذا في غاية الأهمية.

نرجع قليلاً لنذكر معلومة مهمة، وهي أن الرومان حاولوا منذ عهدٍ بعيد السيطرة على جزيرة العرب عن طريق التجارة الذي يعبر بين نجران وبين اليمن ومابين بلاد الشام، فأرسلوا بعثة في وقت مبكر جداً بحدود عام 24 للميلاد، فبعثوا ببعثة من حاكم مصر الروماني الذي قطع البحر الأحمر بسفن إلى ميناء "ينبع" ثم قادهم إلى يثرب، ونجد هذا أيضاً في التاريخ اليوناني القديم، والمؤرخ "سترابو" الذي كتب ذلك كان مشاركاً بنفسه في هذه الحملة التي بها 30 ألف مقاتل من الرومان وتاريخه مشهور، فيقول جاؤوا إلى يثرب ثم ذهبوا جنوباً باتجاه نجران، وأرادوا غزو اليمن والسيطرة عليها عسكرياً عبر البر، لكن بسبب المرض والجوع والصحراء لم يستطيعوا ومات كثيرٌ من الجُند واضطرت هذه البعثة الرومانية أن تنسحب. إذاً طمع الرومان أيضاً في جزيرة العرب قديما من أجل السيطرة على تجارة الصحراء. 

مكةٌ لُقاح

نرجع للأمام أيضاً قليلاً حيث يوجد رجل أرخ له المؤرخون المسلمون، حاول هذا الرجل أن يكون ملكاً لمكة نيابةً عن الروم واسمه "الحارث" وقد جاء وقال لأهل مكة أنه تم تعيينه من قبل قيصر ملكاً على مكة، فإذا رفضوا فإن تجارتهم مع الشام ستنقطع، وحاول إقناعهم بأنه ابن البلد وسينادي بنوع من النظام يكون الكل سعيدا فيه. 

في البداية شعر أهل مكة بالقبول لكن بعدها لم يستطع أن يفعل هذا الرجل شيئاً، لأنه في اليوم التالي والذي ينبغي أن يجتمع فيه الناس لينصبوه ملكاً وقف رجلٌ وقال يا آل عباد الله في مكة ملك؟ فقيل أنهم انحاشوا انحياش الحمر البحرية، وقالوا مكةٌ لُقاح -أي لا تُملَك- وبقيت مكة كذلك. 

فلم تُملك ولم يكن لديها ملك بل لديها مجموعة من الناس يحكمون عبر دار الندوة، مثل السند في النظام الروماني القديم، لكن لم يكن هنالك ملك بمعنى الرجل الحاكم. و قالوا أفي تُهامةَ ملك؟ قالوا لا والله لا يكون في تهامة ملك. لماذا؟ لأنه لو كان في تهامة ملك سيتأذون اقتصادياً في اليوم الذي تنتصر فيه الفرس. 

العصر الذهبي القرشي

نعود الآن إلى النقطة الأخرى المهمة وهي سورة الروم متى نزلت؟ قال الله تعالى: «غُلِبَتِ ٱلرُّومُ ۝ فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ» متى؟ «فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ۝ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ». 

الآن الإشارة التي تعطينا المفتاح أن هذه الهزيمة الرومانية أمام الفرس في أدنى الأرض، وأدنى الأرض كانت بلاد الشام، وبالتحديد في شهر أبريل من عام 614 م أين احتل الفرس بيت المقدس وسيطروا عليه وكان هذا العام حسب ما أعتقد هو الذي نزلت فيه سورة الروم، وهذه أكبر معركة رمزية بين الفرس والروم حيث تتم السيطرة على بيت المقدس عام 614، أي أربع سنوات بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-. 

وماذا تخبر المؤمنين هذه السورة؟ تقول أن هناك معركة دولية، وهم يعلمون طبعاً لأن قوافل قريش التي تجوب الصحراء وصلت بعد ذلك وأخبرتهم بوجود معركة، والفرس الآن في 614م إلى 616م موجودون في الشام، وفي 617م دخلوا مصر وسيطروا على الإسكندرية. 

