لقد استحكمت غربة "مالك بن نبي" على الساحة الفكرية نتيجة منهجيته الصارمة التي رتب أفكاره عليها، ورؤيته البعيدة التي تضع مشروعه النهضوي في إطاره الإنساني الشامل، وفي موقعه على مسار الدورات الحضارية، متميزاً بذلك على سائر مفكري حركة النهضة بشقيها الحداثي والسلفي، فلم يفهمه أي من التيارين، ولم يمكن تصنفيه ضمن واحد منهما، فكان مرفوضًا منهما كليهما. 

أستفتح هذا المقال بنقاط لا بد من ذكرها قبل الحديث عن مالك بن نبي، وربما الحديث عن مفكرنا مالك سيأخذ منا عدة مقالات للحديث عن شخصيته، ولمناقشة بعضًا من أعماله الفكرية الكاملة التي ربما طوى عليها الزمن، وأودعها غيابات النسيان، وقصور العقل العربي في محاولة التعرف عن زوايا هذا العقل الفكري الذي تفجرت أنهاره في وديان كان من المفترض أن تتشرب أدبيّات فكره، ونواصل قافلة الفكر حيثما توقفت وحيث ما انتهت إليها عناقيد طرحه، ونعيد بناء أفكاره من جديد لإن الفكرة إن لم تجدد ويضاف إليها تظل في لباسها القديم، وتؤخذ إلى متاحف الفكر ليشاهدها الناس بدل أن يطوروا غيرها، وكما يقول الدكتور "محمد حسنين هيكل" في كتابه ثورة الأدب: 

"إن الأدب هو كمثل الملابس التي تمثل تراثنا القديم تظل الملابس تمثل عادات مجتمعا ما وثقافاته، لإنها كانت وريثة الزمن القديم زمن الأجداد، والأدب كذلك الأدب القديم هو يمثل ثراتنا الثقافي والفكري، نحن بحاجة أن نطور هذا الفكر وأن الفكرة الواحدة القديمة تصبح أفكارا في واقعنا الحاضر…"

أكتب إليكم هذه المقالة عن هذا المفكر وأنا على حافة السرير، ومجلده الثالث من أعماله الكاملة متربعًا أمامي بصورته الشخصية، وكأنه ينظر إليّ ويشاهد ما أكتب عنه، وأسمع أزيز الكتاب من غلافه وهو يقول: "ظلمت مرتين مرة وأنا على قيد الحياة لم يكن للناس اهتمام بفكري، والمرة الثانية أظنها كمثل الأولى، اكتب عني فقد عشت مظلوم الفكر في حياتي فهلا تكرمت من إيصال وجدان فكري للناس حتى لا أظلم مرة ثانية".

 لا تخف عزيزي مالك بن نبي، وأنت الذي قلت: "ربما الأوفى أن أخص بصفحات فكري بالصفحات القادمة جيلا سيأتي يعقب جيلي، لنؤكد لهم -وهم بين أنقاض عالمنا- أن عليهم واجب بناء عالم خاص بهم"، كانت هذه كلماتك هي التي جعلتك لا تظلم مرة ثانية.

 اطمئن فهذا الجيل قد عرف من هو مالك بن نبي وما من مكتبة إلا ويوجد بداخلها فكر مالك وما من دراسة فكرية ولا استشراف مستقبل فكري إلا ومالك يذكر بداخلها، وما من ندوة ثقافية أو فكرية أو نهضوية إلا ومالك يردد اسمه فيها، اطمئن فقد أسر فكرك كل من قرأ عنك، تظل كلماتك في النهضة تكتب في كل حي من أحياء العالم الإسلامي، وأنت القائل: "إنها لشرعة الله غير نفسك تغير مجرى التاريخ".

لمن لا يعرف مالك

ولد في الجزائر سنة 1905م، وتوفي في الجزائر سنة 1972م، عدد مؤلفاته: "25 كتابا" متنوعة الطرح متعددة التناول، أحد أعلام العرب المتخصصين في مجال الفكر الإسلامي خلال فترة القرن العشرين، وهو أحد الذين ساهموا في إحداث نهضة فكرية إسلامية في العالم، ويعتبر واحدا من الأشخاص الذي أكملوا مسيرة ابن خلدون في مفكرته، وكانت جميع اهتمامات مالك تصب حول مشاكل الحضارة ومحاولة علاجها، هذا باختصار بسيط في أسطر لمن لا يعرف مفكرنا مالك بن نبي. 

وقفات لابد منها 

يختلف مالك بن نبي كثيراً عن الدعاة المفكرين والكتاب، فهو فيلسوف أصيل له طابع العالم الاجتماعي الدقيق الذي أتاحت له ثقافته العربية والفرنسية أن يجمع بين علم العرب وفكرهم المستمد من القرآن والسنة والتراث العربي الإسلامي الضخم، وبين علم الغرب وفكره المستمد من تراثهم وتاريخهم، يعد مالك بن نبي مشروعا متكاملا في المجال النهضوي والمشكلة الثقافية والمشاكل الاجتماعية والحضارية، والقضايا الكبرى التي تنخر في أعمدة قيام المجتمعات. 

هل غلبه تخصصه؟!

إن الرجل لم يكن مفكرا اكتسابيّا، وإنما كان مفكرا فطريًا نشأ فكره بفطرته السليمة الصحيحة التي تغوص في القضايا وتعطي لها حلولاً تناسب مفاتيح حلها.

 ولعل هذه الطريقة اكتسبها من مادة الرياضيات، وكون الرجل خريج هندسة كهربائية وكان محبًا لمادة الرياضيات مما جعله يتذوق الفكر وكأنه يحلل مسألة من مسائل الرياضيات يبدأ بالمعطيات ويأخذ معها أطوارا في الحل حتى يعطي النتيجة النهائية في ذلك. 

صلب عقيدة ليس لها مثيل

التمسك بالهوية الإسلامية وإلمامه بالفلسفة الشرقية والغربية، فعندما تقرأ كتبه تشعر بأنك أمام عملاق موسوعي يطرح الإسلام كاملا لقيمنا، وقادر على استعادة دور الإنسان مبَرَّأ من ثقل الحضارة الإمبراطورية، وهو يرى أن الإسلام لا يقدم للعالم ككتاب وإنما كواقع اجتماعي يسهم بشخصيته في بناء مصير الإنسانية.

ختامًا لهذا المقال، سنتناول معكم بإذن الله وقفات من أعماله الفكرية الكاملة التي ستكون متعددة الطرح؛ إمّا مناقشة كتب من كتاباته، وإمّا التنقل بين فكره وعرضه بصورة عن طريق اجتزاء فكري من بعض أفكاره وإيصال صورة منهجية واضحة في وضوح رؤية عرض أفكاره.