قبل التفصيل في الموضوع، أود أن أشير إلى نقطة مهمة جدًا في اعتقادي ألا وهي ارتباط التعلّم بمرحلة حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها (Lifelong Learning)، وليس بمرحلة معينة فقط وبعدها ينتهي الأمر. مثلا الأطوار الدراسية المختلفة وحتى التعليم العالي، على أهميتها، تعتبر مرحلة قصيرة نوعا ما في هذا الإطار.

المقال التالي يركز على مرحلة ما بعد المدرسة أو الجامعة. أو بصيغة أخرى أكثر دقة يركز على الحياة العملية في مختلف القطاعات أو المنظمات.بالإمكان أيضا التفكير في صيغة معينة لإسقاط ما سنراه من خلال هذا العرض على مرحلة المدرسة أو الجامعة، وهذا ما يجري تطبيقه بالمناسبة في بعض البلدان التي تعتمد طرائق تدريس جدّ متقدمة، لكن الموضوع هنا يتخطى حيز هذه المرحلة التعليمية.

في خلال العقد الماضي -ما بين 2010 و 2020- أو قبله بقليل، ظهر اتجاه جديد في مجال التدريب والتطوير (Learning & Development أو Training & Development) يُعنى بتطوير الأداء (Driving Performance)، أي التركيز على تطوير أداء الأفراد بهدف تطوير أداء المنظمات (فريق، مصلحة، قسم، شركة،..).

 للتوضيح، يشمل مجال التدريب و التطوير العاملين في أقسام التدريب على مستوى الشركات -أو على مستوى أقسام الموارد البشرية داخل الشركات- أو العاملين في مراكز التكوين و التدريب، المدربين، والاستشاريين، والمتخصصين في التصميم التعليمي، وتكنولوجيات التعليم،...

تحول تركيز هؤلاء من الفعالية التدريبية (Training Event) بحد ذاتها إلى التركيز على التماشي أو التوافق مع العمل (Business Alignment) ومحاولة تقديم حلول للمشاكل التي يواجهها أعضاء أو رؤساء العمل في المنظمات المختلفة (شركات خاصة، حكومية، جمعيات،..). في حقيقة الأمر يتم ذلك بصفة محتشمة حتى الآن لما يقتضيه الأمر من تغيير للعقليات. بصيغة أخرى، تحول دور هؤلاء من وظيفة دعم (Support Function) تنتهي مسؤوليتها مع نهاية الفعالية التدريبية إلى وظيفة إستراتيجية (Strategic Function) تتحمل مسؤولية أداء المنظمة (Organization Performance) كغيرها من الوظائف الاستراتيجية الأخرى.

في هذا السياق تحضرني بعض الأعمال الرائعة والمثيرة للإهتمام قام بها فريقان، الأول من أوروبا والثاني من الولايات المتحدة الأمريكية. يجيب الفريق الأول على سؤال أين نتعلم (Where We Learn) ويجيب الفريق الثاني على سؤال متى نتعلم (When We Learn). في الحقيقة الفريقان في تنافس محموم منذ سنوات: من يسيطر على هذا السوق الجديد أولا.

أين نتعلم؟

 

الفريق الأول (مؤسس منظمة The 702010 Institute) يتكون من ثلاث أفراد (Vivian Heijnen, Charles Jennings, Joe Arets) يعمل ما بين المملكة المتحدة و هولاندا وهو معروف بنموذج 702010 الذي يهدف إلى دمج التعليم في خلال #سير_العمل (Workflow). يرتكز هذا الفريق على دراسات وأبحاث متخصصة وعلى خبرات طويلة جدًا في ميدان التدريب والتطوير تصل إلى حوالي أربعين سنة لدى Charles Jennings مثلا وهو رئيس قسم التدريب والتطوير لدى شركة Reuters سابقًا.

تدل الأرقام على أين تحصل عملية التعلم:

- نتعلم بمقدار 10% عن طريق الفعاليات التدريبية.

