كثير منا يعتقد أن القانون هو الذي يضبط الناس، نعم القانون مهم ومهم جداً، لكن لا يمكن له وحده أن يضبط الناس، بينما الأخلاق إذا تعمقت فهي كفيلة بأن تضبط سلوكهم، والمجتمع الفاضل الحقيقي العادل هو الذي يقوم على الضمير والأخلاق قبل أن يقوم على القانون. 

إن المسؤولية الأخلاقية أشمل بكثير من المسؤولية القانونية، لأن الأخلاق ثابتة لا تتغير، أما القانون فيتعدل ويتغير ويُلغى حسب التشريعات. 

القوانين لا تنهض وحدها بالأمم

الأخلاق سلوك نابع من داخل النفس البشرية، أما القانون فهو يضبط السلوك الخارجي للناس، الأخلاق مسؤولية أمام الله وأمام الضمير الحي في الإنسان، بينما ما هي مسؤولية الإنسان أمام القانون؟ الخوف فقط، الخوف من أن يُضبط. في الأخلاق يحاسب الشخص نفسه، بينما تقوم السلطة التنفيذية في القانون بمحاسبة الناس وتطبق القانون عليهم. 

ولذلك إذا أقيمت تشريعات الأمة على القانون، وكان البناء الأساسي للأمة هو القانون دون التركيز على الأخلاق، فلن تنهض نهضةً حقيقية، رغم كل أهمية القانون، وأنا طبعاً لا أقلل من أهميته، لأن القيمة الحقيقية هي للأخلاق.

سرقة في نيويورك

قد تكون ملتزماً بالأخلاق في حال وجود قانون يجرمك إن خالفتها، فإن زال القانون أو زالت العقوبة، زال التزامك بها، هذا ليس التزاما بالأخلاق بل هو التزام بالقانون. 

في السبعينات -عندما كنت في أمريكا- حدث مرة أن انقطع التيار الكهربائي عن مدينة نيويورك، وطبعاً هذا الانقطاع كان حالة مفاجئة ونادرة جداً، ما الذي حدث ليلتها؟ كان مجموع السرقات اثنين بليون دولار بأرقام السبعينات! فمن سرق في تلك الليلة سرق بسبب غياب القانون، ونفس الشخص لم يسرق قبل ذلك لأنه كان يخاف القانون، وليس لأنه ملتزم بالأخلاق!

الغش في أمريكا

في أيامنا هذه وفي إحصائية رسمية أمريكية تقر مصلحة الضرائب التي تجمع الأموال من الناس للدولة بأن نسبة الأمريكان الذين يغشون بالضرائب بلغت 80%!!

في استبيان أجري في أميركا، شارك فيه أكثر من (29.000) طالبٍ أميركي من مائة مدرسة عليا حكومية أو خاصة، جاءت نتائج هذا الاستبيان على النحو التالي:

  • (30%) من المشاركين به سرقوا من المتاجر. 
  • (36%) سرقوا واجباتهم من الإنترنت وقدموها وكأنها من عملهم.
  • (42%) منهم استخدم الكذب لتوفير الأموال للحصول على تنزيلات.
  • (64%) منهم اعترفوا بالغش في الامتحانات. 
  • (93%) من هؤلاء الذين غشوا وسرقوا وخدعوا كانوا راضين عن سلوكهم الأخلاقي، وهذا كان أغرب شيء في الإحصائية.
علاقة الأخلاق بالفقه

يقودنا الحديث عن الأخلاق إلى سؤالٍ إشكالي كبيرٍ، ما علاقة الأخلاق بالفقه والتشريع؟ لقد درست الفقه على المذاهب الأربعة، وكم آلمني وأزعجني الطريقة التي يُدوّن بها علم الفقه، خاصة الكتب الحديثة منه، حيث فُرِّغ الفقه من الأخلاق، وجرّدت الأحكام الفقهية من الجانب الأخلاقي.

فعندما تقرأ في كتب الفقه لن تجد كلاماً عن الأخلاق وعن المعاني العميقة للصدق وعدم الغش والأمانة، وكأن الأحكام مسائل مجردة، ليس لها علاقة بالأخلاق.

دليل الأوامر والنواهي

قلّبت الكثير من صفحات كتب الفقه، وقلّما أجد مسألة فقهية تتناول الموضوع من جانب الأخلاق، لا أجد إلا حكماً يليه حكم يليه حكم، ولا ذكر للأخلاق! لا يجوز بأيّ حال من الأحوال فصل الفقه عن الأخلاق، بل يجب ربط الفقه والعبادات بمقاصدها الأخلاقية كما فعل القرآن الكريم، لأن فصل الفقه عن الأخلاق سيحول كتب الفقه إلى دليل استخدام ليس أكثر، دليل استخدام للأوامر والنواهي، ولن تجد فيه إلا "افعل"، "لا تفعل"، "حلال"، "حرام"، دون معرفة المقاصد الأخلاقية من وراء الفعل أو الترك.