انقطع الوجود الروماني في هتين المنطقتين، وانقطع نفوذهم في البحر الأحمر وأصبح الفرس هم المسيطرين عليه، لذلك ينبغي لأي قوافل من قريش أن تنقل وتسارع لجني الأرباح. وقال المؤرخون في هذا أن الدينار كان يأتيهم بعشر دنانير-أي عشرة أضعاف السعر-. 

إذاً هل  تفرح قريش لانتصار الفرس؟ نعم، لأن انتصار الفرس ثراءٌ لمكة وازدهارٌ لتجارة الصحراء العابرة للحدود وهذه نقطة في غاية الأهمية. 

والحقيقة أن هذا هو العصر الذهبي اقتصادياً لمكة، والذي بدأ برأيي من عام 602م إلى فترة هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبداية منع القوافل القرشية عام 623م، والسبب في ذلك أننا نلحظ أن الثراء في مكة  في هذه الفترة أصبح فاحشاً، وأصبح لدينا تجار على درجة عالية من الثراء والغنى، كالوليد بن المغيرة مثلا، الذي كان عندما يسير يسير من خلفه عشرة من المرافقين -العبيد- حاملين المظلات، وكان رداؤه يُحمل من خلفه ويسير مثل الطاووس. 

وكذلك غيره من قادة قريش وزعمائها، فكانت لديهم الموائد واستغلوا المال في السؤدد والهيمنة والسيطرة، والحقيقة أن قريشا لم تكن تعرف الجوع في ذلك الوقت خاصةً عند الأغنياء وكانت تجارتها رابحة وقوافلها تعود عليهم. 

ولذلك كلما انتصرت الفرس كلما فرحت قريش، وإذا انتصرت الروم تحزن، وهذا ما يفسر أن المؤمنين فرحوا بنصر الله، لأن المسلمين في مكة كانوا على حياد -الحياد الاستراتيجي-، يعني الروم لم يكونوا محسوبين على أنهم أهل كتاب محترمين ومقربين منا لذلك بناء عليه نحزن. 

بل في الحقيقة الروم هم سيكونون الهدف الاستراتيجي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلاث غزوات؛ هي غزوة مؤتة ثم بعد ذلك تبوك، وثم عندما أمر النبي قبل وفاته بأيام قليلة أن يُرسل أسامة بن زيد و لم يرسل للفرس بل للروم، لأن الخطر الأكبر كان عليهم من الروم والقبائل العربية المتحالفة معها. 

مذبحة القدس

ولكن توجد نقطة مهمة أريد أن أشير إليها، أنا قلت أن في عام 623م كانت هناك مذبحة في نجران قادها يهوديٍ اسمه "يوسف بن أسار" بدعمٍ من الفرس ضد المسيحيين في نجران، قبل أقل من مائة عام سيكون هناك مذبحة أخرى لكن هذه المرة في القدس يقودها الفرس بدعمٍ يهودي! 

نعرف في التاريخ أن اليهود شاركوا بعشرين ألف مقاتل مع الجيش الفارسي الذي دخل القدس واحتلها، ونعرف ذلك لأن هناك نص كتبه أسقف اسمه "انتيوكس" للقدس مشهور ومطبوع، يتكلم فيه عن صفة دخول الفرس إلى القدس ومعهم اليهود وكيف أنه قُتِلَ من المسيحيين في ذلك اليوم ما لا يقل عن 90 ألف -برأيه-، ويقول المؤرخون أقل من ذلك ويوجد خلاف في عددهم. 