- نتعلم بمقدار 20% عن طريق التفاعل مع الآخرين.

- نتعلم بمقدار 70% عن طريق التجارب اليومية.

النسب هنا ليست ثوابت لا تتغير. الهدف الرئيسي منها هو تبيان أن ما يقوم به العاملين وأهل الإختصاص في ميدان التدريب و التطوير من مجهودات لا يزيد تأثيرها في الحقيقة عن نسبة ضئيلة جدًا في حين يتم تجاهل مجال واسع جداً تقريبا خالٍ تماماً من أي تأثير يذكر.

عادة ما يشار إلى نسبة 10% بمصطلح التعلم الرسمي (Formal Learning) وإلى مجموع نسبة 90% الباقية بمصطلح التعلم غير الرسمي (Informal Learning). أو بصيغة أخرى -في اعتقادي- نسبة الأنشطة المُسيطر عليها إلى الأنشطة غير المسيطر عليها من طرف أهل الاختصاص والعاملين في ميدان التدريب والتطوير. هؤلاء لا يسيطرون إلاّ على نسبة ضئيلة جدًا، في حين أن ما يحدث في الميدان مختلف تماما و لا أحد يكترث له بالرغم من حجمه الكبير.

متى نتعلم؟

الفريق الثاني (مؤسس منظمة Apply Synergies) الذي يتكون من شخصين (Conrad Gottferdson & Bob Mosher) ويعمل في الولايات المتحدة الأمريكية. أحدهما (Conrad Gottferdson) يملك دكتوراه في سيكولوجية وتكنولوجيا التعليم وأكثر من ثلاثين سنة بحث و خبرة في هذا المجال، والآخر (Bob Mosher) يملك كذلك أكثر من ثلاثين سنة خبرة في مجال التدريب والتطوير وهو رئيس قسم التدريب والتطوير لدى شركة Microsoft سابقا.

يركز هذا الفريق عمله على ما يسمى الخمس لحظات للحاجة للتعلم (The 5 Moments of Learning Need) وهي تدل على ما يلي:

- الحاجة إلى تعلم الجديد (Learn New).

- الحاجة إلى تعلم المزيد في موضوع معين (Learn More).

- الحاجة إلى تطبيق ما تعلمناه أو تذكر كيفية تطبيقه (Apply).

- الحاجة إلى تعلم (Learn)، ترك (Unlearn) وإعادة تعلم (Relearn) أمر ما كنتيجة عن حدوث تغيير معين (Change).

- الحاجة إلى تعلم حل مشكلة معينة (Solve).

يقول هذا الفريق أن العاملين والمختصين في التدريب والتطوير يركزون كثيرا على الحاجتين الأولى والثانية (تعلم موضوع جديد و تعلم المزيد أو Learn New & Learn More) وهو ما يقابل ما يصطلح على تسميته التعلم الرسمي (Formal Learning) كما أشرت له من قبل. 

أما بالنسبة إلى ما تشمله الحاجات الثلاثة الأخرى (Apply, Solve & Change)، فيطلق عليها هذا الفريق إسم تدعيم الأداء (Performance Support) أو التعلم في سير العمل (Workflow Learning). في حقيقة الأمر لا أدري من أخرج هذا المصطلح الأخير أولا، لكنه أحدث ضجة كبيرة جدًا في السنوات القليلة الماضية. كاد أن يصبح علامة تجارية بحد ذاتها. (ملحوظة: هناك بالفعل علامات تجارية أطلقت على بعض المصطلحات القريبة جدا من هذا المعنى).

بالعودة إلى نموذج 702010 وكيف تدمج الخمس لحظات للحاجة للتعلم في إطاره، يمكن قراءته كالتالي (يمكن الرجوع إلى الصورة الملحقة) :

- لحظتيْ تعلم الجديد و تعلم المزيد (Learn New & Learn More) تقابل نسبة 10% التي تمثل التعلم الرسمي (Formal Learning).

