الفكر والثقافة والعلم والمعرفة دعائم مجتمعة ضرورية لتحقيق النهضة وفهم برامج العمل للوصول لها. ولئن أخفقت الأمة منذ زمن في بناء منظومة فكرية ثقافية تخرجها من هذا التيه، وهذه المتاهات المظلمة، فلا يعني هذا بحال أنها عاجزة عن إدراك ذلك، فإذا توفرت الأسس الموضوعية والتاريخية، وتشكلت أوجه الصراع الحضاري، من خلال الفهم لحركة التاريخ وفقه السنن القرآنية، والتاريخية، فذلك كفيل بإخراج جيل متمكن، يفقه الأمور، ويمسك بزمام المبادرات الحضارية، ويساهم فيها ليكون رائدا ونبراسا يهدي العالمين للرسالة السماوية العامة.

والنفس البشرية، والمسلمة بخاصة، تقرأ آيات الله في الكون، لأنه خلق الله، وتقرأ كتاب الله تعالى لأنه قائله ومنزله، والقراءتان متطابقتان، لا يختلفان ولا يتعارضان، ومِنهما يتشكل الوعي الحضاري، والسنني، وهذا الذي فشلت فيه الأمة منذ زمن، مع أن القرآن ينطق بقول الله تعالى 

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) [سورة فصلت الآية: 53]، فأخبر الله أنه سيوري الناس في أنفسهم وفي الآفاق، من الآيات العيانية المشهودة المعقولة، ما يبين أن الآيات القرآنية المسموعة المتلوة حق، فيتَطابق العقل والسمع، ويتفق العيان والقرآن، وتصدق المعاينة للخبر).

من هنا نتحقق أن النظر في الآيات الكونية، وآيات الوحي، تنتج عقلا واعيا منفتحا، ينطلق في بناء أسس الحضارة الإسلامية وفق المنهج الآفاقي والمنهج النبوي القرآني. من هنا نقول بأهمية بناء المفكر، الواعي لمنظومة الفكر العالمية، والمُتفاعل معها، والمؤثر فيها من داخلها، لأنه يحمل ثقلا فكريا يعجز الآخرون أن يأتوا بمثله، هذا ما يحدثنا به التاريخ!

فعمل المفكر قد ينصب في الملائمة بين شتات الأفكار، وجعلها في منظومة واحدة، ذات أسس ثابتة وبوتقة فكرية تشيد على الأصول.

وكذلك في صوغ نظريات علمية اجتماعية نتيجة القراءتين، تساهم في بناء حضارة الدين، ويتمكن من وضع أسس البناء الذي يستمده من فقه ووعي العلماء الأبرار.

فعمل المفكر إذن ينحصر في: 

  1. البناء الفكري.
  2.  النقد الفكري.

وهذا ما فعله على سبيل المثال الشافعي في الرسالة، وابن حنبل، والبخاري في أعماله، وتجلى ذلك في ابن تيمية في صياغة مشروعه الفكري العظيم "درء تعارض العقل والنقل"، وغيرهم.

بناء المفكر

نحن نريد اليوم المفكر الملتزم، الحامي عن حياض الشريعة المعتز بدينه وتاريخه، وفي رأيي هناك عوامل أو أسباب جوهرية ودقيقة للبناء منها:

1- قراءة الوحي، وفهم حركة اجتهاد السلف، وبناء منْظوماتهم

"الوحي"، ونعني به الكتاب والسنة، وقد تدخل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وهنا نعني قراءة الوحي في ضوء حركة الرسول صلى الله عليه وسلم، في اكتشاف مكنون كلمات الله تعالى، لأنه كان خلقه القرآن، كما ذكرت ذلك عائشة رضي الله عنها، فحركته صلوات الله عليه هي الفقه الأمثل للفهم القرآني، ومنه انطلق الفقه ليتشكل في عقول السلف من الصحابة إلى من بعدهم، ولهذا نرى كلامهم رحمهم الله، كأنه قواعد وأسس، لا تعقيد فيه ولا إطالة ولا حشو.