ثم أن الفرس سلموا المدينة لليهود وتم تعيين حاكم يهودي يتبع الدولة الفارسية عليهم، وهذا ديهيمينا بن هوشيل واسمه موجود ومكتوب نصاً في التراث اليهودي والبيزنطي، فكان حاكم القدس الفارسي يهودياً، وأراد أن يبني الهيكل الثالث وذلك بدعمٍ من الفرس في مارس أو أبريل 614م، بعد مضي أربع سنين من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولما أراد بناء هذا الهيكل ثار طرفان من المسيحيين، هم المسيحيون في داخل القدس والمسيحيون الموجودون مع الجيش الفارسي. 

فلا ننسى أن الجيش الفارسي في المناذر العرب كانوا أيضاً من المسيحيين، وهم أيضاً لم يريدوا أن تهدم الكنائس ويبنى الهيكل، ولذلك ضغطوا على القائد الفارسي الذي دخل الفرس واسمه "شهربراز" وهو مشهور بأنه الذي قاد حملة ضد بلاد فارس جميعاً وانتصر، فقادوا عليه ضغوطا وفي عام 617م -بعد ثلاث سنين فقط- أخرج اليهود من داخل القدس وسيطرتهم وسلمت المدينة إلى قسٍ مسيحي بسبب ضغط العرب الموجودين في الجيش الفارسي، وبسبب ضغط من تبقى من النصارى داخل القدس.

متى زار النبي -صلى الله عليه وسلم- بيت المقدس في رحلة الإسراء؟ زارها على الأرجح في العام العاشر للهجرة أو قبله بقليل أي 620م وما الذي كان هناك وقتها؟ المدينة تحت النفوذ الفارسي والصراع محتدم ما بين اليهود والمسيحيين عليها، ما بين فئة تريد أن تعيد المسيحيين مهيمنين وهم العرب النصارى الموجودون في الجيش الفارسي وداخل المدينة، وما بين جهاتٍ فارسية ترى أن الحليف الاستراتيجي هم  اليهود الذين ساهموا في دخول المدينة. 

العقد الاجتماعي الأخلاقي شرط الاستمرارية

ومن هنا جاء الخيار الثالث الذي طُرِحَ وهو أن تكون هذه المدينة هي مدينةُ إرثٍ للأنبياء جميعاً والذين يمثلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن هنا نزلت سورة الإسراء، وسورة الإسراء تلفت نظرنا ليس فقط إلى رحلة الإسراء والمعراج وإنما إلى سنة الله سبحانه في التعاطي مع أهل الكتاب، والذين هم في هذه الحالة بنو إسرائيل عندما أسسوا ملكاً. وأنهم كلما أسسوا هذا الملك أصيبوا بحالةٍ من الطغيان مما يؤدي إلى تدميرهم. 

ولم تُذكر لنا هذه المعلومات فقط من أجل أن نفهم تاريخياً ما حدث، إنما ذُكِرَت لنا من أجل أن يعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من بعده حتى يومنا هذا، بأن أخلاق بناء الدولة تقتضي العدل والمساواة، وتقتضي نظاماً اجتماعياً ونظاماً أخلاقياً هو ذلك النظام الموجود في سورة الإسراء.

لذلك لاحظوا انتهت الخاتمة في سورة الإسراء بالحديث عن بني إسرائيل عند قوله تعالى: «وَإِذَاۤ أَرَدۡنَاۤ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡیَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِیهَا فَفَسَقُوا۟ فِیهَا فَحَقَّ عَلَیۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَـٰهَا تَدۡمِيراً». وهذا ليس خاصاً ببني إسرائيل بل بكل من يؤسس كيان حكمٍ ويطغى، سوف يقع عليه الطغيان وينهار. وأنت يا محمد  ستسافر عمّا قريب إلى المدينة وتؤسس دولة فيها بعد سنتين أو أقل من ذلك، فسورة الإسراء من أواخر ما نزل. 

ثم في سورة الإسراء أيضاً درسٌ أخلاقي للمسلمين، وهي سورة في الحقيقة عقد اجتماعي أخلاقي، لأنك إن أردت أن تؤسس دولة أو حضارة تحتاج لهذه الأخلاق والقيم لاستمرارية النظام السياسي، وإلا فإن النظام السياسي سيتبعثر. وهذه سنة أن الله سبحانه وتعالى، يهلك القرى التي طغى فيها الناس. 