- لحظة التطبيق (Apply) تقابل نسبة 70% التي تمثل التجارب اليومية في خلال العمل، أي أننا نقضي جزء لا بأس به من اليوم في تطبيق أمور تعلمناها أو في تذكر هذه الأمور لمحاولة تطبيقها.

- نسبة 20% -التعلم مع الآخرين- تتوزع على جميع اللحظات الخمسة ولكن بنسبة غير منتظمة. في العادة نسعى إلى طلب يد المساعدة من الآخرين لمّا تصبح الأمور حساسة أو حرجة. في حين أن طلب يد المساعدة عادة ما يكون غائبا لمّا تكون الأمور سهلة وبسيطة أو تحت السيطرة.

 مثلا، إذا ما وقعنا في مشكلة و وجب حلها (Solve) تكون حاجتنا للآخرين كبيرة. مثال آخر، إذا فرضت المنظمة تغيير طارئ في موضوع مهم جدًا (Change) تكون حاجتنا للآخرين كبيرة كذلك. في المقابل، تعلم موضوع جديد (Learn New) أو تعلم المزيد فيه (Learn More) لا يستدعي الحقيقة مساعدة الآخرين، خاصة في وقتنا الحاضر أين تتوفر المعلومات و بنوعية جيدة بكثرة على الإنترنت. بالمناسبة، عادة ما يشار إلى التعلم مع الآخرين بالتعلم الإجتماعي (Social Learning).

في الختام، تعليق سريع على أهمية هذه الأعمال.

الحقيقة يبدو الأمر معقولا جدا (it makes sense كما يقال) لمّا تقع عيناك على هذه الأعمال من الوهلة الأولى. تعلم المزيد يجعلك تتأكد من قوة هذه النماذج و الطرائق. تطبيقها يتيح لك إمكانية صنع تأثير أكبر (Make Bigger Business Impact)، لأن التأثير الحاصل اليوم عبر الفعاليات التدريبية التقليدية -كما هو معلوم- لا يزال بعيد جداً عن سقف تطلعات الأفراد، الفرق و المنظمات.

أفتح قوسين فقط لتوضيح ماهية الفاعليات التدريبية التقليدية: هي كل ما يشرف العاملين وأهل الإختصاص في ميدان التدريب و التطوير على إنتاجه وإدارته في وقتنا الراهن من دورات تدريبية، تعليم إلكتروني، تحاضر عن بعد، الخ.

 كل هذا أصبح تقليديا في عالم اليوم، لكن لا يعني ذلك بتاتا التخلي عنه. تبقى هذه الأمور مهمة ولكن هناك ما هو أكثر أهمية منها.

أدرس الموضوع باهتمام شديد منذ مدة الآن. اكتشفت نموذج 702010 لأول مرة منذ أكثر من خمس سنوات واكتشفت الخمس لحظات للحاجة للتعلم منذ سنتين تقريبا. سمعت عن العديد من المبادرات التي أطلقت هنا وهناك من طرف شركات عالمية (لا نزال في مرحلة Early Adopters)، لكن لا يزال الطريق طويلا نوعا ما لرؤية هذه الأمور مجسدة في الميدان في مجال واسع ومعقول (الوصول إلى مرحلتيْ Early Majority & Late Majority).

أعتقد أن مستقبل ميدان التدريب و التطوير يكمن في التحول السريع نحو هذا الإتجاه. في المقابل، أهم نقطة يجب التركيز عليها حالا هي المقاومة الكبيرة من العاملين وأهل الإختصاص أنفسهم. جهد كبير يجب القيام به في هذا الصدد بهدف تغيير العقليات. 

في جميع الحالات، سيفرض التسارع الرهيب في عالم الأعمال على هؤلاء التكيف مع هذه الحقيقة والإسراع في إيجاد حلول جديدة تستجيب لما يفرضه من تغيير سريع. لاحظ فقط ما صنعته أزمة الكورونا في الأشهر الثلاث الماضية. توقفت الدورات التدريبية التقليدية (Classroom Training) تماما وربما سيتستمر الوضع على حاله لأشهر طويلة أخرى.