قراءة الوحي قراءة مستنيرة بفقه السلف، الواعية للواقع المعيش، المدركة لسنن التاريخ التي لا تحابي أحدا، هذه القراءة المستكشفة للسنن (ومعرفة شروطها، وخصائصها، يجعل الأمور التي تخضع لهذه السنن في نطاق التسخير، لنا نحن البشر)، والله يقول (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وهذ أمر مطلوب من هذا التسخير، وهو التفكر في هذه الآيات بعد رؤية التسخير الشامل في الكون، هذا التفكر الذي ينتج الفكر، الصالح النافع لتجاوز الأمة الحضارية في الآفاق والأنفس والعالمين.

آيات التسخير في القرآن، تحتاج إلى تأمل وتفكر وتدبر، وهذه بعضها

(ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [سورة الرعد الآية: 2]

(وسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) [سورة ابراهيم الآية: 32]

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ )[سور ابراهيم الآية: 33]

(وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [سورة النحل الآية: 12]

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) [ سورة النحل الآية: 14]، وغيرها كثير في كتاب الله، لينظر المفكر المسلم في الآفاق، وفي تسخير الله تعالى لهذه المخلوقات، وكيف كان تسخيرها للاستفادة منها وصياغة القوانين العامة في الكون وفي الأنفس!

نريد من القراءة قراءة تخرج الأمة من هذا التيه المضروب عليها من قبل نفسها ومن قبل الغير، حتى أصبحت حسب تعبير مالك بن نبي لها قابلية الاستعمار، ولا يكون الخروج إلا بقراءة الوحي ومن ثم النظر إلى الأنفس والآفاق.

ومما يعين على ذلك كثرة النظر في تفاسير السلف وأقوالهم في الآيات، وبخاصة الصحابة، والمعين على ذلك هو تفسير الامام ابن جرير الطبري رحمه الله، لكثرة ما فيه من فقه السلف وكلامهم.

2- القراءة

ونعني بها القراءة المنهجية للعلوم الشرعية أولا، ثم العلوم الأخرى المعينة، أو التطبيقية وغيرها، هذا جانب مهم جدا في بناء المفكر، وهناك جانب آخر لا بد منه، وهي القراءة النقدية، التي تحلل وتفسر وتصوغ، وتنقد ببصرة حادة، ولا تتلقى كل شيء، بل يكون لها ميزان عدل في الفهم والاستقبال.

ولا يمكن أن تبنى أمة، ويكون دخولها إلى عالم الحضارات منافسة ومزاحمة إلا بالقراءة، فقد كان أول صوت طرق أذني رسولنا صلى الله عليه وسلم، هو هذه الآيات (اقرأ باسم ربك الذي خلق) [سورة العلق الآية: 1]، قراءة مستعينة بالرب الخالق المتصرف في الخلق، والتي أعطت المستمع التصور الحقيقي للأَنفس والآفاق، (خلق الإنسان من علق..) [سورة العلق الآية: 2]، وتاريخنا حافل بالعلماء من كل حدب وصوب، وقد كانت القراءة السديدة والمُمنهجة والناقدة هي الطريق الموصل.

3- رصد حركة التاريخ لاستنباط السنن

كما فعل ابن خلدون، وأخرج مقدمته التي لم يُضارعها كتاب في فقه السنن التاريخية، ومن يقرأ تاريخ ابن خلدون وحركته وطموحه وتقلباته وسجنه وتقَلده المناصب، ثم تفكيره والاستفادة من كل ذلك في كتابة المقدمة، يدرك تماما ما للنظر في التاريخ من أهمية قصوى في ذلك، ويدرك أن التاريخ من فقهه حق الفقه، سيعمل لا محالة للدخول في السلم الحضاري للأمم، وسيكون ذا عقل واسع عميق في التحليل والنظر.

هذه هي عوامل بناء المفكر المسلم، واعتبر هذه القضايا من أصول البناء، وقد يكون شيء تابعا غيرها، ولكن لا يمكن بناء نهضة بتجاوز هذه القضايا الثلاث، لأنها مرتكزات البناء الفكري الحضاري.