ولذلك نجد في سورة الإسراء كذلك إشارة في غاية الأهمية وهي «وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِی مُدۡخَلَ صِدۡق، وَأَخۡرِجۡنِی مُخۡرَجَ صِدۡق، وَٱجۡعَل لِّی مِن لَّدُنكَ سُلۡطَـٰناً نَّصِيراً» وهي مؤشرٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يتهيأ ليخرج مخرج صدق وهو مكة، ويدخل مدخل صدق وهو المدينة -يثرب في ذلك الوقت-، وأن يكون له سلطانٌ من المسلمين الجدد الذين سيأتون من الخزرج والأوس نصيراً. 

فإذاً أول إشارات الجرة نجدها في سورة الإسراء والله تعالى أعلم، وهي جاءت لكي تعلم النبي -عليه الصلاة والسلام- كيف يبني نظاماً أو دولةً من غير أن تقع هذه الدولة في نفس ما وقعت فيه القُرى والأمم والحضارات السابقة وضرب له مثالاً بما وقع في بيت المقدس في عامٍ كان الصراع لا يزال محتدماً على بيت المقدس في عام 620م.

معركة هرقل والفرس

سورة الروم قالت بأن الروم سينتصرون بعد بضع سنين، متى انتصر الروم؟ أول انتصار نعرفه من التاريخ الروماني وقع في عام 623م، عندما قام هرقل بقيادة مجموعة من الشباب والالتفات على الجيش الفارسي الذي كان يحاصر القسطنطينية، ففي أواخر عام 623م قامت معركة وصلت أخبارها للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد بدر، فكان فرح المسلمين بشيئين هما فرحهم بانتصار الروم على الفرس وفرحهم بانتصارهم على أهل مكة وهو الفرح الأكبر، وذلك في عام 624م عندما وصل الخبر ويقول بعض الصحابة ممن روِيَت آثارهم أنه وصلنا خبر انتصار الروم بعد بدر فكان فرحنا بذلك، وذلك لأن مكة ستضعف.

توجيهات ربانية وإسقاط نبوي 

المسألة التي أريد أن أؤكد عليه هنا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- عندما كانت كل هذه الموجّهات التي وردت في سورة البروج والفيل وقريش والروم والإسراء، كانت تعطيه موجّهات استراتيجية كلية، لكن أفعاله في التحالفات وإنزال هذه الرؤى والأفكار والتصورات الجوهرية على الأرض كان فعله واجتهاده صلى الله عليه وسلم، عن شورى من المسلمين وعن تخطيطٍ لموازين القوة وفهمٍ عميقٍ لشقوق الصراعات الموجودة في ذلك الزمن. 

الذي أريد أن أكرره مرة أخرى أن سورة الإيلاف أي سورة قريش أعطت النبي -صلى الله عليه وسلم- استراتيجيتين، الأولى في قطع التجارة عن قريش وهو العنصر الأول للقوة القرشية، والثانية في امتلاك الشرعية بالذهاب إلى الحديبية ثم بعد ذلك فتح مكة -أي البيت-، لأن قريشا تقوم على ركيزتين من القوة الأولى التجارة كما ذكرت لنا السورة «بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ لِإِیلَـٰفِ قُرَیۡشٍ ۝  إِۦلَـٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَاۤءِ وَٱلصَّیۡفِ» و«فَلۡیَعۡبُدُوا۟ رَبَّ هَـٰذَا ٱلۡبَیۡتِ» -البيت: مكة- ومن دون تجارة ولا حرم-أي من دون كعبة- فإن مكة لا قيمة لها.

إذاً القوة السياسية الاقتصادية حاربها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأوقعها تحت ضغط حقيقي من خلال قطع طرق التجارة القرشية مع العالم، ثم سيادة الإسلام على مكة أنهى استخدام قريش للكعبة لكي تؤول إليها مقاليد الأمور في جزيرة العرب، وهكذا انتصر الإسلام. 

الذي أقوله القرآن الكريم قدم للنبي -عليه الصلاة والسلام- هذه الأُطر الاستراتيجية الكبرى والقيم العليا والنبي أسقطها على الأرض وأوقعها في موقعٍ من التنفيذ من خلال جهدٍ بشريٍ بالتنسيق والاستشارة مع أصحابه صلى الله عليه وسلم.

نظام توحيدي جديد

الذي أريد أن أختم به هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى العالم على شفا انهيارٍ تام «ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ». 

وأن الدين كان مهدداً لأن اليهودية كانت في ذلك الوقت بيد الفرس أداةً والمسيحية بيد الروم كانت أداةً. ولم يكن هناك دينٌ خالص لله سبحانه وتعالى، فمن هنا فالتوظيف السياسي للأديان أضعَفها وأفرغها من محتواها، ودفع أتباع هذه الأديان لخدمة القوتين العظيمتين في ذلك الزمن من دون أن يخدم أحدٌ الدين كدين بإخلاص. 

ولذلك كان لابد من دينٍ جديد منفكٍّ عن الصراع الدولي، يؤسس لتوحيدٍ قائم على الحنيفية الإبراهيمية، وقائم على عدم الانحياز لأيٍ من هذه القوى، بل على تأسيس منظومةٍ جديدة من العدل تختلف عن القوة البيزنطية والقوة الفارسية في أنها لا تحتكر السلطة والمال ولا تستغل الشعوب المفتوحة لخدمة نفسها، ولا تجبرهم على أن يشتغلوا عندها عبيداً أو في إقطاعياتها من أجل الثراء. النبي -صلى الله عليه وسلم- أسس لهذا المنهج وهذا ما طبقه صحابته من بعد ذلك في فتوح الشام والعراق. 

أختم بالقول أن الصراع الذي تحدثت عنه سورة الروم بقي ماثلاً في ذهن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانت مؤتة ثم من بعدها تبوك ثم كان من بعد تبوك بعثة أسامة. وانتبهوا لشيء مهم جداً، أنها كلها كانت باتجاه الشمال وكلها كانت بلاد الشام وآخر بعثٍ كان بعث أسامة حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطأ البلقاء والداروم من أرض فلسطين، والداروم على الأرجح جنوب غزة. فلماذا أمره صلى الله عليه وسلم بأن يطأ تلك البلدان فما المقصود منها؟ موجها لصحابته من بعده أن الجبهة التي ينبغي عليكم أن تراعوها دائماً وتبقوا فيها هي باتجاه بيت المقدس وفلسطين، وفتح بيت المقدس تم بعد ذلك على يد عمرٍ -رضي الله عنه- بعد زمنٍ قصير من وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

إذاً الرسالة النبوية استراتيجياً، أنه عليكم أن تستعدوا للسيطرة على بيت المقدس لأنك إن سيطرت على بيت المقدس سوف تسيطر على جزءٍ أصيل من الشرعية التي يقوم عليها النفوذ الإسلامي عالمياً، وأيضاً من خلال سيطرتك على بلاد الشام التي ستُنهي الوجود البيزنطي. 

طبعاً بلاد فارس في هذه الأثناء كانت أيضاً ضعيفة وستنهزم أيضاً في 637م أمام المسلمين، وفي 636م الروم في معركة اليرموك سينهزمون أمام المسلمين وسوف يعُم الإسلام. إذاً موجهات الاستراتيجية فعلت فعلها في أذهان الصحابة وتبلورت بعد ذلك عبر فتوحٍ حقيقيةٍ لهذين الإمبراطوريتين ليرثهما من بعد ذلك نظامٌ سياسي بوعيٍ وفكرٍ استراتيجيٍ جديد، 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.